الخميس 26 سبتمبر 2024

أتاتورك كان أحد رواد مسرحها.. منيرة المهدية السلطانة الوطنية

أتاتورك كان أحد رواد مسرحها.. منيرة المهدية السلطانة الوطنية

ثقافة21-9-2022 | 20:14

دعاء برعي

كانت أم كلثوم تحلم في بداية حياتها الفنية بالوصول إلى مرتبة منيرة المهدية في الغناء والطرب، ومحمد عبد الوهاب يحلم أن يشاركها بطولة أوبرا كليوبترا ومارك أنطونيو، فسلطانة الطرب صاحبة "أسمر ملك روحي". 

كان صوتها يملأ الآفاق، ولحن لها أساطين التلحين في ذلك الزمن: سيد درويش، وزكريا أحمد، وسلامة حجازي، ومحمد القصبجي، وداود حسني، وكامل الخلعي، احتفت بها جماهير ليبيا، وتونس، ولبنان، وسوريا، وإيران، والعراق، وتركيا، احتفاءً منقطع النظير وقتئذ أوائل القرن العشرين، ومسرحها في مصر كان ملتقى الساسة والأدباء والمفكرين، احتفى بها باي تونس، وسلطان لحج، ومؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، فكان أتاتورك أحد رواد مسرحها في القاهرة، حتى إذا زارت تركيا كان في مقدمة جمهورها وتقدمت لتصافحه، فوجدت تلك الراقصة التي كانت تشاغله في القاهرة زوجة له، لتحذره من مجرد إقامة علاقة معها بل وحاولت إبعاده عنها! غنت منيرة أمام أتاتورك وعندما أسدل الستار صرخ بألا تنزل منيرة، ويرفع الستار مرة أخرى لتظل منيرة تغني طوال الليل وأتاتورك في نشوة وذهول.

قدمت منيرة عددًا من الأوبرتات والروايات والاستعراضات الناجحة منها: أوبرا كرمن، اقتباس وترجمة فرح أنطوان، ولحنها كامل الخلعي، وأوبرا تاييس، وأوبرا كيلوباترا، ومارك أنطوان، وأوبرا عايدة تأليف سليم نقاش، ورواية روزينا أو العابثة بالرجال، ورواية كلام في سرك، ورواية البريكول، ورواية الغندورة التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه ماريو فولير.

ويذكر أنها أول من اعتلت خشبة المسرح من المصريات ولكن اعتلتها وقتئذ في ملابس الرجال، فقد كان أول ظهور لها فى دور رجالي في مسرحية لعزيز عيد، حيث كان ظهور النساء المسلمات على المسرح آنذاك من المحرمات، وكانت الأدوار النسائية تلعبها اليهوديات، وكان ظهور منيرة المهدية ـ حتى فى دور رجالي ـ بداية للاستعانة بالمصريات في المسرح.

تعرضت منيرة لكثير من النقد حول قيامها بأدوار الرجال، كذلك تعريب الأوبرتات إلي العربية، واستعمالها لبعض الألحان الأصلية خاصة من الأقلام التي تلقت ثقافتها في الغرب وسبق أن استمعوا إلى هذه لأوبرات والأوبرتات الأجنبية، ومن بين هذه الأقلام الناقد والرائد المسرحي محمد تيمور.
  
لكنّ أطرف ما ترويه المؤرخة الموسيقية والفنانة رتيبة الحفني في كتابها (السلطانة منيرة المهدية ـ والغناء في مصر قبلها وفي زمنها) الصادر عن دار الشروق بالقاهرة هي أن منيرة التي كانت تلعب دورًا سياسيًا وطنيًا سواء بالأغنية أو على المستوى الشخصي الذي تمثل في استخدام قربها من السلطة السياسية والإفراج عن السجناء السياسيين (المقاومين للاحتلال البريطاني لمصر)، وتذكر أنها ذهبت للمعتمد البريطاني في داره لتطلب منه أن يفرج عن سجين سياسي أُلقي القبض عليه في الأحداث التي مهدت لثورة 1919، بعد أن أكد لها رئيس الوزراء أنه لا يستطيع الإفراج عنه، فرحب بها الرجل ـ المعتمد البريطاني وكان الحاكم بأمره في بر مصر وقتئذ وحتى قيام ثورة يوليو 1952 ـ وبادرته قائلة: إنني بحاجة إلى خدمة لا يؤديها لي غيرك. وقال المعتمد البريطاني: وما هي الخدمة؟ فأجابته منيرة: هناك سجين سياسي يدعى محمود جبر أريدك أن تطلق سراحه على الفور.

وبعد تفكير عميق، قال لها المعتمد البريطاني: لقد علمت أنك سعيتِ لإطلاق هذا الرجل مرارًا وتكرارًا وإني لأسأل ما الذي يدفعك إلى ذلك؟ هل تحبينه؟ هل تودين الزواج به؟ إذا كان هذا هو السبب فإنني على استعداد لتحقيق رغبتك وإلا فإني آسف.. فهو رجل خطير ولا يسعني التفريط فيه بهذه السهولة! وأطرقت منيرة تفكر بإمعان وروية فيما قاله المعتمد البريطاني، صحيح أنها كانت تستلطف محمود جبر، وهو أيضا كان يبادلها الاستلطاف بمثله، وكان يتردد على مقهى نزهة النفوس من حين لآخر لكي يستمتع بسماع صوتها العذب وهو يشدو بأجمل الألحان، ولكن الإعجاب وإن كان من الطرفين فإنه لم يصل يومًا إلى مرتبة الحب الذي هو مقدمة طبيعية لأي زواج.

وبالرغم من معرفتها لذلك، فقد كان عليها أن تحزم أمرها، تقرر إما الزواج من محمود جبر، وإما تركه مرميًا في غياهب سجون الإنجليز.

قالت منيرة: الواقع كما استنتجت أنه الرجل الذي سيصبح زوجي، هل لك أن تطلق سراحه؟

فأجابها المعتمد البريطاني قائلا بدهاء الإنجليز: ولكن بشرط واحد هو أن يتم الزواج حالًا، وأمامي، وقبل أن تخرجا من هذه الدار، ووافقت منيرة واستدعى المعتمد البريطاني المأذون، ثم جيء، بمحمود جبر، ليعقد قرانه على منيرة المهدية بشهادة اثنين من موظفي دار الحماية البريطانية.

وأيام ثورة 1919 غنت منيرة العديد من الأهازيج الوطنية التي تحث على الانتفاضة وجمع الشمل والوقوف صفًا واحدًا، ومن بين الأغاني أغنية خاصة بالزعيم سعد زغلول باشا، ولم يكن يهز المصريين شيء في ذلك العهد بقدر الكلام من زعيم ثورتهم، تقول كلمات الأغنية: 
شال الحمام حط الحمام
من مصر لما السودان
زغلول وقلبي مال إليه
أنده لما احتاج إليه
يفهم لغاه اللي مال إليه
ويقول حميحم يا حمام
عشق الزغاليل غيتي
وحبهم من قسمتي
حبيت كتير يا فرحتي
والناس عوازل في الغرام

والمقصود بـ "زغلول" الزعيم سعد زغلول وليس حمام الزغلول، كان سعد زغلول مغضوب عليه من الإنجليز، لذلك أخذ مؤلف الكلمات التحايل عن ذكر اسمه في صياغة تحت ستار التغني.  

وانتشرت الأغنية وأصبحت على كل لسان المصريين فلاحين وباشوات، حتى تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني تحديًا لأمر قائد جيوش الاحتلال الذي أصدر أمرًاعسكريًا بسجن كل من يذكر اسم زعيم الثورة سعد زغلول ستة أشهر مع الشغل وجلده عشرين جلدة.

الكتاب في جزئين الأول عن الحياة في شوارع مراكز الإشعاع في المجتمع المصري وعلى رأسها شارع عماد الدين وشارع محمد علي، وألوان الغناء في ذلك الوقت وعصر الشيخ سلامة حجازي ودور الغناء في ثورة 1919 ويحمل ثمانية فصول.

والجزء الثاني خاص لمنيرة المهدية في المسرح الغنائي، وفي السياسة، ورحلاتها الفنية، وأعمالها.