الأربعاء 15 مايو 2024

القاهرة فى آثار شيخ المؤرخين المقريزى

أبو الحسن الجمال

أخبار13-1-2023 | 13:55

أبو الحسن الجمال - كاتب مؤرخ مصرى

تعد مدينة القاهرة هي أكبر المدن العربية بما تملكه من مقومات حضارية منذ أن أسست قبل ألف وخمسين عاما، بل من عظمتها ضمت - بعد ذلك- بين أسوارها كل عواصم مصر الإسلامية مثل: الفسطاط التي بناها فاتح مصر عمر بن العاص في عام 21هـ/641م، والعسكر التي بناها العباسيون عام 132/749م، والقطائع التي بناها أحمد بن طولون سنة 256هـ/ 869م، عندما استقل بحكم مصر عن الخلافة العباسية. وعندما استولى الفاطميون على مصر في أواسط القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادى وفور مجىء جوهر الصقلى أخذ على الفور في تنفيذه تعليمات سيده المعز لدين الله الفاطمى، فوضع حجر الأساس لمدينة القاهرة، لتنافس بغداد حاضرة الخلافة العباسية فى الشرق، وقرطبة حاضرة الخلافة الأموية في الغرب الإسلامى..وقد ظلت القاهرة حاضرة الخلافة الفاطمية، وهى العاصمة التي تحولت إلى مركز لدولة بني أيوب، ومن بعدها إلى مركز لدولة المماليك البحرية والبرجية، ولم تفقد أهميتها إلا مع الغزو العثمانى لمصر عام 923هـ/1517م.


وقد حظيت القاهرة باهتمام الحكام والسلاطين، إذ كان كل حاكم يضيف بصماته إليها، حتى ازدحمت آثارها ونقوشها التاريخية، فنحن لا نجد فى أى مكان فى العالم هذا الكم من الآثار الدينية والمدنية والحربية.. وقد ألهبت القاهرة اهتمام المؤرخين والأدباء والفنانين.. فكتبوا عنها المصنفات الضخمة، وما زال الجديد عنها يضاف إلى المكتبة العربية والأجنبية كل يوم.


وفي السطور الآتية، سوف نتناول مدينة القاهرة في آثار أحد عشاقها (أحمد بن على المقريزى)، والذي تناول تاريخ القاهرة وحضارتها وآثارها وتطور خططها في كتبه العديدة على مدار أربعة قرون، وقد حفظ في كتبه نقلاً عن الكتب السابقة له والتى مازالت مفقودة، وأثبت بحق أنه شيخ مؤرخى مصر الإسلامية، وقد اعتمدنا في مقالنا هذا على مؤلفات المقريزى ومنها كتابه "الخطط"، وكتابه "مسودة الخطط"، و"اتعاظ الحنفا"، وكلها بتحقيق الدكتور أيمن فؤاد سيد، كما رجعنا إلى كتابات العلامة محمد عبد الله عنان، ومحمد كمال الدين عز الدين، والرسالة التي أعدها الباحث الأردنى مثقال عويد المهباش "تطور مدينة القاهرة فى كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".


عندما جاء شيخ المؤرخين أحمد بن علي المقريزى إلى الدنيا، كانت مدينة القاهرة قد بلغت شأناً كبيراً، فهى العاصمة لأكبر دولة في الشرق، وهى دولة المماليك البحرية، حيث يوجد بها الخلافة العباسية والتى أحياها الظاهر بيبرس، فى هذه الفترة التي تلت سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية، وتساقط المدن الكبرى فى الأندلس مثل: سرقسطة، وبلنسية، قرطبة، وإشبيلية، وماردة، وشقندة وغيرها. فهرع إليها العلماء من كل مكان يلتمسون المجد والعزة فى دوحتها الوارفة، وقد فتح المقريزى عينه على هذه الأمجاد والازدهار.. وعشق القاهرة؛ هذه المدينة الساحرة الزاهرة بمساجدها وقصورها ومتنزهاتها وبيوتها الفاخرة.. فأراد أن يترجم هذا الحب في كتبه الفريدة التي أرخت لمصر وعواصمها فى كل العصور منذ تأسيس مدينة الفسطاط بعد أن تمت عمليات الفتح الإسلامى لمصر، ومن أهمها كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، وفى تقديمه للكتاب يقول المقريزي: "كانت مصر مسقط رأسى، وملعب أترابى ومجمع ناسى ومغنى عشيرتى وحامتى وموطن خاصتى وعامى، وجوى الذى ربى جناحى في وكره، وعش مأربى. فلا تهوى الأنفس غير ذكره، لا زالت منذ شذوت العلم وأتانى ربى الفطانة والفهم، أرغب في معرفة أخبارها، وأحب الإشراف على الاغتراف من آثارها، وأهوى مساءلة الركبان من سكان ديارها".


والمقريزى هو تقى الدين أبو العباس أحمد بن على بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم، ابن علاء الدين بن محيي الدين الحسينى العبيدى، البعلبكى الأصل المصرى المولد والدار والوفاة، المقريزى الحنفى ثم الشافعى، ولد بحارة برجوان بالقاهرة عام 766هـ، وسبب تسميته بالمقريزى نسبة إلى حارة المقارزة بمدينة بالشام، وهو من أسرة اشتهرت بالعلم نزحت إلى القاهرة سعيا وراء العلم والرزق الوفير، وتولى والده بعض الوظائف المتعلقة بالقضاء وفي ديوان الإنشاء، وقد نشأ المقريزى في كنف جده ابن الصائغ الحنفى، وتكفل به وحفظه القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ثم تعلم على شيوخ عصره، وقد ذكر السخاوى - أحد تلاميذ المقريزى- بأنه تلقى العلم على يد ستمائة شيخ في مصر والشام والحجاز، من أمثال: جده لأمه شمس الدين ابن الصايغ الحنفى، والشيخ برهان الدين الآمدى، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقينى، والحافظ زين الدين العراقى، وابن حجر الهيثمى، وابن دقماق، والنجم بن رزين، وابن أبي الشيخة، ثم المؤرخ الكبير ابن خلدون الذي جاء إلى مصر واستقر بها  قرابة ربع قرن، وجلس إليه المقريزى وتأثر بمنهجه فى كتابه ومقدمة كتابه الشهير العبر.

وهذا يدل على همته العالية وغرامه بالعلم وشيوخه وسعيه وراءه في كل مكان حتى صقلت تجاربه، ثم تولى التدريس والوظائف فى القضاء وفى ديوان الإنشاء وقد كان لعمله فى ديوان الإنشاء أن أطلع على الوثائق التي كان يزدان ديوان الإنشاء بها، وقد ساعدته هذه الوثائق في أعماله التاريخية الرائعة، وقد خلف المقريزي العشرات من الكتب الكبيرة والرسائل الصغيرة.. تنوعت ما بين الكتب التاريخية الشاملة، وكتب البلدان والخطط، والكتب التى خصصها لدراسة دولة بعينها، والرسائل ذات الموضوع الواحد، وكتب التاريخ الإسلامى العام، ومن يتصفح مؤلفات الإمام المقريزى فإنه يستطيع الحكم بأنها تتسم بسمتين لا ثالث لهما: الأولى: سمة الموسوعية، والثانية: سمة التخصصية، ومنها: "عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط"، و"اتعاظ الحنفا بإخبار الأئمة الفاطميين الخلفا"، و"كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك"، و"المقفى الكبير أو التاريخ الكبير المقفى"، و"إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع"، و"رسائل المقريزى"، و"المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ويعرف بالخطط المقريزية".. وغيرها وقال تلميذه السخاوى: "وَقد قَرَأت بِخَطِّه أَن تصانيفه زَادَت على مِائَتى مجلدة كبار". توفى يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان سنة 845هـ / 1441م.

في كتابه الخطط ركز المقريزى جهده للحديث عن العمران المدنى لمدينة القاهرة التي أصبحت المركز الثقافى والسياسى للعالم الإسلامى فى هذا الوقت.. فقد عرف تعريفاً مفصلاً بكل ما يتصل بمسقط رأسه، فلم يترك أثراً أو مؤسسة إلا وصفه بدقة متناهية وحكى بإسهاب تاريخ بنائه وما طرأ عليها من تغيرات كما روى سير حياة الأمراء والكبراء الذين باشروا بناءه ودون كذلك الأحداث المهمة التي اقترنت بهذه المنشآت والتقاليد والعادات والمراسم، وينقل الدكتور أيمن فؤاد سيد عن العلامة كاترميرQuatremere  قوله عن حب المقريزى للقاهرة: "لا توجد مدينة شرقية يمكن أن تفخر بمؤلف يبلغ مرتبة "الخطط" من حيث الاكتمال والطرافة كما هو الحال مع القاهرة".

وقد تميز المقريزى بسعة الإطلاع، والاستفادة من تجارب من سبقوه من المؤرخين والجغرافيين والرحالة وهضم ما وقع لديه من آثارهم، كما استخدم مذهب المعاينة حيث ذهب إلى هذه الآثار وتناولها بالوصف، كما أن عمله محتسباً لفترة ليست بالقصيرة أفادته من الاقتراب من الشئون السياسية والإقتصادية والاجتماعية، كما لم يغفل الجوانب الحضارية، فتوفر له زاداً وفيراً، وهكذا تناول تطور مدينة القاهرة على مدار أربعة قرون منذ أن خطها جوهر الصقلي عام 358هـ /968م وحتى عصره، بين الخطط والحارات والأبواب والفئات السكانية والأسواق والتطور العمرانى، ولم يغفل الأوضاع السياسية والإدارية، وتميز بتناول أحوال الأسواق والأسعار والتنظيمات الحرفية والنقود. 


      وتعرض المقريزى في كتبه ومنها "الخطط"، و"السلوك"، و"إغاثة الأمة"، و"شذور العقود" لمدينة القاهرة، ووصف ما كان بها من مبان وبساتين وما حدث فيها من تغيرات في فترة الأيوبيين والمماليك عما كانت عليه زمن الفاطميين، فهى تتغير بتغير الدول وتقلب بتقلب الأزمنة، وقد قدم لنا المقريزي وصفاً دقيقاً لعمرانها من مبانيها وحوادثها ورجالها، وما تعرضت له القاهرة من التحولات والاضطرابات والمحن. 


 وقد تعاقب على القاهرة حتى زمن المقريزى ثلاث دول، فقد رصد المقريزى هذه التغيرات التي حصلت فيها تبعاً لتغير تلك الدول، وما رافقها من تطور في فترة زمنية طويلة تمت خلال أربعة قرون، حيث تحدث عن القاهرة كعاصمة إدارية في عصر الفاطميين، وعلاقتها بالفسطاط العاصمة الإدارية السابقة، كما تناول تطورها الإدارى في العصر الأيوبى وتأثير السياسة الأيوبية على واقع القاهرة إدارياً منذ تسلم صلاح الدين زمام الأمور وبناء قلعة الجبل وبناء سور القاهرة وإبطال مذاهب الشيعة من ديار مصر، ثم ازدهارها فى دولتى المماليك البحرية والبرجية، وتناول المقريزى أيضاً المؤسسات الإدارية فيها وأقسام موظفى الدولة من أرباب السيوف وأرباب الأقلام، والدواوين حيث تتبعها تبعاً لتغير القوى وتوجهاتها حيث شهدت الدولة المملوكية نظاماً غاية فى الدقة من حيث العدد الكبير من الموظفين من أصحاب الهمة العالية.


كما ركز المقريزي في كتبه على الأحوال الاقتصادية لمدينة القاهرة فتناول الزراعة واستصلاح الأراضي كما تناول نهر النيل وفيضانه وتأثيره على الزراعة وعن مقياس النيل وأصناف الأراضي وتناول أيضاً نظام الإقطاع والأملاك والأوقاف والمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية وعن أهم المزروعات من حبوب وقطن وأشجار فاكهة وثروة حيوانية، كما تعرض للتجارة والأسواق والقيسارات والخانات والوكالات كما تعرض للحسبة. 


كما تعرض للحياة الاجتماعية من حياة الشعب الخاصة وعادات الأفراح وتقاليدهم وأحوالهم في المعاملات، والملبس والمأكل والأفراح والأتراح، واللهو والرياضة، والجد والهزل، كما تعرض للحياة الحضارية وتطورها فوصف الحارات بدقة كما تحدث عن التركيبة السكانية، والحالة الفكرية والثقافية والمساجد والأطعمة والأشربة والاحتفالات وخصوصا زمن الفاطميين، وكذلك المرأة فى العصر المملوكى. 


 وقد استفاد المؤرخون الذين جاءوا بعد المقريزي بمؤلفاته لرصانتها ودقتها من أمثال: ابن تغرى بردى، والسخاوى، والسيوطى، وابن إياس، والجبرتى وصولاً إلى علي باشا مبارك فى كتابه "الخطط التوفيقية"، كما اهتم بكتبه العلماء الأجانب بالاعتناء بها وكانت مصدراً رئيساً لمؤلفاتهم..​

Dr.Radwa
Egypt Air