السبت 27 يوليو 2024

30 يونيو .. ومفهوم الدولة

مقالات8-6-2023 | 22:12

الدولة بمعناها الرشيد تفترض أن السلطة تسيطر على إقليمها وحدودها وليس شعبها، فهى تمارس دورها من خلال هذا الشعب وعبر تعاقد ديمقراطى معه وليس بموجب عقد إذعان

الدولة مجتمع سياسى منظم أو جماعة إنسانية منظمة بشكل واع أو شكل من أشكال الترابط الأخرى هدفها الحفاظ على النظام والأمن من خلال قوانين تساندها القوة

القومية حركة حديثة بدأت فى نهاية القرن الثامن عشر، وقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها حالة ذهنية يشعر فيها الفرد بأن الجميع يدينون بولائهم للدولة القومية

الشعوب الراقية لا تكفيها التنمية الاقتصادية أو توفير متطلبات الحياة الأساسية ولو برفاهية، وإنما يتطلعون إلى الحرية التى هى نقيض القهر والعبودية والاستبداد

المجتمع هو من يصنع السلطة ويمنحها الحياة، فالمجتمع هو من هيأ لصناعة 30 يونيو ومن قبلها 25 يناير، فالحكومات إفراز طبيعى للشعوب التى تنبت فيها، وهو الذي يفترض أن يحدد مسارها

 

 

سيظل ما جرى من أحداث فى 30 يونيو 2013 وقبلها ما كان فى 25 يناير 2011، وبعيداً عما أحاط بهما من ملابسات ظهر منها ما ظهر وخفى منها ما خفى، مجرد حلقة من حلقات الزمن سيحكم عليها التاريخ يوماً ما. لكن علينا أن نعى أنه ليس صحيحاً كما يقول الفيلسوف الألمانى هيجل أن نحكم على مرحلة فى التاريخ بما تقوله عن نفسها، وإن كان وبالقدر نفسه ليس من المقبول أن نحكم عليها خارج سياقها وظروفها.

لكن المؤكد أن ما جرى فيهما من هبات أزاحت ما كان من رؤوس حاكمة وصنعت فراغاً ظاهراً هدد صورة الدولة التى نستظل تحت سقفها أوجد اشتباكاً فكرياً غير معهود بين المواطن العادى ومفهوم الدولة؛ ذاك الكيان السياسي الجامع الذى مازلنا نراه برؤية ضبابية ينقصها الوضوح على نحو نبدو فيه كمن يريد إعادة اختراع العجلة. والسبب فى هذا يعود لأننا مازلنا مُصرين على الابتعاد عن هويتنا الأصلية والاستغراق فى مفاهيم تصرفنا عن أصل مشاكلنا وتضعنا بدائرة مغلقة. 

التكوين

فالدولة مؤسسة إنسانية يرجع عهدها إلى المجتمعات الزراعية الأولى التى نشأت ببلاد ما بين النهرين (العراق) قبل حوالى ستة آلاف عام، فمع اكتشاف الزراعة بدأت المجتمعات الإنسانية تتشكل، فنشأت سلطات ثلاث: دينية وعسكرية ومالية، وظهرت وظيفة الحاكم تحت مسميات مختلفة ليصبح رمانة الميزان بينهم جميعاً.

وقبل أربعمائة أو خمسمائة عام جرى تحديثها بأوروبا حينما وطدت الأنظمة الملكية الفرنسية والإسبانية والسويدية حكمها بأن أقامت الجيوش الكبيرة وفرضت الضرائب وامتلكت بيروقراطية مركزية استطاعت من خلالها فرض سيادتها بعد أن وفرت الأمن لمجتمعاتها وفرضت حكم القانون وحمت الحقوق الفردية على نحو سمح بظهور العالم الاقتصادى الذى نعرفه اليوم.

على الطرف الآخر كان هناك دائماً حراك مجتمعي من المحكومين سواء أكانوا فلاحين أو عمال أو نساء أو شباب أو.. أو..، وهكذا اكتملت مكونات الدولة الثلاثة، الأرض والشعب والسلطة، دون أن يعنى هذا أن الدولة تقوم بمجرد توافر تلك الثلاثية أو بمجرد أن تهيمن سلطة على شعب مثلما تسيطر على أرض، فالدولة بمعناها الرشيد تفترض أن السلطة تسيطر على إقليمها وحدودها وليس شعبها، فهى تمارس دورها من خلال هذا الشعب وعبر تعاقد ديمقراطى معه وليس بموجب عقد إذعان. 

مفاهيم

وقد تعددت تعاريف الدولة، فالفيلسوف الألمانى ماكس فيبر يعرفها بأنها الوحدة القادرة على احتكار العنف وممارسة الضبط على كامل إقليمها، بينما يعرفها عالم الاجتماع الفرنسى بيير بورديو بأنها محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال؛ رأس المال الإكراهى (الجيش والشرطة) ورأس المال الاقتصادى ورأس المال الثقافى أو المعلوماتى ورأس المال الرمزى، أو هى مجموعة من المؤسسات القانونية والإدارية والعسكرية التى تم إنشاؤها من لدن جماعة من الناس بموجب عقد مشترك لغرض تنظيم حياتهم فى كل المجالات داخل مجال ترابى معين.

أو بعبارة أكثر بساطة وشمول هى مجتمع سياسى منظم أو جماعة إنسانية منظمة بشكل واع أو شكل من أشكال الترابط الأخرى هدفها الحفاظ على النظام والأمن من خلال قوانين تساندها القوة وهى تمارس سيادتها داخل مساحة جغرافية محدودة على نحو يجعلها صاحبة السلطة المطلقة والوحيدة عليها، فلا توجد سلطة أعلى منها أو موازية لها، فهى تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها.

القومية

بالطبع الدولة بشكلها الآنى تكونت عبر مراحل زمنية وتراكمات اجتماعية وسياسية واقتصادية متعددة، فما بين ثورات واحتجاجات وحروب صرنا أمام العالم الذى نراه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عالم وحدته الأساسية هي الدولة القومية التى تستند إلى الهوية وتقوم على أساس بيولوجى يميز عرقاً عن غيره ويحدد له أساساً جغرافياً تبدأ وتنتهى عنده حدوده.

والقومية حركة حديثة بدأت فى نهاية القرن الثامن عشر وقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها حالة ذهنية يشعر فيها الفرد بأن الجميع يدينون بولائهم للدولة القومية. وكانت الثورتان الفرنسية والأمريكية هما أول وأقوى مظاهرها، وبعدهما انتقلت فى أوائل القرن التاسع عشر لوسط أوروبا بمنتصف القرن نفسه ثم لباقى بقاع العالم بأزمنة لاحقة.  

سيادة التنين

وتحت مفاهيم السيادة التى تعني أن للدولة سلطة آمرة عليا تستطيع من خلالها فرض إرادتها على الآخرين دون حاجة لموافقة منهم، توسعت وتحكمت فى عقول الناس وحياتهم وصارت تنين بحسب تعبير الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز، أى كيان يبتلع بجوفه أفراد المجتمع بعد أن يمحو شخصياتهم وإراداتهم أمام شخصيتها وإرادتها. 

وفى هذا السياق نشأ ما يمكن تسميته بالدولة المتألهة؛ دولة لا تحافظ على أفرادها بمنعهم فحسب من الخروج عن إطارها، وإنما أيضاً بردهم إليها كرهاً أو طوعاً بشكل يُمَكنها من السيطرة التامة عليهم وعلى مخرجاتهم الجماعية من خلال ممارساتها لأقصى درجات التسلط والرقابة لدرجة تحتكر معها منح صفة المواطن الصالح، فتمنحها أو تمنعها وفقاً لمعاييرها التى لا يشترط تطابقها مع معايير الإنسان الصالح، ولا حتى مع متطلبات الدين الذى تحاول على الدوام تدجينه بنحو يخدم مصالحها.

وضاعف من قدرات الدولة التسلطية تنامى وسائل الإعلام وغيرها من الوسائل التربوية التى تعمل عبرها على ترشيد المواطن وبرمجته على تلقى الأوامر منها باعتبارها مرجعيته النهائية وليس غيرها، بحيث أصبح يستجيب لمجردات لا علاقة لها بواقعه أو مصالحه الفعلية، مثل مصالح الدولة العليا أوالمصلحة العامة، أو تراب الوطن أو.. أو... فالدولة هنا هى القيمة العليا التى لا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها.

البائس هنا أن تلك الدولة القومية المركزية لا تعبّر غالباً إلا عن مصالح طبقة بعينها تسيطر على مقدراتها الاقتصادية والسياسية وأنها تخلت عن كل قيم عليا فى سبيل تحقيق ما تراه يمثل مصلحتها وباعدت بين السياسة والأخلاق، ففكرة الفصل بين القيم السياسية والأخلاق قديمة فى النموذج الأوروبى على نحو يعود لمفاهيم أفلاطون وليس كما يشاع لمكيافيلي الذى اقتصر إيمانه بفكرة اختفاء الأخلاقيات عن السياسة على حالة السعى لتحقيق وحدة المجتمع وترابطه. 

مقاومة التنين 

أمام هذا التوحش من جانب الدولة وانحيازاتها غير العادلة لبعض الفئات دون الأخرى ونفيها لكل قيمه عليا كانت هناك تفاعلات مضادة ما بين أطراف الحكم وطبقات الشعب من المحكومين، فالحكام -أيما كان مسماهم- يعمدون إلى التسلط والاستبداد واستغلال الدين أو نفيه فى الظاهر من الحياة، والمحكومين ينشدون الكرامة والحرية والمشاركة ورفض الاستعباد والخنوع وأحياناً امتثال الدين والقيم العليا.

فالشعوب الراقية لا تكفيها التنمية الاقتصادية أو توفير متطلبات الحياة الأساسية ولو برفاهية، وإنما يتطلعون إلى الحرية التى هى نقيض القهر والعبودية والاستبداد باعتبارها ضرورة لا تتم إنسانية الإنسان بغيرها، فبدونها يصير الفرد رعيةً وليس مواطناً، فالإنسان يحتاج للحرية، ليس فقط ليحقق ذاته، ولكن أيضاً ليساهم فى ارتقاء مجتمعه وتحقيق مصالحه العامة. 

ومن هنا كانت بذور الديمقراطية التى أخذت مساراً تصاعدياً حتى صارت على نحو ما نرى الآن، صحيح أن الديمقراطية بصورتها الحاضرة ليست مبرأة من كل عيب، فرأس المال جعل اختيارات الشعوب بالغرب وأشياعه في جيوب الرأسماليين المحتكرين للغذاء والسلاح وسوق العمل والمسيطرين على الإعلام وبالتالى على الرأى العام، في حين أن النزعات القبلية والطائفية فى المجتمعات الأخرى أفسدت اختيارات الشعوب، ولكن بكل الأحوال، الواقع يخبرنا بأن العقل البشرى لم يستطع حتى الآن أن يبتكر وسيلة يصل بها لاتفاق حول الشئون المشتركة للمجتمع خيراً من الأخذ برأى الأغلبية. 

بالطبع لم تكن استجابة أهل الحكم لتطلعات الشعوب طوعية، فالرغبة فى الاستبداد كامنة فى صلب الحكم، والخلاص منها يحتاج لمقاومة ذاتية وخارجية، فقامت الحكومات المستبدة بمحاربة دعوات الحرية واستهدفت وعى الشعوب وحاربت كل من يفكر فى غير إطارها واعتبرت رأسه هدفاً لها، ولعل فى مرافعة المدعى العام الإيطالى الفاشستى فى محاكمة المفكر الماركسي أنطونيو جرامشى ما يعبر عن هذا، حيث وقف يقول: "إن رأس هذا الرجل خطر على مستقبل إيطاليا، ولابد أن يكف عقله عن العمل عشرين عاماً على الأقل إذا أردتم أن يسود الاستقرار بلادنا". 

مُخرجات متنوعة

ونتيجة لهذا التفاعل الصراعى بين الحكام والمحكومين، كانت الأيديولوجيات السياسية الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية واليسارية واليمينية، وكانت النظم الملكية بتنوعاتها والجمهورية بصورها الديمقراطية الكاملة والمنقوصة والديكتاتورية والفاشستية والنازية والقمعية والهجينة التى تمارس سياسات متناقضة بحيث تسمح ببعض الممارسات الديمقراطية فى ظل بيئة سلطوية، ألواناً من الفكر السياسي وأشكالاً لكيانات مجتمعية سياسية تجسد الصراع وتعبر عن مخرجاته بصورة أو بأخرى. 

وفى اللحظة التى بدت فيها الحكومات متعهدة بحياة شعوبها بالتدخل فى إدارة شئونها الاقتصادية بصفة خاصة، ظهرت التاتشرية بثمانينيات وتسعينيات القرن المنقضى، فحجّمت الدولة وقلصت دورها الاقتصادى وأخضعتها لآليات السوق واستبدلتها بمؤسسات المجتمع المدنى، فكان دعاة الخصخصة وسماسرة السوق المفتوح ممن قطعوا أوصال الدولة وهمشوا مؤسساتها على نحو أصبحت معه شبه مشلولة فى مواجهة معضلات الفقر والمرض والتنمية، فكان طبيعياً أن يُضار المواطن الضعيف ويستفيد القوى، إذ أنه من المفترض أن الدولة تقوم أصلاً لحماية الضعفاء من جور الأقوياء.

وإزاء هذا، كان منطقياً أن يتآكل مفهوم سيادة الدولة الذى ارتبط بالدولة القومية ومنحها حق العلو والانفراد فى التصرف، وأصبحت عبارة عدم التدخل فى شئون الدول الداخلية مستهلكة وبلا ظل بالواقع، خاصةً مع اجتياح ظاهرة العولمة لعالمنا وشيوع مبادئ التكافل الإنسانى، وما تبعها من تدخلات إنسانية بمناطق عدة ممن شهدت مجازر دموية، وبعد التدخلات الأمنية التى أعقبت أحداث سبتمبر، وضعف الدولة القومية فى مقابل كيانات مستحدثة كالشركات العابرة للقارات وغيرها. 

ليبرالية غربية

كل هذا جرى والغرب يرفع يافطة عريضة تحمل عنوان الليبرالية (تعنى الحر) وهى أسبق من الديمقراطية تاريخياً، فهما ليسا مفهومان متردافان، فاليبرالية تقوم على مبادئ أوسع تدور حول الحرية والفردية والعقلانية والعمل الحر وحكم القانون والتعدد والتسامح وقبول الآخر والحوار. وبمرور الوقت خرجت نسخة مستحدثة منها تحت مسمى النيوليبرالية بعدما قل دور الدولة فى مقابل دور القطاع الخاص. 

وبعد انهيار الشيوعية، أعلن الفيلسوف السياسى الأمريكى فرانسيس فوكاياما نهاية التاريخ بانتصار تلك اليبرالية الغربية باعتبارها النتيجة النهائية الأفضل فى تاريخ البشرية التى يحق لها أن تسود العالم لتخلّصه من كل الصراعات والحروب والتأخر والفقر والجهل، ولتصبح الحضارة الغربية متمثلة فى تلك الليبرالية هى الإنجاز الأخير للبشرية.

وهنا خرجت العولمة، كفكرة بديلة للاستعمار المباشر، تستخدم القوى الناعمة لفرض رؤية محددة على البشرية، ولتصبح من خلالها الليبرالية إطاراً حاكماً لكل الأنظمة السياسية والاقتصادية فى العالم. وبالوقت ذاته وبشكل يمثل قمة التناقض، ظهرت دعاوى نهاية الأيديولوجيات السياسية أو فشلها وإفلاسها، فهناك من علماء السياسة من صاروا يسلّمون ويعلنون بصراحة أن جميع الأيديولوجيات التى نعيشها إنما تعرب عن فشل حقيقى.

نموذج موروث

أما عالمنا النامى أو بالأصح النائم فلا يمكن أن يظل على الدوام فى خانة النمو دون أن يبارحها مهما مر الزمن، إلا إذا كان سابتاً فى نوم عميق، فقد أورثه الاستعمار الغربى المباشر نموذج الدولة القومية القطرية القائم على العلمانية ومحاكاة النموذج السياسى الغربى ومايرتبط به من سياسات حكم، فظاهرة الدولة القومية المركزية المطلقة مرتبطة تمام الارتباط بالظاهرة الاستعمارية الغربية، فهما وجهان لعملة واحدة وتجليان لظاهرة واحدة. 

إنها دولة تبدأ وتنتهى عند حدودها الجغرافية وتحصر نفسها فى إطار جنس بعينه وترى أنها المسئولة عن الحفاظ على الوطن الذى يضمه وحماية مصالحه التى تقوم وحدها بتحديدها. إنها دولة ترفع رآية الاستقلال على نحو يضاد بنيتها التى صنعها الاستعمار الغربى، فتبعيتها له جزء من طبيعتها التكوينية التى تفرض عليها مساحة محدودة من الاستقلال وحرية الحركة قرباً وبعداً عنه.  

إنها دولة خلقها الغرب بشكل يستعصى معه دخولها فى تحالفات أو كيانات أو مسارات لا يرضى الغرب عنها. ومن هنا فإن ضعفها أمامه تصبح شأناً تقليدياً لاعتبارات متنوعة، بعضها يرتبط بظروف نشأتها الصناعية وما ترتب عليها من اختلالات هيكلية فى التركيبة الجغرافية والسكانية والاقتصادية، وبعضها الآخر مرتبط بأداء نظم حكمها الذاتية خلال مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار المباشر، والذى شابه قدر كبير من الاستبداد والفساد. 

ومن هنا يمكننا فهم محدودية استقلال تلك الدولة مهما ادعت، وأيضاً ضعف قدرتها على معارضة دوائر الغرب الحاكمة ومصالحه، فما الذى تستطيع أن تفعله دولة تابعة سياسياً واقتصادياً، حتى ولو كانت دولة ريعية، إزاء هذا الكيان المتغلب. ومن ثم كانت غالبية محاولات الخروج عن ذاك الإطار مصيرها الفشل. 

حدث هذا مع محمد على وجمال عبدالناصر وصدام حسين، بصرف النظر عن صحة مشروعهم أونجاعته أو مشروعيته. 

الملفت أن تلك الدولة الموروثة بُنيت على نحو لا يجعلها تستجيب لمجتمعها دائماً، فالتناقض بينهما جرى زرعه ورعايته، فغربيتها ومسايرتها لأهداف لا تحقق رغباته وضع علاقتها معه بحالة سخونة تستلزم منها قدراً من الاستبداد والتلاعب بالعقول لتجبره على السير بالاتجاه الذى تبتغيه والذى تراه يمثل مصلحتها العامة فى مقابل أن توفر له قدراً ما من سُبل العيش، مع فن وإعلام يدور فى فلكها.

الملفت أن تلك الدولة تراجعت لاحقاً بشكل أو آخر عن دورها الاجتماعى والاقتصادى، فلم تعد حاملة لمسئولياتها تجاه مجتمعها على نحو ما كان عند نشوئها، وتقلص دورها تجاه الأزمات التى يعانى منها، خاصةً فى شرائحه الفقيرة التى تمثل سواده الأعظم، فى حين وضعت نفسها بخدمة نخب بعينها، سياسية واقتصادية وعسكرية، ترى فيها وقود بقائها واستمرارها.

مفاهيم إسلامية

غنى عن البيان أن تلك الدولة، بمفاهيمها القومية وأغراضها الدنيوية القاصرة، تختلف عن الدولة فى الإسلام التى ليست دولة قوم أو عصبية، وإنما دولة فكرة وحضارة ورسالة تجمع بين غايات الدنيا والآخرة معاً، فهى لا يكفى لقيامها مجرد وجود أرض أو شعب له عرقية جنسية، فالفكرة والقيمة توجد أولاً، ثم تؤمن بها جماعة لتصبح هى الأمة المؤمنة، فتقوم الدولة لتضع الفكرة والقيمة على أرض الواقع.

دولة لم تضع النصوص القرآنية أو النبوية قالباً صلباً لنظامها السياسى، وإنما تركت ذلك لاجتهاد البشر، شريطة احترام قيم ثلاث أساسية هى كرامة البشر وإنسانية السياسة وعالمية الدعوة الإسلامية، مما يعنى أنه لا يجوز عند تناول ذاك النظام الحديث عن أشكال أو أنظمة أو هيئات أو مؤسسات جرى تطبيقها بالماضى، فتلك أمور لم يعد لها مكان بزماننا، وهو ما عبّر عنه الإمام الجوينى بقوله (معظم مسائل الإمامة عريّة عن مسالك القطع خليّة من مدارك اليقين).

دولة لها وظائف أساسية أربعة، أولها بناء نظام سياسى يعبر عن قيمها الإسلامية دون التقيد بقواعد صلبة بعينها، وثانيها أن تمكّن المسلم من تحقيق إسلامه على مستوى سلوكه الفردى والجمعى لينطلق إلى آخرته بنفس راضية مؤمنة، وثالثها أن تحقق العدالة التى هى محور نظام القيم الإسلامية، ورابعها نشر الدعوة وتنظيم عملية الجهاد بمعناه الراشد.

دولة ولايتها للأمة فهى صاحبة الاختيار، ورضاها شرط لاستمرار من تختاره للحكم، ومجتمعها مكلّف بإقامة الدين والدنيا من مسئولية الأمة وليس السلطة فقط، وحريتها مكفولة للجميع، ومساواتها بين الناس قائمة بصرف النظر عن ملتهم أو عرقهم، وآخَرَها المُختلِف له شرعيته، فحصانته تقوم لمجرد كونه إنساناً، ومقاومة ظلمها واجبة لكونه محرماً، وقانونها فوق الجميع، فشرعية سلطتها مرهونة بالتزامها بأعمال النظام القانونى الإسلامى فى جملته. 

متناقضات

بالطبع هناك من مناوئ الدين وهو من يُستثار بشكل غوغائى عند مجرد الحديث عن وجود علاقة ما بين الدين والدولة على الرغم من أن ما يستند له هؤلاء من دعاوى ثبت إما بُعدها عن الصحة أو إبان الواقع أن لا علاقة لها بالحقائق التى تجرى على الأرض، فمبدأ اللادينية، الذى أطلقته الثورة الفرنسية، بات واضحاً أنه صنع هوةً سحيقة بين الدولة القائمة عليه والفرد بأحاسيسه ومشاعره الروحية.

كما أن ما نراه من شواهد يؤكد أنه ليس هناك مجتمع غربى أو غيره قد نفى الدين عن حياته بصورة كاملة، كاشتراط انتماء الرئيس لدينٍ أو مذهبٍ معين أو الالتزام بطقوس دينية فى تنصيب الملوك والرؤساء أو ما شابه ذلك، فكل ما فى الأمر هو أن هناك تحلل من الضوابط والمحرمات الدينية فى السلوك، لكن يبقى الدين كامناً بأعماق الكل، أفراداً وجماعاتٍ، فالعلمانية بحقيقتها، كما طرح أستاذ الاجتماع بجامعة شيكاغو حسين عجرمة، ليست فصلاً للدين عن السياسة، وإنما طريقة لتحويل الدين لمجال تتدخل فيه وتديره الدولة. 

أما من يتحدثون عن وجود تعارض بين الإسلام والديمقراطية، بمعناها العام أو غيرها من قيم الحُكم الغربية الثمينة، كالحرية مثلاً، ويصفونه بأنه نظام أتوقراطى أو غير نيابى، فكلامهم يعكس فقدان فى القدرة على فهم جوهر النموذج الإسلامى فى الممارسة السياسية، وانصرافاً عن البحث عن المعنى لصالح المبنى، فقيم الديمقراطية والحرية والتعددية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كلها مطروحة وبأسبقية زمنية فى الإسلام، لكن بمسميات وضوابط مختلفة تناسب عقيدته التوحيدية التى تربط الإنسان بخالقه وتنظر للدنيا برؤية المعبر الذى يُوصله بآخرته المأمولة. 

بحث عن جديد

عموماً وبعيداً عن كل ما طرحناه من تنظيرات ومفاهيم حول الدولة ككيان لا يمكن الاستغناء عنه، يصير علينا أن ندرك أن كثيراً منها لم يحقق على الأقل حتى الآن النصر النهائى، فالعالم بكل تباينات نظم حكمه، ما زال يواجه مشكلات فى بنية نظامه السياسى والاقتصادى دون وجود حلول حقيقية لها، والأمل فى طرح جديد قد يأتى من تكرار التجارب أو من قيم تراثية جرى طمسها أو أُسيء استخدامها من قِبل نظم حاكمة تنتظر من ينفض الغبش عنها.

على كُلٍ، فأيما كان شكل النظام السياسى، فإن الدولة لا يكون لها سوى إحدى صورتين طبقاً للفيلسوف البريطانى كارل بوبر، الدولة التى يمكن إسقاط حكومتها بالانتخابات، والدولة التى لا يمكن فيها هذا، بحيث يكون إسقاطها مستحيلاً بالطرق السلمية، وتلك هى الديكتاتورية والاستبدادية، فذاك هو المبدأ الأساسى الذى تدور حوله معاني الديمقراطية أو الشورى بما تحمل من سنن التدافع، وهنا تكون الدولة المدنية التى جاءت يوم أن أصبحت الأمة مصدر السلطات. 

 يونيو المأمول

أيضاً من الأهمية بمكان أن ندرك أن المجتمع هو من يصنع السلطة ويمنحها الحياة، فالمجتمع هو من هيأ لصناعة 30 يونيو ومن قبلها 25 يناير، فالحكومات إفراز طبيعى للشعوب التى تنبت فيها، وهو الذي يفترض أن يحدد مسارها، فالشعب الكريم يصنع من خلال قيمه ومنطلقاته صيغة الاجتماع البشري الذي يتجسد في صورة دولته، وهو الذي يحدد بالتالي مساره التاريخى وشكل الحياة التي يريدها. 

إن علينا بعد تجربة عقد كامل من الزمان أن نعترف بأن دولة 30 يونيو عانت من تصدعات وشهدت تحديات ضربت بنية الدولة المصرية التقليدية، فكان عليها إعادة البناء بتقوية مؤسسات وبناء أخرى، لكنها ستبقى حلقة من حلقات التاريخ التى نأمل أن تأتى لنا ببيئة سياسية مرجعيتها من تراثنا وهويتنا، تجافى التسلط، وتدافع عن عقيدتنا بغير كهنوت، وتقيم دُنيانا بعقل يميز بين مثاليات ساذجة وقيم يجرنا إليها واقع سوداوي، وحكمة تُقدم الضرورات قبل الكماليات، وعدل يحقق معنى المواطنة الحقيقى ويضمن حصول جميع المواطنين الذين يسهمون فى إنتاج ثروة المجتمع على مقومات الحياة بقدرٍ يناسب إنسانيتهم.