الجمعة 26 ابريل 2024

قصيدة... لامرأة لاجئة!

مقالات14-11-2022 | 18:01

أن تكون شاعراً فتلك منحةٌ ربانيةٌ ، يعرف قدْرَها كل البشر، وإن تظاهر البعض منهم بعدم المبالاة أو حاولوا الغضًّ من قيمتها والتقليل من أثرها فيتهمون الشعراء بالخيال الزائف ، لكنهم حينما يتحدثون تجدهم في ثنايا أحاديثهم تجري على ألسنتهم أبيات الحكمة ، وحينما ينفردون بأنفسهم يعترفون بالعجز عن مجاراة هؤلاء الشعراء أصحاب الحظ المتسع في الإبانة والتعبير .

وأن تكون شاعراً فتلك مسئولية كبرى ؛ لأنك لسان البشر المعبِّر عن أفراحهم وأحزانهم ، عن آلامهم وآمالهم ، وبتعبيرٍ أوجز أنت مرآتهم الصادقة ؛ حيث يقفون أمام كلماتك ، فيعترفون لك بالفضل والقدرة على قراءة صدورهم وإن لم يبوحوا به ، أقول ذلك لمعاشر الشعراء العرب ؛ الذين تخلَّى الكثيرون منهم عن قضايا أمتهم ، وانغلقوا على ذواتهم وصارت قصائدهم أسيرةً لتجاربَ وافدةٍ  ، ففقدوا الجمهور الذي غادر ندواتهم غيرَ آسفٍ ؛ بعدما كان يملأ القاعات وقوفاً ...؛ لذلك أقول لكل شاعرٍ يتلمَّس موضع خطوته الأولى : عشْ مخلصاً من أجل قضيةٍ ، وعبّرْ عنها بإبداعٍ تضمنْ لإبداعك الخلود . فكثيرون صنَّاع الشعر ، وقليلون أصحاب القضايا ، ونادرون من أبدعوا وأخلصوا لقضاياهم ، وكلما كانت القضايا إنسانية كان الإبداع أوسع أثراً وأعمق تأثيراً.... جالت هذه الخواطر في صدري ، وأنا أطالع هذه القصيدة الرائعة ، ويا للروعة ... أن تكون لشاعرةٍ أفريقية شابة ، لم تنشغلْ كما انشغل غيرها من شبابنا الشعراء بتجاربهم الذاتية وجعلوها مركز اهتمامهم مغمضين أعينهم عما سواها..تعالوا بنا نتذوَّق هذا النص الباذخ ( بيت ) للشاعرة الصومالية ( ورسان شِري )    
لا أحد يتركُ بيته
اللّهم إذا تحوّل إلى فمِ سمكةِ قرشٍ
لا تُهرعين إلى الحدود
إلَّا عندما تهرع المدينة كلُّها أيضاً مع جيرانك الّذين يركضون أسرعَ منكِ
والصبيُّ الّذي كان يرافقكِ إلى المدرسة
ذلك الذي قبَّلكِ، مبهوراً، ذاتَ مرَّة خلف المصنع القديم
صار الآن يحملُ سلاحاً أكبر من جسدِه                                                                                                                                                                      
وأنتِ تغادرين بيتك
لأنّه لم يعد يسمح لك بالبقاء.
أنتِ لا تهجرين بيتك إذا لم يكن يقذف النار تحت قدميك
والدَّمَ الحارّ في بطنك
لأنّه شيء لم تفكِّري في فعله على الإطلاق
حتَّى لو وضعوا النَصل على رقبتك
ورغم ذلك كان صوتكِ لا يزال يحمل النشيد الوطني
بينما كنتِ تمزِّقين جواز سفرك في مراحيضِ المطار
وتنتحبين مع كلِّ قطعة ورقٍ صغيرة
حتى تُقنعي نفسك أن لا تتراجع أبداً إلى الوراء
يجب عليك أن تفهمي
أنَّ لا أحد يدفع أطفاله على متن سفينة
إلَّا إذا كان البحرُ أكثر أمناً من الأرضِ القاسية
لا أحدَ يحرق أطراف أصابعه ... تحت القطارات ...وبين المقصورات
لا أحد يقضي أيّاماً ولياليَ في بطنِ شاحنةٍ ...وهو يتغذَّى على أوراق الجرائد
إلَّا إذا كانت الأميال المقطوعة أكثرَ من مجرّد سفر
لا أحد يزحف تحت سياجٍ
لا أحد يريد الموت ..أو الشّفقة
لا أحد يختار مخيَّمَ اللّاجئين ... أو السجن
إلّا إذا طلب بيتك من ساقيك أن تركضا بسرعة
تتركين ملابسكِ خلفكِ ...وتزحفين عبر الصحراء...تعبرين المحيطات
تغرقين ..فينقذوك
تجوعين ...فتتسوّلين 
تَنسينَ كبرياءكِ ...لأنَّ بقاءك حيّةً هو الأهمّ.!!

وبمجرد أن نذكر أن الشاعرة صوماليةٌ ، تستحضر الأذهان مأساة الشعب الصومالي وأخبار التفجيرات التي تتوالى بصورة شبه يوميةٍ ؛ ليظل هذا الدم العربي الأفريقي يجري مثلما يجري في العراق وسوريا واليمن وليبيا وقبل هذي الجراح النازفة حديثاً ، تأتي مأساة فلسطين ، والمدهش أن الشاعرة تتجاوز الثلاثين عاماً بقليل لم تولد في الصومال لكن في كينيا وهاجرت مع أبويها إلى بريطانيا في عامها الأول ؛ لتتجول بشعرها في دول كثيرة مثل إيطاليا وألمانيا وأمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا وكينيا ويتم ترجمة أعمالها إلى العديد من اللغات وتحوز الكثير من الجوائز مثل ( جائزة جامعة برونل للشعر الأفريقي المخصصة لشباب الشعراء ) كما اختيرت ( أول شاعرة بلاط ملكي صغيرة بلندن ) و ( شاعرة أستراليا عن ولاية كوينزلاند )...

يبدأ النص الثري بجملة قصيرة قِصَر المسلَّمات البدهية لكنها تستثني منها دوافع ترْكِ الإنسان وطنه المتمثل في بيته الصغير دلالة على مابينهما من لحظات حميمية وأحلام تتتردد ؛ لتوالي الشاعرة تفصيل هذه الدوافع من خلال التجريد ، حيث تخاطب ذاتها التي تأبى الرحيل من خلال عرضٍ مبسطٍ لضياع الطمأنينة والأمان اللذين بفقدهما تهاجر الكائنات تاركة أوطانها ، فإذا طاردك في عمق بيتك فَمُ قرش والجميع مثلك يفر ما الحل ؟!!إذا جنّدت الفئات المتصارعة الأطفالَ يمسكون ببنادقهم غير آبهين بقتلاهم ولو كانت براعم  عاطفة بينهما ، بين الصبي القاتل وحبيبته التي قبَّلها يوما ما ما الحل؟!! ، إنها المأساة البشعة لمستقبل يزداد سوادا ؛ لتتصاعد التعبيرات المكثفة عن حالة التهجير بعدما صار البيت ( الوطن )أداة قتل وترويع ، يحدث ذلك ولم تزل الأنفاس تحمل النشيد الوطني لكن الأيدي تمزق جواز السفر آخر علاقة بين المهاجر والوطن حتى لا يكون هناك مجرد تفكير في العودة ،تحاور الشاعرة ذاتها المنتحبة لتصل بها إلى الاستسلام فالبحر أكثر أمنا ، وكذلك وسائل الانتقال من قطارات وشاحنات ،وليس سوى ورق الجرائد وكأن الكلام لم يعد يجدي إلا إذا أشبعت الجرائد البطون الخاوية !! وليس في التخفي لحظة عبور الحدود سوى الموت ، أو مخيم اللاجئين المثير للشفقة ،أو السجن ... ويالها من خياراتٍ قاتلة!! ، طالما أن بيتك ( وطنك ) يطالبك بالرحيل عاريةً ، دونما عونٍ سوى الزحف على الرمال الحارقة ، وعبور المحيطات بأهوالها ، ولن تجدي أيتها النفس الهاربة الجنة الموعودة في هذه الدول المدعية احترامها حقوق الإنسان ، وليس أمامك سوى التسول ونسيان الكبرياء.

يدهشنا النص بمنمنماته ومفرداته البسيطة القائمة على استخدام المحسوسات ، لحظة التعبير عن الأخطار الدافعة إلى قرار الهجرة ، والبراعة في إدارة الحوار النفسي دون وقوع في أسْر الغنائية المفرطة مع الاعتماد على الاستثناء الناقض لما قبله من مسلمات ، وكأن الشاعرة تقول لذاتها : أنا معك ...لكن ما الحل ؟!!  والمدهش أن الشاعرة لم تمر يوما بما حكتْه ، لكنها كتبتْ اعتماداً على تجارب أقاربها وأفراد عائلتها فتقول في تفسير ذلك ( أنا أنبش كثيرا في الذاكرة ؛ ذاكرتي وذاكرة أشخاص آخرين محاولةً في الأساس أن أجد معنى للأشياء ) لأنبش في ذاكرتي معها ، ويطفو أحد مقاطع قصيدتي ( العصافير والوطن ) أقول فيه : توهمْتِ أن العصافير حين تعشّش...  تملكها الأرض ... تأسرها الذكريات فكيف تهاجرْ!! وقد علَّمتْها سياط التجارب .. أن العناكب حين تحاصر أحلامَها الخُضْرَ ... ألا تقامرْ فليس لديها سوى أن تطير مع الريح حينا... وطورا تغامرْ  تحطُّ على صفحة البحر....  يمتد بالرحلةِ العمرُ.. تنسى العصافيرُ معنى الوطن !!!

Dr.Randa
Dr.Radwa

الاكثر قراءة