لا يأتي ذكْر ساحل العاج أو (كوت ديفوار) إلا ويتبارى الجميع في استعراض أساطيرها الكروية، وفي مقدمتهم (دروجبا ورفاقه منتخب الأفيال) وكيف كانت مبارياتنا معهم غايةً في الإمتاع والإثارة، هذه النظرة القاصرة أرادها الغرب لنا؛ كي لا تتجاوز أنظارنا خطّاً مرسوما بعناية، أو تتجول أذهاننا في مناطق يحاول أن يتجاوزها بالتناسي؛ كي لا ينكشف وجهه القبيح سواء في تجارة العبيد ( كانت ساحل العاج من خلال قلعة على المحيط الأطلسي مركز التجميع والنقل) أو في نهب ثروات أفريقيا أثناء الاستعمار، وبعد الاستقلال بتنصيب المتواطئين، والاحتفاظ بوجود عسكري يضمن التدخُّل إذا لزم الأمر.
ولأني في المقال السابق قد نوَّهتُ إلى أن قصيدة (أشكرك يا إلهي) للشاعر الإيفواري الكبير (برنارد دادييه) الشهير في الأوساط الأدبية الأفريقية والعالمية ب (فيكتور هوجو الإيفواري) ستكون مجال عرضٍ ؛ نظراً لأنها تؤكد ما أرمي إليه من أن الأفارقة لا يستشعرون نقصاً من سواد بشرتهم ؛ بهذا افتخر وتباهى الشعراء ، فإلي براح النص و... (أشكرك يا إلهي) !!
أشكرك يا إلهي ... لأنك جعلتني مجموع كل الآلام، لأنك وضعت على رأسي العالم.
لدي حُلّة سنتور ... وأنا أحمل العالم منذ الصباح الأول.
الأبيض لون المناسبات ...الأسود اللون اليومي
وأنا أحمل العالم منذ الليلة الأولى. * * * *
أنا سعيد ...بشكل رأسي المصنوع لحمل العالم
راضٍ ... بشكل أنفي الذي يستنشق كل رياح العالم
سعيد ... بشكل ساقي الجاهزتين لتركضا كل مراحل العالم.
* * *
أشكرك يا إلهي لأنك خلقتني أسود ... لأنك جعلتني مجموع كل الآلام.
ستة وثلاثون سيفًا اخترقت قلبي... ستة وثلاثون موقدًا حرقوا جسدي.
ودمي على كل المحن جعل الثلج أحمر... ودمي في كل شروق جعل الطبيعة حمراء.
على أية حال أنا سعيد أن أحمل العالم،
سعيد بذراعيّ القصيرتين ... بذراعيّ الطويلتين ..من ثخانة شفتي.
* * *
أشكرك يا إلهي لأنك خلقتني أسود،
الأبيض لون المناسبات ... الأسود اللون اليومي
وأنا أحمل العالم منذ فجر التاريخ...وضحكي على العالم، ليلًا، يخلق النهار.
* * *
ننطلق هنا مع الشاعر من العنوان ودلالات أولى عتبات النص ، إذ أن العنوان يتدخل في تشكيل النص الشعري ، فالشاعر يدخل نصه من عتبةٍ طريفة (شُكْر الله على بشرته السوداء)، ويُقدّم الشكر من خلال سياقه الشعري القائم على الصراع في مواجهة اللون الأبيض أو قُلْ الصراع مع الآخر صراعاً قائماً على التمييز اللوني ، مما يمنح النص حيوية واستثمارا لاتساع الدلالات التي تسمح بقراءات ذات مستويات متعددة ، فاليدان القصيرتان أو الطويلتان مجال فخرٍ وكذلك الشفة الثخينة والأنف المتسع.. كل هذي السمات الجسمانية تبدو عند (برنارد دادييه) دلالات رفعة في خطابه الشعري تؤسس في مواجهة الآخر نسقاً لم يعتده الإنسان الأبيض الذي اعتاد سماع النصائح بتبنِّي المساواة.
يقوم النص الشعري على مرتكزين يحدِّد من خلالهما إطاره المحدَّد ب ( الفخر ) بلون البشرة الأسود الذي يحدد من خلاله الشاعر هويته الإنسانية، وكذلك يبدو المرتكز الآخر محدداً ب ( الشكر) لله على هذه النعمة. ولذلك تكرر التركيب ( أنا سعيد / أنا راضٍ ) ولذلك يُعْلِي الشاعر من قيمة لون بشرته مقابل اللون الآخر بطول القصيدة، وهو إعلاء رِفعةٍ من ظاهر مفرداته، ولكنه يضمر تحت سطح المفردات صراعاً مستمراً، وهُويةً يحاول الشاعر إعلاءها في مواجهة الآخر، يبدو ذلك جلياً في الكثير من تراكيبه ومفرداته: (منذ فجر التاريخ وأنا أحمل العالم فوق رأسي / الأسود لون لكل الأيام / الأبيض لون المناسبات).
إنّ الصراع هنا يقوم على التمييز العنصري اللونيّ، يحاول (برنارد دادييه) إثبات تفوقه في مواجهة الآخر، وإبراز قيمة هُويته مقابل الآخر، ليؤكد أن هذا الصراع سيظل دائراً، ويظل أحد المحاور التي يدور حولها الأدب شعراً أو نثراً دورانا ظاهراً أو مضمراً.
كان يُمكن للألوان على اختلافها أن تتكامل في نظرة الإنسان وثقافته ؛ كما تتكامل فيما حولنا كل الألوان في عناصر الطبيعة ، لا أن يؤسس عليها أشرس صور التمييز العنصري ، كان من الممكن أن تكون الألوان مصدر فتنةٍ لا باب تعصبٍ وهاوية شقاءٍ ، ومن هذه الألوان وعلى أساسها ستنشأ صراعاتٌ على مرِّ العصور والأزمان داخل كل المجتمعات وبين كافة الأمم ...!!