الجمعة 19 ابريل 2024

النهج الفلسفي اليوناني (1 – 4)

مقالات23-5-2023 | 18:01

إذا كان جمهرة فلاسفة اليونان، ومن تابعهم، يرون أن الغرض من التفلسف هو مجرد كشف الحقيقة لذاتها بباعث من اللذة العقلية، وبغض النظر عما يمكن أن يترتب على هذه الحقيقة من أوجه النفع في الحياة، فإن استقراء تاريخ الحضارات يثبت على هذه الحقائق، التي توصل إليها الفلاسفة قد أثرت في حياة الناس تأثيرًا بالغًا.

ولكي تضح رؤيتنا سنُفصل مقالنا حول فيلسوفان كان لهما أبلغ الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي، بل في تاريخ البشرية جمعاء، ولا نُبالغ القول إن قلنا وحتى يومنا هذا، هذان الفيلسوفان هما ديمقريطس وأفلاطون، ويرجع سبب اختيارنا لهذا الفيلسوفان دون غيرهما، لسببان أساسيان، أولهما، هو حرصنا أن نقدم نموذجان يكونا شاملنا وشارحان بصورة دقيقة للمنهج الفلسفي، نستطيع من خلالهما أن نقدم للقارئ الكريم صورة دقيقة عن النهج الذي اتبعه هذان الفيلسوفان خلال حياتهم لوضع بنود فلسفتهما.

أما السبب الثاني، الذي دفعنا إلى اختيار هذان الفيلسوفان هو التأثر الواقع بينهما، حيث سيجد القارئ الكريم مدى التأثر الحاصل لأفلاطون بديمقريطس وهو ما سنلاحظه خلال هذه المقالات، كما سنفرد له المساحة التي يستحقها.

عزيزي القارئ سنبدأ حديثنا بأول نموذج لدينا وهو ديمقريطس أو كما يصفه ديوجين لايرتيوس – مؤرخ يوناني ترك لنا مؤلفًا زاخرًا رصد فيه معظم الفلاسفة ورجال الفكر الاغريق – بـ(الأمير). إلا أن الحديث عن التأثير والتأثر يقتضي منا التعرض لبعض المشاكل التاريخية التي يفرضها علينا طبيعة الموضوع كتواريخ ديمقريطس وصلته التاريخية بكل من لوقيبوس – فيلسوف يوناني شارك ومعاصر لديمقريطس وتشارك الاثنان في وضع النظرية الذرية – وأفلاطون. إذا كانت حياة لوقيبوس مجهولة إلى حد كبير فيقول جون برنيت في هذا الصدد خلال مؤلفه (الفلسفة اليونانية: من طاليس إلى إفلاطون): "إننا لا نعرف أي شيء عن حياة لوقيبوس ويبدو ان كتابه قد أندمج في مجموعة أعمال ديمقريطس، إذآ هناك شبه أتفاق على ثلاثة أمور تقريبًا وهي:

أولًا: إن الوجود التاريخي للوقيبوس غير محدد، بل ومشكوك فيه أحيانًا.

ثانيًا: إن الادلة التاريخية المتاحة لا تسمح بالتمييز الكامل بين فلسفة لوقيبوس وديمقريطس.

ثالثًا: إن ديمقريطس هو الذي أخرج المذهب الذري إلي النور فهو الذي شرحه وفصله وطوره أيضًا ثم قام بنشره على نطاق واسع.

ولكن سيرة ديمقريطس على العكس من ذلك فهو فيلسوف مادي يوناني قديم (أول عقل موسوعي عن اليونانيين) فقد بلغ من الشهرة إلى الحد الذي جعل المتأخرين ينسجون حوله الأساطير. وقد نشأ في مدينة أبديرا وهي مهد الفلسفة الذرية، ويقال إن ديمريطس تلقى العلم في صباه علي يد مجوس الفرس الذين كانوا يصحبه ملكهم، وكان واسع العلم راغبًا في تحصيله رغبة حارة، وقد وهبه الله بصيرة نافذة وفكرًا ثاقبًا، بحيث لا تكاد أنواع المعرفة تقع أمامه حتى يلتهمها التهاما فإذا هي جزء منه وقد حفزته تلك الرغبة الملحة في التحصيل إلى الرحلة في أقطار الأرض.

أما أفلاطون فيلسوف مثالي يوناني ومؤسس المثالية الموضوعية ومؤلف أكثر من ثلاثين محاورة فلسفية (فيدون، وطيماوس، وبارمنيدس وغيرها من المحاورات). وأفلاطون بتحديده للنظرة المثالية للعالم حارب بفاعلية التعاليم المادية في ذلك الوقت فقد أستخدم على نطاق واسع تعاليم سقراط والفيثاغوريين وبارمنيدس وهيراقليطس.

كما أن القارئ لسيرة ديمقريطس سيجد أنه كان مهمومًا بمشكلات عصره، ورغم ذلك وجدنا أثينا قد تجاهلت فعلًا فلسفة ديمقريطس زمنًا طويلًا، رغم أنه كان معاصرًا لتلميذه بروتاجوراس، كما أنه تجاهله أفلاطون تمامًا ولم يذكره أطلاقًا في محاوراته وقد علل المؤرخ ديوجين لايرتيوس ذلك بأنه كان يكرهه أشد الكراهية لدرجة أنه تمنى أن تحرق مؤلفاته كلها. ولكن أعاد إليها أرسطو الاعتبار حينما ذكره في معظم مؤلفاته وناقش الكثير من أفكاره.

عزيزي القارئ إن ديمقريطس كان معاصرًا لسقراط وإنه كان حيًا أو على الأقل كانت أفكار حيه عندما أسس أفلاطون أكاديميته. وجاء برنيت في هذا الصدد وأراد المحافظة على (أصالة الفكر الأفلاطوني) وذلك لكي يقدم تعليلًا لتلك الفقرات الديمقراطية في محاورة طيمايوس لكن تعليله في الواقع مجرد بترير وذلك لأنه يرفض أن يرد أفلاطون إلى ديمقريطس ويفضل أن يردهما معًا إلى الفيثاغورية. وجاء برنيت وقال "من المحتمل أن الأبيقوريين لم يهتموا بنشر مؤلفات ديمقريطس لأنها تكون دليلًا ثابتًا على فقدان الأصالة التي سجلها مذهبهم".

ومما سبق يتضح أن القضية القائلة بأن أفلاطون لا يعرف أشيء عن ديمقريطس ليست صادقة ولا تحتمل الصدق، بل هي كاذبة وذلك لعدة أسباب:

أولًا: إن ديمقريطس كان كثيرًا طالبًا للمعرفة حتى أنه أنفق كل ميراثه وعاد إلى دينته لا يملك شيئًا ولجأ إلى أخيه، ولا يحتمل أن يزور ديمقريطس مصر وبابل وبلاد الفرس والهند دون أن يزور أثينا، ولكن الاحتمال الأقرب إلي العقل أن ديمقريطس أنه قد زار المدن اليونانية وبخاصة أثينا.

ثانيًا: ولو كان يدمقريطس لم يزر أثينا فمن المحتمل أن يكون أفلاطون قد زار أبديرا الشهير، وبخاصة أنه قد قام بسلسلة أسفار إلى ميجاري وقورينا ومصر وإيطاليا وسر اقوصة في صقلية.

ثالثًا: إذا كان أفلاطون لم يزر أبديرا، فمن المحتمل أن يكون أي شخص من المهتمين بالفلسفة في أبديرا قد زار أثينا ونقل إليها فكر ديمقريطس.

رابعًا: من المحتمل أن تكون بعض كتبه أو أحدها انتقلت بواسطة أحد التجار عبر المدن اليونانية.

خامسًا: ليس من الضروري كي تظل مؤلفات ديمقريطس محفوظة ومعروفة أن تكون في أثينا.

سادسًا: وتلك التفسيرات والاعتبارات تؤكد على وجود جوانب متشابهة إلى درجة التطابق في فلسفة ديمرقيطس وأفلاطون.

          كان هذا بمثابة عرض موجز تناولنا فيه تعريف مبسط لفيلسوفان كان لهما أعظم الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي، وهو ما لمحناه خلال هذا المُقطف. نكتفي بهذا القدر على أن نلتقي في مقالنا القادم بعرض موسع بعض الشيء لجوانب فلسفة كلًا منهما، حتى نستطيع أن نقف على فهم صحيح ودقيق للمنهج الذي اتبعه هذان الفيلسوفان في تأسيس مناحي فلسفتهما المختلفة.