كان المذهب الرومانسى ملاذا وجد فيه الشعراء والأدباء إطارا مناسبا يخرجهم من الحديث عن الجهاد، والكفاح، والنضال ومن ثم الخروج إلى دائرة النعيم الإنسانى من أشهر الأقلام التي كتبت بغزارة في الأدب الرومانسى يوسف السباعى الملقب بفارس الرومانسية، وإحسان عبد القدوس الملقب بكاتب المرأة يزخر التاريخ بقصص الحب والعشق التي ولدت على أرض الواقع، وتحول بعضها من فرط حرارتها إلى أساطير، وظن البعض أنها من نسج الخيال يقدسه المصريون، فيحتفلون به مرتين كل عام .. إنه عيد الحب، وهذا الفيض من الحفاوة له مبرراته فى حياة المصريين، فالكل يقرأ شغف المصريين بالأعياد والمناسبات، التى بلغت بضعة وتسعين يوما فى السنة، ما بين أعياد دينية مثل عيد الفطر، وعيد الأضحى، والمولد النبوى، وعاشوراء، ورأس السنة الهجرية، ومعها بالطبع الأعياد المسيحية، بخلاف المناسبات القومية مثل عيد الثورة، وعيد النصر، وعيد الجلاء، بالإضافة لسبعة وعشرين عيدا للمحافظات، وكذلك المناسبات الاجتماعية المختلفة مثل عيد الربيع، وعيد الأم، وعيد العلم وغيرها. أمأ عيد الحب، فلم يكتف المصريون بالاحتفاء به في يومه العالمى في 14 فبراير، وهو احتفال يقتصر على العشاق، بل اختصوا أنفسهم بيوم إضافى وهو يوم 4 نوفمبر من كل عام، وهو احتفال للحب بين العائلة وزملاء العمل. أما السبب الآخر لشغف المصريين بالأعياد، فهو عائد إلى الموروث المتناقل من الحياة المصرية القديمة، حيث تعددت الآلهة، ومعها تعددت الاحتفالات بالمناسبات الدينية والاجتماعية، ولكن فى السنوات الخمس الأخيرة، اكتسب عيد الحب نكهة غربية، فبات مقتصرا على الطبقات الثرية من المجتمع، والتي تحتفل به فى الفنادق الفخمة والحفلات الثرية.
يحدثنا علماء النفس وعلماء الاجتماع عن القدر الهائل من الرومانسية التي تشغل حيزا لا بأس به لدى الشخصية المصرية، فتعاظم لديه الميل العاطفى عند تأسيس العلاقات، وفي كثير من الأحيان، يتسبب هذا الميل العاطفى غير المرشد في جنوح الحالة المزاجية للشخص لدى نشوب نزاعات، أو حتى احتدام النقاش بين المتحاورين. ولكن، لا ننكر أنه فى المقابل، يتسبب هذا المكون العاطفى في شيوع علاقات الحب وبتسارع ليس مألوفا في الثقافات الأخرى.
شهدت مصر طفرة فكرية فى الأدب الروائى على يد الكاتب الراحل "حسين هيكل" في عام 1914 الذي كتب أول رواية عربية متكاملة، وهى رواية "زينب" ووقع اسمه على الرواية بكنية "مصرى فلاح"، وفتحت هذه الرواية الباب أمام الأدب الروائى لدخول عالم التجسيد السينمائى في أول فيلم صامت عام 1930، وكانت باكورة أعمال المخرج الناشئ "محمد كريم"، وأسندت البطولة للفنانة بهيجة حافظ والفنان سراج منير، وبعد مرور عقدين من الزمان، في عام 1952 أعيد إنتاج رواية "زينب" مع السينما الناطقة، ولكن تم تبديل بعض المعالم في الرواية، فقد آلت البطولة إلى الفنانة "راقية إبراهيم"، وحتى متن الرواية نفسه أصابه بعض التغيير، إذ تحولت شخصية البطلة من فتاة هوى وعلاقات، إلى فتاة هائمة في حبيب واحد حتى النهاية، ومن ضحية مرض خبيث إلى صريعة حرمان الحب العفيف، كما أضيفت استعراضات غنائية تغذى النسخة الناطقة.
بالرغم من ولع الشخصية المصرية بمنهج الرومانسية فى الأدب الروائى، والأعمال السينمائية لعقود كانت على أشدها فى النصف الثانى من القرن الماضى، وتحديدا بعد شيوع الأفلام الملونة، التي جذيت النجم السينمائى حلو الملامح، والنجمة المزينة بألوان الطيف، فانتقل الانبهار من متن الرواية الأدبية إلى الانبهار اللونى بالملابس و"الإكسسوارات"، والشعر المستعار، وبعدها بهتت قيمة السينما كنافذة تقديم للأدب الرومانسى، وهى الفترة التي عرفت تباعا بفترة "سينما المقاولات"، وكان أشهر نجوم تلك الفترة الفنان محمود ياسين، والفنانة نجلاء فتحي اللذان شكلا ثنائيا فنيا تصدرا فيه لعشرات الأفلام. شهدت نفس الفترة التى ترعرعت فيها سينما المقاولات رواجا غير مرشد فى الكتابة والتأليف القصصى لتغذية سينما المقاولات، فأسفرت عن أعمال رديئة لم تترك بصمة مشرفة فى الأذهان، حتى أن بعض النقاد تحير في وصف طبيعة هذه الأفلام، ووصفها تارة بأنها رومانسية، وتارة أخرى بكونها كوميدية، وهو نقد لو أخذ على محمل السخرية، فهو صائب.
ميلاد الرومانسية في الأدب الروائي
الرومانسية كما تُعرف باسم الرومانتيكية، أو الإبداعية، هى حركة فنية، أدبية وفكرية نشأت في فرنسا فى أواخر القرن الثامن عشر للميلاد وسرعان ما راجت فى بلدان أوروبية أخرى، وظهرت الرومانسية كرد فعل ضد الثورة الصناعية، كما كانت تعتبر ثورة ضد الأرستقراطية، والمعايير الاجتماعية والسياسية في عصر التنوير. وقد تجسدت الثورة بقوة في االفنون البصرية، الموسيقى، والأدب، وكان لها تأثير بالغ على حركة الحياة فى مجالات التعليم، والعلوم، والسياسة. لعل أصل تسمية مصطلح "الرومانسية"، أو الرومانتيكية إلى الأشياء والأماكن التي يصعب وصفها بالكلمات، ويذهب البعض إلى أنها مشتقة من لفظة «رومانيوس» التي أطلقت على اللغات والآداب المتفرعة عن اللغة اللاتينية القديمة، ولم تعتبر لغات وآداباً فصيحة إلا ابتداء من عصر النهضة، حيث أخذت هذه اللغات مكانها لغات ثقافة وعلم وأدب.
ترى الرومانسية أن قوة المشاعر، والعواطف، والخيال الجامح، هي أدوات صنع الجمال، ومع التركيز على العواطف الإنسانية مثل الخوف، والفرح، والألم. أمكن صناعة وإنتاج الفنون الشعبية، كما جعلت من الخيال الفردى سلطة ناقدة، مما أسهم بالتحرر من أفكار المدارس الكلاسيكية والعقلانية المثالية.
ترك المذهب الرومانسى آثارا عميقة فى الأدب العربى، ولهذا الـتأثير سببان هما: الحاجة إلى التجديد بعد الشعر العربي القاسى، وشعر الهجاء لذا، فرضت الرومانسية نفسها بقوة على الحياة السياسية، والفكرية، والأدبية، بين الحربين العالميتين، وكذلك كان المذهب الرومانسي بمثابة الملاذ الوحيد الذي وجد فيه الشعراء والأدباء إطارا مناسبا يخرجهم من الحديث عن الجهاد، والكفاح، والنضال ومن ثم الخروج إلى دائرة النعيم الإنسانى.
قصص حب واقعية ألهمت الأدب الروائي
يزخر التاريخ الروائى بقصص الحب التي ولدت على أرض الواقع، وتناقلها الروائيون وأدباء الرومانسية، وأصبحت مدادا لأقلامهم. ولعل أشهر الأقلام التى كتبت بغزارة في الأدب الرومانسى هما يوسف السباعي الملقب بفارس الرومانسية، وإحسان عبد القدوس الملقب بكاتب المرأة، سوف نحتكم في هذا المقال إلى يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، كنموذجين أضافا رصيدا عظيما من الأعمال الروائية:
يوسف السباعي: ولد بحى الدرب الأحمر بالقاهرة، فى السابع عشر من يونيو1917، والتحق بالكلية الحربية، وترقى بالجيش المصرى حتى وصل لرتبة عميد، وأصبح فيما بعد نقيبا للصحفيين، بل ووزير للثقافة، ولقب يوسف السباعي بفارس الرومانسية لكونه ضابطا بالجيش، وبذات الوقت أديبا رومانسيا، وعرفت أعماله برهافة الحس، فجعل من العسكرية بيئة صالحة لتنبت فيها قصص الحب، مثل "رد قلبى" و "نحن لا نزرع الشوك"، ورواية "بين الأطلال". أطلق عليه نجيب محفوظ جبرتى العصر، لأنه أرخ لفترة الثورة ووضح العديد من الظواهر الاجتماعية بتلك الفترة فى أعماله، وعرف بأسلوبه السهل.
كان يوسف السباعى داعما للسادات في توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ورافقه فى زيارة القدس، ودفع ثمن ذلك حياته بثلاث رصاصات أثناء وجوده بقبرص سنة 1978.
إحسان عبد القدوس: ولد في 1 يناير 1919 وهو ابن السيدة روز اليوسف، تلك الشخصية المتفردة فى عصرها، وكانت ممثلة، وصحفية، وأسست صالونا أدبيا استضاف كل أدباء مصر، وينسب لها تأسيس جريدتى روز اليوسف وصباح الخير، وساعدها فى بناء مجدها، أنها تربت على يد عائلة مسيحية بعد وفاة والديها، وأغدقت عليها تلك العائلة بأدوات العلم والفن والرقى. أما والده فهو المهندس محمد عبد القدوس، ابن العائلة المتدينة، والده الشيخ الأزهرى الملتزم الذي تبرأ من ابنه عندما عمل ممثلا وتزوج من ممثلة، وما بين نشأة أبيه الدينية، وتاريخ السيدة روز اليوسف الفنانة هو ما يفسر التحول النفسى والتوجه الفكرى والذى شطر نصفي عمره إلى النقيضين، ومعلوم أن إحسان عبد القدوس تخرج في كلية الحقوق، ولكنه لم يحترف مهنة المحاماة، وبدلا من ذلك، توجه للعمل الصحفى.
عرف إحسان عبد القدوس بأنه كاتب المرأة، يكتب عنها، ويتفهم قدراتها، ويقدس مشاعرها، وقد عبر عن تقديره للمرأة من خلال أعمال روائية مختلفة للعلاقات العاطفية، ووقع إحسان عبد القدوس فريسة للنقد القاسى، إذ لام عليه البعض أن قصصه الرومانسية جريئة خرجت من إطار الحب العذرى، وأنه يمتلك جرأة تتجاوز واقع الحياة في البيت المصرى.
قدم إحسان عبد القدوس نموذجا تربويا يعالج مصير العاشق الخاسر في روايته "الوسادة الخالية"، فالدخول إلى عمق الرواية يخبرك بأن بديل الانتقام أمام العاشق المهزوم من أمام حبيبته التي تزوجت غيره، هو التفوق والنجاح، وتعويض الخسارة العاطفية بالنجاح المهنى، وكانت الرواية تحمل أسمى الرسائل التي تخاطب كل طبقات الشعب، وهي تدور حول التفكير الإيجابى فى بدائل الفشل في الحياة. رسخ إحسان عبد القدوس مقولته الشهيرة (في حياة كل منا وهم كبير، يسمى الحب الأول، لا تصدق هذا الوهم، إن حبك الأول هو حبك الأخير). تخبرنا الرسالة بأن حب منتصف العمر فى سنوات النضج هو الحب الحقيقى، لأن النضج يضمن للإنسان اكتشاف مشاعره.
تزين الأدب الروائى بالكثير من أعمال إحسان عبد القدوس، وهى متعددة، منها أعمال روائية، ومنها ما هو رومانسى، وجعل القاسم المشترك في أعماله إنصاف المرأة، وعزز مقاومتها للتغول الذكورى فى ظل بعض الموروثات البالية. مؤلفاته عديدة، منها " حتى لا تطفئ الشمس"، و"النظارة السوداء"، و"الوسادة الخالية"، و"أنا حرة"، و"الطريق المسدود"، و" لا أنام"، و "حتى لا يطير الدخان"، و"نسيت أنى امرأة" ، ومن بين مجمل أعماله تجدر الإشارة إلى أن رواية فى "بيتنا رجل"، قصة حقيقية مر بها إحسان عبد القدوس، و رغم نهايتها التى انتهت بغياب الأمل في اللقاء مرة أخرى، إلا أن الرواية حملت صورة رومانسية حالمة.
أما الأدب الرومانسى العالمى، فالتاريخ يزخر أيضا بقصص الحب والعشق التي ولدت على أرض الواقع، وتحول بعضها من فرط حرارتها إلى أساطير، حتى أن بعض هذه القصص، ذابت حقيقتها عبر التاريخ، ولم يعد هناك اليقين بصحتها، ويظن البعض أنها من نسج الخيال، مثل بعض قصص الحب في الحياة الفرعونية القديمة، ولا يتسع المقال هنا لنسرد البعض من القصص العالمية الذي التهبت به صفحات التاريخ، مثل قصة " باريس وهيلين"، وهي قصة جاء ذكرها في "الإلياذة" للكاتب اليونانى الشهير "هوميروس"، وهذه القصة تنطوى على خليط من الواقع والأسطورة، وجاء بها أن "هيلين" تزوجت ملك إسبارطة "مينيلوس"، ووقع باريس ابن ملك طروادة في حبها، وخطفها وعاد بها إلى طروادة، فجمع اليونانيون جيشاً جراراً لاستعادة هيلين وتم تدمير طروادة، و أعيدت هيلين سالمة إلى إسبارطة حيث عاشت بسعادة مع "مينيلوس" بقية حياتها.
أما التراث الشعبى المصري، فيزخر هو الآخر بالعديد من قصص الحب والعشق، والتي خلدها رواة الأدب الشعبى فن الفلكلور، وبعضها أصبح أبياتا يتغنى بها المداحون على الربابة في الأدب الشعبى، مثل ياسين وبهية.