الأحد 28 ابريل 2024

تلك آثارنا 9| ايمحوتب .. أقدم العباقرة

مقالات28-4-2023 | 16:04

في قرية صغيرة اسمها قرية "بين الجبلين" بمركز إسنا جنوب الأقصر، على الضفة الغربية لنهر النيل، ولد العبقري المصري الفذّ، وأحد عباقرة التاريخ القديم، "ايمحوتب".

صاحب الإسهامات الرائدة والكبيرة في مجالات متعددة، مثل: العمارة، والهندسة، والطب، واللاهوت.. وغيرها. والذي يعني اسمه في اللغة بالمصرية القديمة "الذي جاء في سلام"،

مثلته التماثيل النذرية الصغيرة، المنتشرة في الكثير من متاحف العالم، وهو جالس على كرسي حليق الرأس، وأحيانا مرتدياً غطاء رأس مميز للإله بتاح، ينشر لفافة من ورق البردي فوق ركبتيه، في وضع يوحي بالجدية وينمُّ عن حكمة ومهابة ووقار.

على الرغم من إننا لا نعرف الكثير عن حياته، لكن الآثار المتبقية من العصور المصرية القديمة المختلفة تخبرنا عنه أشياء كتيرة، ومنها أنه كان زير الملك "زوسر" الحاكم الثاني من الأسرة الثالثة، عصر الدولة القديمة (حوالي سنة 2800ق.م.).

ومن ألقابه، التي نفهم منها إنه كان صاحب مكانه كبيرة في عصره: "الرجل الثاني بعد الملك" أو "الرجل الأول لدى الملك"، و"رئيس المهندسين"، و"سيد النحاتين" و "كبير كهنة هليوبوليس".

ومن ألقابه المميزة أيضاً "كبير الرائيين" أو "الشوافيين" وهذا كان مرتبطاً بكهنة عين شمس، مدينة العلم والمعرفة في ذلك الوقت، ويختص به ما نطلق عليهم اليوم علماء الفلك، فيبدو أنه كان على دراية كبيرة بعلم النجوم والفلك. لكن من أهم ألقابه، اللى خلعها المصريون عليه لقب "ابن بتاح" وبتاح ده كان المعبود الخالق عند المصريين القدماء. وربما يكون الوحيد، أو من القلائل، من غير الفراعنة والنبلاء، الذين رفعهم المصريون إلى مرتبة الآلهة. وهذا يدل على امتداد تأثيره في حياة الناس، وامتداد شهرته وتقدير الناس ليه طوال هذه القرون الطويلة.

ومن أهم أعماله، العمل الهندسي  والتصميمي المعماري الرائع لمجموعة الملك زوسر في سقارة، والتي شملت: الهرم المدرج، والمعبد الجنائزي، ومجموعة المقاصير، والأنفاق والسراديب والممرات الموجودة في ثلاث مستويات داخل الهرم وأسفله، ويصل إجمالي طولها ما يقرب من سبعة كيلومترات، والسور الحجري الكبير المحيط بالمجموعة.

وعود تاريخها إلى 2800 قبل الميلاد، وكانت بمثابة ثورة في مجال الهندسة المعمارية، ليس  لضخامة حجمها، ولكن لبراعة تصميمها الهندسي، واستخدام الحجر لأول مرة كمادة للبناء بديلاً للأَجُر أو الطوب اللبن والخشب، إضافة إلى ابتكار شكل جديد للمقبرة الملكية وهو الشكل الهرمي بديلاً لشكل المصطبة الذي كان منتشراً قبله، وكذلك المرة الأولى التي يستخدم فيها العمود كعنصر إنشائي في العمارة، إضافة إلى أن تصميم الأعمدة نفسه كان فيه إبداع، فلم تكن الأعمدة مجرد عنصر إنشائي أو معماري  يقوم بوظيفة ما، بل كان عملاً فنياً ورمزي أيضاً، فتضمن زخارف نباتية، سواء في صورة تيجان زهرة اللوتس، أو البدن المصور في صورة حزمة نبات البردي، طبعا ده بيدل على وحدة مصر العليا اللي بتمثلها زهرة اللوتس، ومصر السفلى التي بيمثلها نبات البردي.  

لم تقتصر عبقريته على مجالات الهندسة والعمارة، بل امتدت للطب، فقد كان طبيباً بارعاً، وصاحب شهرة عالمية في هذا المجال، والحقيقة أنه لم يعثر على أدلة من عصر تؤكد أنه مارس الطب، لكن هناك أدلة بعد عصره تشهد بقدرته العلاجية وأنه كان الكاهن الأكبر والطبيب الأكبر في زمنه، فهناك بردية طبية شهيرة اسمها بردية "سميث" باسم عالم المصريات الأمريكي "إدون سميث"، الذي اشتراها في القرن الـ 19، ويعود تاريخها إلى عام 1600 قبل الميلاد، وهي من مقتنيات متحف بروكلين في نيويورك، وهي عبارة عن نسخة من مخطوطة طبية قديمة كتبها ايمحوتب بنفسه، شملت تشخيص ووصف لعلاج 48 حالة مرضية بطرق علمية بعيدةً عن السحر والشعوذة، إضافة إلى أنها أول مخطوطة تتعرض لأخلاقيات الطب.

ومن الطب إلي الصيدلة، امتدت عبقريته، فينسب لايمحوتب أيضاً أنه استخرج الأدوية والعقاقير من النباتات، وعرَّف وظائف أعضاء الجسم وأجهزته، وكانت عنده معرفة بالدورة الدموية.  

كما كان على علم ودراية بالتحنيط وعلم التشريح، وأسس مدرسة لتعليم الطب في مدينة منف، أصبحت بعد موته مقرًا لعبادته، ومستشفى عام يزورها المرضى من جميع أنحاء مصر، حيث انتشرت عنه أخبار كثيرة تعلن نجاحه في شفاء الكثير من الأمراض والعقاقير الناجحة التي اخترعها، واعتبره العلماء المنشئ العبقري لعلم الطب، وإنه الإله الرمزى لعلم الشفاء.

وكغيره من العباقرة، لا يعمرون في الأرض طويلاً، عاش "إيمحوتب" حياة قصيرة، فيقال أنه رحل قبل سن الأربعين، ولكن كان له أثر كبير في كل التاريخ القديم، فكان موضع احترام وتقدير المصريين، حكاماً وشعباً، طوال حياته. وبعد وفاته بمائة عام اعتبره المصريون نصف إله، وفي عصر رمسيس الثاني في الأسرة الـ 19 اعتبره المصريون ابن الإله بتاح، وفي عهد الأسرة الـ 26 في فترة الغزو الفارسي لمصر أصبح إلهاً للشفاء، وبنيت له المقاصير باسمه في معابد منف، وجزيرة فيله وطيبة في الأقصر، ونال "إيمحوتب" شهرة عظيمة وواسعة حتى عند الإغريق والرومان، الذين اعتبروه إلهاً للطب مماثلاً للإله "إسكليبوس" إله الطب عندهم.

وعلى الرغم من شهرة ايمحوتب اللي فاقت كثير من الملوك، وعلى الرغم من أعماله الفذَّة، فإنه حتى اليوم لم يعثر على قبره، كما اختفت الكتب التي ألفها، وقد قيل إنه ترك تراثاً كبيراً من الكتابات الدينية، والحكمة، والأخلاقيات، والنصائح، كونه كان رئيسًا للكهنة،وكبيراً للكهنة المرتلين، اللي كانوا يؤدون الشعائر الدينية.

وظل "ايمحوتب" الأب الروحي للكتَّاب المصريين القدماء، وكان الكتَّاب يسكبون بعضاً من ماء الحبر الذي يكتبون به تكريما له قبل بدء عمله "ولهذا مثلته التماثيل النذرية الصغيرة، المنتشرة في الكثير من متاحف العالم، وهو جالس على كرسي حليق الرأس، وأحيانا مرتدياً غطاء رأس مميز للإله بتاح، ينشر لفافة من ورق البردي فوق ركبتيه، في وضع يوحي بالجدية وينمُّ عن حكمة ومهابة ووقار.

Dr.Randa
Dr.Radwa