سؤال العبث ليس وليد القرن العشرين، ليس مسألة تخص الإنسان المعاصر وحده، فالعبث شأنه شأن كل المشكلات الوجودية يرتبط بوجود الإنسان في العالم، وليس بحقبة زمنية دون أخرى، ولذلك فإن أسئلة مثل: ماذا تعني الحياة، ماذا يعني الميلاد، ماذا يعني الموت، ماذا يعني الوجود، ماذا يعني العدم، ماذا يعني المكان، ماذا يعني الزمان، ماذا يعني الإنسان؟ ثم ما قيمة هذا الوجود، ما هدفه، ما غايته، ما مغزاه، ما غرضه؟
انطلاقًا من هذه التساؤلات تأتي رؤى وأفكار هذا الكتاب "فلسفة العبث" للدكتور حسن حماد أستاذ الفلسفة وعلم الجمال الذي يقول في كتابه: "مثل تلك الأسئلة، وغيرها سألها من قبل بشر كثيرون قبلنا، سألها أجدادنا الأوائل، سألها أناس من مشارب مختلفة: المغامرون، الفاتحون، العاشقون، المبدعون، سألها الشعراء والفلاسفة والمتصوفة. سألها "سيزيف" وهو يحمل صخرته صاعداً إلى أعلى الجبل، وتتدحرج الصخرة، فيعاود "سيزيف" المحاولة دون توقف، دون استسلام، دون يأس، دون أمل! الصخرة ما زالت تتدحرج، و"سيزيف" ما زال ينتظر صخرته حتى تسقط ليحملها من جديد. لحظات الزمن ما زالت تتوالى: ماضي، حاضر، مستقبل، و"سيزيف" لا يدرى هل هو شاخص فى الزمن الماضى، أم الحاضر، أم المستقبل، أم أنه خارج الزمن، أم أنه يحيا فى وهم صيرورة الزمن؟ يبدو أن "سيزيف" سيظل صامتاً صامداً حتى تخور قواه، ويسقط إلى جانب الصخرة جثة هامدة!".
ويؤكد الدكتور حسن حماد أن هذا البحث هو محاولة للإجابة عن تلك الأسئلة، وهى إجابة تستوحى آراء الفلاسفة والأدباء الذين شغلتهم أزمة الوجود الإنساني. وليس هناك أكثر من فلاسفة الوجودية إنشغالاً بمثل هذه الهموم الفكرية. وأن هذا البحث معني بمناقشة مفهوم العبث فى الفكر الوجودي المعاصر، وكذلك فى الفن العبثي. حيث المقصود بالفن العبثي في سياق هذة الدراسة نوعان من الفن: الدراما والرواية، والواقع أن دراما العبث بدأت كظاهرة من ظواهر الحرب العالمية الثانية، ثم صارت فيما بعد تياراً فنياً له مكانته وله كتابه ونقاده ومريديه.
وفي هذا الكتاب يتوقف أستاذ الفلسفة وعلم الجمال عند بعض زعماء المسرح العبثي خاصة "صموئىل بيكيت"، و"أوجين يونسكو" وهما من أهم وأعمق كتاب العبث في نظره، ولأن الأدب الوجودي كثيراً ما يختلط فى ذهن القارئ بدراما العبث يخصص الكتاب جزءًا من الفصل الثانى لمناقشة الحدود التى يلتقي فيها هذا النوع من الأدب مع دراما العبث.
وفي ما يتعلق بالفن الروائي، اتخذ الكاتب من رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ نموذجًا للحديث عن العبث فى الفن الروائي، يقول "حماد": "نجيب محفوظ بلا شك ليس غريباً على الفكر الفلسفي بشكل عام وعلى الفكر الوجودي بشكل خاص، ورواياته تطرح العديد من الأسئلة الفلسفية والميتافيزيقية التى تتطلب جهود الكثير من الباحثين، ورواية "ثرثرة فوق النيل" تتصدى مباشرة لمناقشة موضوع العبث من حيث: معناه، ومستوياته، ودلالاته، وبهذا المعنى فإن الرواية ليست مجرد ثرثرة مسلية أو تافهة، بل هى ثرثرة جادة فيها عمق الرؤية وقيمة الحكمة، ومن هذا المنظور، فإن قراءتنا للرواية لن تحفل بالأبعاد السياسية والاجتماعية لها وسوف تركز فقط على الأبعاد الفلسفية والذهنية لأبطالها".
وتكتمل الصورة في خاتمة الكتاب الذي يؤكد من خلالها الكاتب إجابة السؤال التالي: "هل يمكن للإنسان أن يحتمل العيش فى ظل العبث؟ بعبارة أخرى، لو سلمنا بأن الحياة عبث، فهل يمكن لنا أن نتخذ منه قاعدة للسلوك أو للفعل؟ هل العبث يصلح لأن يكون مثلاً أعلى أو قيمة نؤسس عليها فعلاً إيجابياً؟
ويرى "حماد" أن الأسئلة بالطبع لا تنتهى، ومثلما لا يوجد أسئلة نهائية، لا يوجد أيضاً أجوبة نهائية، وأن الأجوبة المطروحة فى هذا الكتاب لا تعكس فقط المواقف الخاصة بأصحاب الفكر الوجودي والفن العبثي، ولكنها تعكس أيضاً رؤية المؤلف وموقفه من تلك الآراء، وهى فى النهاية رؤية، مجرد رؤية تحمل كل ما تحمله رؤى البشر من قصور ومحدودية.
يقول الكاتب: " إن سؤال العبث ليس سؤال الأمس، وليس شيئاً ينتمي إلى الماضي، بل إنه سؤال الإنسان في كل زمان ومكان.. وفي زماننا الغريب الذي اختلطت فيه الأوراق وتضاربت المعاني واختفت المعايير وضاع كل شيء في لا شيء يعاود سؤال العبث الظهور مرة أخرى على المسرح الفكرى.. إن سؤال العبث هو في نفس الوقت سؤال المعنى، معنى هذا الوجود، وكاتب هذه السطور يعذبه سؤال المعنى، وهو يحاول عبر هذا الكتاب أن يتوسل ويتسول شيئاً من هذه الإجابة لدى بعض الفلاسفة والأدباء ممن أعيتهم أسئلة العبث ودوختهم دروب المعنى".