الأربعاء 22 مايو 2024

كتلة الحوار.. والحوار الوطني نقلة سياسية لها ما بعدها


د. جمال العسكري

مقالات10-7-2023 | 14:43

د/ جمال العسكرى

أسهم الحراك السياسى حول "الحوار الوطنى" فى إفساح  المجال لعدد من الطاقات السياسية الجديدة، التى تحاول الإفصاح عن ذاتها وما تملكه من رؤى وبدائل تسهم فى مواجهة التحديات الراهنة
الحوار الشامل يفتح الباب واسعا لتحديد طبيعة التحديات بواقعية تخلو من التهويل أو التهوين الذى يصل حد التضليل وعلى هذا يمكن الوصول إلى أكبر قدر من الموضوعية
الحوار الوطنى اختبار حقيقى أمام الكيانات السياسية سواء من مجموع الموالاة أو من مجموع المعارضة، والرهان هنا على قدرة المجموع على إيجاد مناخ من الثقة المتبادلة بين الموالاة والمعارضة

 

يظل الرهان على التاريخ هو أهم ما يمكن أن يعتد به السياسى فى ممارساته متعددة المراحل والتكتيكات، ومن يتابع المشهد السياسى المصرى بدقة لم يكن يخالجه الشك فى أنه لابد من لحظة تاريخية ستفرض بذاتها وجوب ترسيخ ثقافة الديمقراطية، وعنوانه الأكبر فى هذه المرحلة "الحوار الوطنى"، وهو الخيار الأبرز للنظام السياسى فى مصر بوصفه أبرز معبر عن الدولة المصرية وتوجهاتها. ولا بد هنا من تأكيد أمر شديد الخطورة ألا وهو أن الحوار الشامل الجامع لمكونات الدولة شعبا وأحزابا ومنظمات أهلية أخصها منظمات المجتمع المدنى، هذا الحوار بأسئلته مهما علا سقفها إنما هو علامة على قوة هذه الدولة وكذا علامة على استقرارها السياسى والأمنى، فهذه هي علامات قوة الأنظمة السياسية وقوة الدولة بالأخص.

الحوار الوطنى وتحديات الواقع

من هنا نؤكد من جهتنا أهمية هذا الأفق السياسى فى هذه اللحظة فى مواجهة العديد من التحديات على مستوى الداخل المحلي بأزماته المتعددة لعل من أهمها المشكل الاقتصادى، وعلى المستوى الإقليمى المحدود بدائرة الأمن القومى المباشر بأبعاده الاقتصادية والأمنية، وأخيرا على المستوى الدولى العالمى الذى أصبح يتداخل مع المستويين السابقين، بحيث يصعب أمام المحلل في أغلب الأحيان الفصل بين هذه المستويات الثلاثة فى معالجة التحديات عموما؛ سواء منها السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى..إلخ.

فليس من شك فى أن الحوار الشامل يفتح الباب واسعا لتحديد طبيعة هذه التحديات بواقعية تخلو من التهويل (الذى قد يشوب الأصوات المعارضة) أو التهوين الذى يصل حد التضليل (الذي ربما يشوب أصوات المتطرفين فى الموالاة)، وعلى هذا يمكن الوصول إلى أكبر قدر من الموضوعية فى تحديد المشكلات والأزمات ومن ثم طرح البدائل الواقعية اللازمة دون مزايدة من طرف من الأطراف.

الحوار الوطنى ومواجهة التحديات بمشاركة مجتمعية واسعة

وليس من شك فى أن ما يواجهه الواقع المصرى من تحديات كبرى فى اللحظة الراهنة، يمور من ورائها اختلافات واسعة بين النخب السياسية بفعل الاختلاف على مستوى العقائد السياسية والاختيارات التكتيكية.. إلخ، وهو ناتج من نتائج قلق الشارع المصرى الذى يواجه العديد من الأزمات أبرزها كما قلنا المشكل الاقتصادى.. مما يرشح بل ويؤكد ضرورة المسار الديمقراطى الذي أعلنت عنه الدولة من خلال "الحوار الوطنى"  فى مواجهة هذه التحديات كل ذلك ترسيخا لثقافة ديمقراطية عنوانها الحوار باعتدال بعيدا عن أى مزايدة من أطراف الحوار جميعا، وصولا إلى توافق على مسببات المشكلات ومن ثم التعاون في المضى على سبيل الحلول الناجزة العاجلة، ولعل هذا يكون خطوة لها ما بعدها وبخاصة تحقيق المشاركة المجتمعية ما أمكن. بحيث يتشارك مجموع الأمة المصرية، في معالجة واقعهم والتخطيط لمستقبلهم بما يفضى بالضرورة إلى درجة من انتماء المجموع إلى مشروع تنمية مصر دولة ونظاما سياسيا وشعبا.

الحوار وتداول الرأى ومدنية الدولة

ينشغل اغلب النخب السياسية ممن يؤمنون بالديمقراطية بمبدأ: "تداول السلطة" باعتباره العنوان الأكبر على الديمقراطية، وهو تعجل لا نشكك فيه أو فى أصحابه بقدر ما ندعو الجميع إلى قاعدة ذلك الأولى التي لم يتم ترسيخها حتى هذه اللحظة، حتى بين النخب السياسية نفسها فضلا عن الشارع السياسى بأكمله، والقاعدة التى نقصدها هنا هى وجود مناخ ديمقراطى حقيقى يقوم على التزام الحرية وتداول الرأى، على معنى، الوصول إلى قدر من السمو فوق الذاتية والانحيازات الضيقة سواء للفرد أو للمجاميع السياسية: حزبية، ونقابية، منظمات مجتمع مدنى..إلخ. هذا السمو الذى يترجم عنه ويرسخه القدرة على التوافق بل ودعم رأى المخالف إن كان وليدا حقيقيا لهذه الحوارية النشطة التى تضع مصلحة المجموع فوق الاختيار الذاتى والانحياز الضيق على نحو ما أشرنا.

هذا ومصر بذاتها مهيأة لهذا كله وبخاصة أنها لا تعانى من الانقسامات الإثنية أو الإقليمية أو الدينية أو الطائفية..إلخ. فمصر واحدة من الدول المعدودة بين عدد قليل من الدول على مستوى العالم، تلك التى تملك توازنا اجتماعيا يضمن وحدة شعبها في ظل دولة مدنية ديمقراطية تحقق أهداف هذا الشعب فى الرفاة ما أمكن.

وتداول الرأى من هذه الوجهة هو ركيزة الديمقراطية الأولى بل وأساس المدنية، مدنية الدولة الديمقراطية، التى يناط بها حالتئذ أن تكون ميزان الصراع ومنظمة فى الوقت نفسه بين الجهات والتوجهات عموما، بحيث يتحقق النظام المدنى الديمقراطى الذي ينظم الصراع بين المصالح والطموحات المتنافسه في جمع الدوائر سياسية كانت أو اقتصادية..إلخ. ويزداد استقرار الدولة بقدرتها المتجددة على فض خلافات هذا الصراع بطرق ديمقراطية تتأسس على ركائز دستورية وقانونية قوية نافذة، عنوانها الأبرز الشفافية فى عرض الأزمة بأبعادها ثم  المعالجة السريعة الناجزة.

الحوار واختبار الوجود للكيانات السياسية

من المعلوم بالضرورة أن الكيانات السياسية يكون نجاحها مرهونا بمدى تعبيرها عن آمال المنتسبين إليها، وكذا طموحاتهم، بالإضافة إلى قدرة هذه الكيانات على المناورة السياسية في إطار المتغيرات للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية التى توظف لخدمة المجتمع سواء من المنتسبين إليها أو حتى المختلفين معها.

من هنا يصبح الحوار الوطنى اختبارا حقيقيا أمام هذه الكيانات سواء من مجموع الموالاة أو من مجموع المعارضة، والرهان هنا على قدرة المجموع على إيجاد مناخ من الثقة المتبادلة بين الموالاة والمعارضة هذا من جهة، ومن جهة أخرى الثقة بين الدولة المصرية والمجموع من الجهتين، وصولا إلى قدر كاف من التعاون والالتزام العام من الجميع بضرورة الحوار أولا ثم المشاركة المجتمعية الكاملة لتكتيل الجهود في اتجاه واحد دون تشتيت للآراء والجهود، هذا الاتجاه الوحيد هو البناء المستمر والتطوير المستمر لمنظومات الحكم والرقابة والتشريع. الأمر الذى يمنح الكيانات السياسية قدرتها على الاستمرار والممارسة الديمقراطية المدنية الرشيدة. وفى الوقت نفسه يمنح الدولة مناخا سياسيا حرا يمنحها كما كبيرا من البدائل والاختيارات في معالجة العديد من مشكلات الظلم الاجتماعى، وكذا مشاكل الظلم الاقتصادى، وهما أخطر ما يواجه المجموع فى مصر فى هذه اللحظة.

الحوار الوطنى والمرونة المطلوبة فى نظام الحكم

إذا كان الحوار الوطنى رهانا وتحديا أمام الكيانات السياسية، فمن وجه آخر هو تحد خطير يعبر به النظام الحاكم عن قوته وامتلاكه المرونة الكافية للتعامل مع المتغيرات ومن ثم اكتساب أكبر قدر ممكن من التجديد في محددات الرؤى ثم فى طرح البدائل والحلول للمشكلات.

والوصول إلى هذا القدر من المرونة يساهم فى مواجهة العديد من المشكلات التى يمكن أن تهدد أى نظام سياسى من مثل: الفساد القائم على القرابة والمحسوبية، الحد من التطرف فى استخدام السلطة تحت شعار أكثر الدعاوى نبالة ومنها: التحديات الكبرى والمؤامرات، مواجهة التطرف والإرهاب..إلخ. هذا فضلا عن ضمان سيادة الدستور والقانون، بما يمنح المجموع الإحساس الكامل بالمساواة والعدل ومن ثم وحدة هذه المجموع أمام التحديات والاستهانة بأية تضحيات في هذه اللحظة، وليس من شك فى أن الوضع الاقتصادى وأزماته والإلحاح عليه، ناتج فى جانب من جوانبه لافتقاد هذه المرونة التى نشير إليها، وافتقاد الإحساس بالعدالة والمساواة. وهكذا يصبح مدى ما يملكه النظام السياسى من مرونة وسيلة لتبديد التفاوت السياسى والاجتماعى بخطوات دقيقة وحذرة فى الوقت نفسه بما يمنح المجموع إحساسه بالمسؤولية ومن ثم المشاركة الفعالة فى طرح الرؤى والبدائل، ومن ثم تأكيد الثقة في النظام وما يعبر عنه من نظم الإدراة والحكم.

الحوار الوطنى ومسار التنمية على مستوى الوعى الفردى والجمعى

إن تعزيز مناخ الحوار الديموقراطى (ونموذجه هنا الحوار الوطنى) وصولا إلى مرونة فى النظام الحاكم ونضج الكيانات السياسية ورسوخ قدمها فى ممارسة دورها تحت مظلة تداول الرأى وفتح الأفق أمام البدائل والحلول الجديدة، كل ذلك إنما يعزز أمام مجموع أفراد الشعب المصرى بأفراد وكياناته من فكرة المصلحة العامة وجعلها أساسا من أسس الوعى الفردى أولا، لأنه حين تستقر مناخات الديمقراطية ويحس كل فرد بأنه صانع للقرار ومعالج فى الوقت نفسه للمشكلات، يصبح هذا الفرد نفسه من الحرص بمكان على دعم مخرجات هذا الحوار وترسيخها، ومن ثم ينتهى هذا الفصام بين مجموع الشعب والكيانات المعبرة عنه في دوائر السلطة بأجمعها سياسية كانت أو نيابية أو قضائية أو رقابية..إلخ. وفى هذه اللحظة نفسها يصبح المجموع (المتكون ضرورة من الأفراد) مشاركا فاعلا، بل وقادر على تجاوز خلافه السياسي وانحيازاته الضيقة فكرية كانت أو دينية وكذا المكاسب العارضة الصغيرة..إلخ، ومن ثم يصبح هذا المجموع قادرا على تحديد جوهر مصالحه الحاضرة والمستقبلية فى إطار المجموع الذى يشاركه الآمال نفسها قبل الأزمات.

لهذا الذى سبق يمكن للحوار الوطنى وما يترجم عنه من مشاركة اجتماعية شاملة، أن يعزز بالفعل من قيم المصلحة العليا للوطن ومن ثم يمكن للمجموع أن يرى حجم ما يتم إنجازه من مشروعات تنموية، غايتها الصالح العام، بل سيسعى كل فرد إلى المبادرة والمشاركة الفاعلة في هذا السبيل، ذلك أن شعور الفرد بأنه مشارك بالفعل فى مسارات التنمية سواء بالمساهمة المباشرة أو عبر ممثلين له، كل ذلك يجعل منه منتميا بالفعل ومدافعا عن ذلك كله إن تطلب الأمر.

الحوار الوطنى هنا والآن.. خطوة لها ما بعدها

بهذا الذى سبق نستطيع أن نحتفى بالحوار الوطنى الذى بدأت فعالياته منذ أسابيع قليلة ومازال مسرحا لتداول الرأى وطرح الحلول للمشكلات التى باتت تهدد الواقع المصرى، عبر مشاركة مجتمعية سياسية مفتوحة أمام الجميع، تلك التى يمكن أن تبعث فى الحياة السياسية دماء جديدة لها أدبياتها السياسية ومساحات الرؤية الجديدة والمجددة للسياسات وصناعة القرار في مصر، بعد فترة من انعدام الرؤية السياسية التى تستطيع أن تستوعب مختلف الرؤى الأفكار تحت مظلة واحدة هى مستقبل هذا الوطن الذى لن يكتب له الوجود دون مجموع أبنائه تحت راية واحدة هى راية هذا الوطن.

ويكفى دليل على أن  هذا الحراك السياسى الأخير حول "الحوار الوطنى" كان قد أسهم في إفساح  المجال لعدد من الطاقات السياسية الجديدة، التي تحاول الإفصاح عن ذاتها وما تملكه من رؤى وبدائل تسهم في مواجهة التحديات الراهنة التى تواجهها مصر فى الوقت الراهن. ومثالنا هنا هو الإعلان عن "كتلة الحوار" معبرة عن صيغة جديدة في السياسة المصرية بتوصيفها "الليبرالي الاجتماعي" من عدد من السياسيين والمثقفين والتكنوقراط المعنيين بالشأن العام.. حيث يصطف الجميع على خط بداية واحد هدفه العبور إلى مستقبل يليق بمجموع الشعب المصري، مستقبل يهم الجميع لا فارق فيه بين معارض أو موال، الجميع شريك فى صنع القرار كل من موقعه دون التباس فى المواقف أو تمويه في الأدوار، إذ الجميع متأكد من أنه يصنع مستقبلا يليق بدولة لها من التاريخ والحاضر ما يمكنها أن تكون فى مصاف الدول الكبرى.