الإثنين 25 نوفمبر 2024

عن الكاتب والمجتمع .. تجنبا للتعلل بفوضى ما بعد الثورات

  • 12-2-2017 | 19:06

طباعة

د. عيد صالح - شاعر مصري

سوف أبدأ من حيث انتهينا في مؤتمر "الثقافة في المواجهة" في القاهرة (أكتوبر 2013) ومسؤولية المثقف عموما والكاتب بالأخص في مجتمع ما بعد ثورتين عظيمتين فاجأتا العالم بتلك الحشود الثورية التلقائية غير المسبوقة في التاريخ، وبصرف النظر عما شابهما ولا يزال من آثار حروب الثورة المضادة وفوضى ما بعد الثورات وفقدان البوصلة من بعض التيارات الثورية وانحراف البعض عن المسار إما بنرجسية وإما بانتهازية أنوية تصل حد الخيانة وإما بالهروب والتقاعس عن مواصلة الحالة الثورية بنفس الحماسة ووضوح الرؤية والمسار.

    وبصرف النظر عن الوجوه التي كانت في المؤتمر وارتباط الكثير منهم بالنظام السابق وما سمي برجال الحظيرة إلا أن دينامية وحركة المنظمين والشباب والموائد المستديرة استطاع كل ذلك أن يقلص تأثيرات وحضور رجال الحظيرة والذين وبمنتهى الدهشة بدوا متناقضين مع توجهاتهم، أكثر ثورية وجموحا في الأفكار، كما لو كانوا يدفعون تهما أو يتخلصون من دلائل الإدانات الموثقة.

   وقد تبلورت المطالب في ضرورة التواصل الجماهيري ونزول المثقف إلى الشارع وكأنه لم يكن في قلب المشهد الثوري بل كأن أغلب الحضور في المؤتمر لم يكونوا طليعة الثورة الثانية 30 يونيو 2013 بالاعتصام الشهير في مبنى وزارة الثقافة. ومع ذلك فقد عدت من المؤتمر أكثر تفاؤلا بعد أن نحيت جانبا تلك الوجوه التي لم يكن همها غير الحضور والتصوير في الفضائيات والنزوع لاقتناص المشهد واحتكار الصورة البائسة لمثقفي كل الأنظمة والعصور.

    عدت إلى قصر الثقافة بدمياط وقلت لأبدأ من هنا حيث تتشعب بيوت الثقافة الآن في المراكز والقرى وحيث إن الثقافة بيتنا ونقطة انطلاق شرعية للحركة الثقافية الجماهيرية الجادة. وتحمس معي صديقي الروائي سمير الفيل وقمنا بقوافل ثقافية متنوعة وبمعاونة جهاز الثقافة الجماهيرية التي سهلت لنا التواصل الجماهيري بالمدارس والجامعات والتجمعات الجماهيرية. وما إن بدأنا رحلتنا الاستكشافية حتى فوجئنا بمدى التجريف الذي حدث للتعليم في المدارس في القرى، فالمدرس هو خطيب المسجد في القرية هو مسؤول النشاط الثقافي والمسرحي والغنائي وتحولت المدارس بتلاميذها إلى جوقة في طقس جنائزي كنسي كهنوتي ينعى التعليم الذي افترسه منذ بعيد. وفوجئت بفتاة صوتها جميل تغني أغنية من تأليف نفس النابغة الخطيب المسرحي الملحن، تقول كلماتها "الرسم حرام الرسم حرام" وكان تحت يدي مجموعة من الرسوم البديعة لفتيات أولى وثانية إعدادي، ألوان وخطوط تشي بمواهب واعدة فقاطعتها ملوحا بتلك الرسوم. هل رسومات زميلاتك هذه حرام؟ وتدخل المدرس المعجزة بأن الأغنية قيلت في الرسوم المسيئة للرسول.

    وتدخل سمير الفيل ليقنع الرجل بأن التجاوز لا يلغي القاعدة ولا يحرم شيئا لا إثم فيه، وأن الخيال هو طريق التقدم والإبداع، وأن العلم لا بد أن تتكامل قواعده لا بد من فتح النوافذ للأرواح كي تنطلق وتعبر وتحلق وتبدع. وخلصنا للأسف إلى حقائق من داخل المدارس حيث الخلية الأولى لبناء الفرد وقد استلبت الخطيب بالملك الفرعون، يصب ضلالاته ومحفوظاته وإسرائيلياته في الإذاعة المدرسية وفي الأنشطة الفنية والمسرحية والغنائية، وما بقي لتسميع الدروس وعمل الواجب الذي لن يخرج بعيدا عن عقلية هذا المتصحر الجهم الذي تدرب ودرب جيوشا غيره في كل المنظومة التعليمية وعلى مدار سنوات النهب والفساد المباركي واقتسام اليمينين اليمين الحاكم واليمين الديني لمصر، كل يرعى في منطقته.

    كنا نظن أن نظام مبارك قد ترك للتيارات الدينية النقابات كمتنفس شرعي يرعى كوادره ويدربها فيها وتناسينا كيف كانوا خلال فترة مبارك يتسحبون في التعليم على كل المستويات، ولعل مفاجأة سرقة الإخوان للثورة وظهور كوادرها على السطح يبين حجم كارثة توغلهم في الجامعات في غياب بنية جامعية عصرية، وللأسف كان يتم ذلك تحت سمع وبصر الحرس الجامعي الذي خرب هو الآخر ونخر في بنية الجامعة.

   فأين الكاتب من كل ذلك؟ أين الروائي والقاص والمسرحي والشاعر؟ أين روح الأمة ووجدانها؟ كيف ذوى وذبل وجف عوده وتوارى خجلا كمن يمارس عملا مخجلا؟ بل لماذا ارتضى لنفسه أن يتباعد ولا يقتحم الساحات رغم أنه لم يكن مطاردا من النظام ولا على قائمة اهتماماته أصلا؟ لماذا رضي هو بدور المتفرج بانتهازية من يضمن السلامة أو لاختطاف فرصة تضعه في دائرة الحظيرة التي تخلع عليه المنح والنشر والتفرغ والذيوع؟ لماذا صمت من صمت والآن يهز كتفيه بمنطق أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟

    ثمة أنماط من الكتاب يعيشون ازدواجية الثائر والرجعي فهو تارة مع حرية الإبداع ويمنع مصادرة "وليمة لأعشاب البحر" والتي لمست وترا عقائديا وفي الوقت نفسه يصادر ثلاث روايات لمجرد أنها تعرضت لشخصية مشهورة تمثل سلطة ثقافية في كل الأنظمة. وقبل ذلك سجن كاتب رواية تافهة بتهمة التجديف، في مزايدة سخيفة من النظام لصالح سلطات دينية لا تفرق بين خيال المبدع وبين الواقع وأن التأليف الروائي يختلف عن الدراسات والبحوث، حتى هذه الدراسات والبحوث كثيرا ما يشوبها الغرض وتمتلئ بأكاذيب وخرافات بهدف بثها في مجتمعات التلقين وسلطة النصوص فيها على سلطة العقول. ولعل أسوأ ما اتسم به نظام مبارك هو تركه مفكرا إسلاميا متحررا ليحاكم بتهمة التفريق بينه وبين زوجته وليتركوا الشيخ الفاسد يهاجمه على المنابر ويجعل قضيته المعروضة في المحاكم قضية رأي عام في حين أنها في البداية كانت كما هو معروف خلافا بين نصر حامد أبو زيد وبين رئيس القسم في الكلية على ورقة الترقي وبقية القصة معروفة ترك الرجل ليهاجر إلى هولندا مطاردا من الإرهاب الديني الذي رعته الدولة كما رعاه السادات بصفقته الغبية للقضاء على الناصريين بالجماعات الدينية التي كبرت في أحضانه حتى التهمته.

    ولعل الأكثر درامية ومأساوية هي تلك المناظرة التي قامت بين الشيخ محمد الغزالي والكاتب فرج فودة في معرض القاهرة للكتاب في حضور مكثف من رجال الشيخ ورواد المعرض، وخرج الشيخ مهزوما، ولذلك قال سمير سرحان: أنا الذي تسببت في قتل فرج فودة بسماحي بالمناظرة في معرض الكتاب. والأعجب في محاكمة قاتليه أن يتداول الإعلام موضوع الحسبة في الإسلام وتطبيقها، ومن الغريب أن يشترك في حوار الحسبة الغزالي نفسه. وربما كانت الحادثة الأشهر هي محاولة اغتيال نجيب محفوظ 1994 ليتبين أن من طعنه شاب أميّ صدر الأمر له بقتله لأن محفوظ في رأي من جند الشاب للقتل كافر.

    قد يتعلل البعض بفوضى ما بعد الثورات وبكل الطفح الجلدي والبثور والنتوءات وبكل عوار وبجاحة رجال العهد البائد بيمينيه العفنين، وبأن ذلك يؤخر استيعاب الكاتب الذي لم نطلب منه أن يكون آلة تسجيل، كما لم نطلب منه أن يكون خطيبا للثورة التي تعاني انقضاض الرأسمالية العالمية بكل أسلحتها الضارية عليها، كما لا نطلب منه أن يتباعد ويتقوقع على نفسه بحجة أن الفن يجب ألا يتورط بالتحريض سلبا أو إيجابا. ومع أننا لسنا في ترف إثارة قضايا الفن للفن والفن للمجتمع لكننا كجماهير طليعية مثقفة يجب أن نتحمل مسؤولياتنا التاريخية حيال المجتمع الذي نعيش فيه، لا نريد أن نكون صورا كربونية للثوار والقواعد الجماهيرية العريضة وأن تكون هناك المساحة التي تسمح بالرؤية والاستيعاب والنقد الضروري لغربلة الثورة من الشوائب والعوالق والبثور، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نكون وسط الجماهير مشاركين كمثقفين عضويين فاعلين في توجيه ومساعدة الأغلبية في تبيان الحقيقة وتجميع الناس حول أهداف إنسانية وقيمية في ممارسة الحياة، وكما أن للكلمة سحرها في الشحن وتفجير الطاقات فللوجود الحي والحميم بين الناس والعمل على تذليل صعوبات الحياة أثر حي وباق.

    وتقوم الجمعيات العاملة في مجالات الخدمات الاجتماعية والمدنية بتوجيه الجماهير وشحنها حتي لو كان ذلك ضد سلطة الدولة التي تخلت عن دورها الاجتماعي لعشرات السنين وتركتهم نهبا للاختطاف والسيطرة بما يقدم لهم من خدمات مستمرة وقضاء حاجاتهم من الطعام والتعليم والعلاج. وعلى الكاتب والفنان ألا يكون معزولا عن جماهيره ولا متعاليا عليهم في موضوعاته وإبداعاته بالطبع لا رقيب على المبدع ولا توجيهه إلا ما يمليه داخله تجاه اللحظة الفريدة والغائمة والملتبسة. ولقد فوجئت في الفترة الأخيرة باهتمام العروض المسرحية بالنصوص العالمية التي قتلت تمثيلا وإخراجا فضلا عن بعدها عن واقع وظروف الحياة التي يطل فيها الإرهاب الأسود يقتل خيرة أبناء الوطن وكأن الفنان في واد والواقع في واد، والأمر ليس بالطبع مسحوبا على سائر الأعمال. وما قيل في المسرح ينسحب بالطبع على كل أنواع السرد والكتابات عبر النوعية والشعر. لا نحدد الموضوعات أو نفرضها لكننا ضد التغريب والضبابية والتشيؤ والعبث غير الموظف وغير المجدي.

    لسنا في ترف الثرثرة والإفضاءات الكابوسية والغموض غير الفني كما أننا لسنا بصدد كتابة مانيفستو الثورة أو الميادين ولا شعارات سقطت مضرجة بخيانة رافعيها، ويكفي للأسف نظرة على كل ما تخرجه المطابع بعد الثورة. حتى من كانت نصوصه غير مباشرة سقطت أيضا في التقريرية والسطحية والحكي، وتحولت القصائد لحكايات والقصص لأشعار ملغزة لا بحكم تداخل وتكامل ووحدة كل الفنون ولكن مجرد حل مشكلة كتابة نص حتى لو لم يعبر تعبيرا فنيا وموضوعيا عن أزمة المبدع والمجتمع. ولعل عمق المشكلة يتجلى في الحالة التي أشرنا إليها في بداية المقال من أن المدارس والجامعات قد استلبت وجرفت وأصابها الهزال والأنيميا ودخلت غرف الإنعاش من قبل الثورة.

    ومن تجليات الثورة ومفاجآتها الإبداعية التلقائية في الميادين من الشعر والغناء والمسرح والجرافيتي، بل كانت اللافتات ملمحا فنيا بجانب التصوير السينمائي والتسجيل بكل تقنيات الثورة التكنولوجية، كل ذلك أعطى حالة فنية جمالية خاصة بالثورة وفجرت طاقات مخزونة وتلمس كثير من الشباب المواهب الكامنة لديهم في شتى مجالات الإبداع. ومن دلالاتها أنها فتحت وعينا إلى أننا نستطيع أن نصنع أدبا جماهيريا بعيدا عن المؤسسة، وهو ما يجب أن نشجعه.

    رويدا أيها الحالمون الرومانسيون والمتأدلجون واللاعبون في المنتصف، رويدا أيها المتحمسون علي الجانبين والطامحون لجذب قوى المجتمع لما تعتقدون أنه الصواب، والصواب أن نكون معا في قارب إنقاذ الوطن. والآن بعد ذلك وليس قبله نختلف كما نختلف على كل النصوص بدءا من نفيها وانتهاء بمعاملتها كمعجزات إبداعية.

    أخبار الساعة