الأحد 12 مايو 2024

جماليات المكان والعبور إلى حضارة الإنسان دراسة فى تراث الرائد رفاعة رافع الطهطاوى


أ.د. صابر عبدالدايم يونس

مقالات10-8-2023 | 19:36

أ.د. صابر عبدالدايم يونس

● لم يفتن رفاعة الطهطاوي بعلوم الغرب إلى درجة التبعية والتقليد لكل وافد، ولكنه احتفظ بأصالته المصرية وهويته العربية والإسلامية
● لم يقدم الطهطاوى المعارف الجغرافية تقديما صامتا أو جامدا، ولكنه مزج هذه المعارف برؤيته التى تنبئ عن أصالته واعتزازه بحضارته العربية والإسلامية
● كان الدافع لاهتمام الطهطاوى بالمكان وإيقاعه الحضارى هو تحديث المجتمع المصرى تحديثا شاملا
● قدم علماء وأدباء فرنسا شهادات تكريم للشيخ رفاعة تؤكد الدور الحضارى الذى قام به فى تحديث الفكر المصرى والعربى بما قدمه من آثار وجهود علمية
● أطلق الطهطاوى شرارة التجديد وحتمية الانتماء الحقيقى إلى الوطن العريق مصر، وهذا البحث عن الذات حقق له الريادة والاستقلال فى مسيرة التطور الحضارى فى مصر والعالمين العربي والإسلامى


إن البحث عن جماليات المكان ومظاهر التقدم الحضارى بكل ألوانه وأبعاده يؤكد أن الإنسان هو صانع الأحداث، والقادر على إعادة تشكيل العقل والوجدان، وكان حلم رفاعة رافع الطهطاوى متمثلا فى الارتقاء بالعقل العربى، والشرقى إلى آفاق التقدم العالمى ممثلا فى فرنسان.. وباريس.. عاصمة النور فى هذا الزمن منذ قرنين من الزمان.
وتبزغ جهود رفاعة رافع الطهطاوى فى زمن تكاتفت فيه ظلمات التخلف، وسيطر التقليد على جميع مناحى الحياة، فأشرقت شمس الطهطاوى لتنتشر نور الحضارة، وأريج المتفتح فى مصر والعالم العربى.
وللمكان دوره المؤثر فى تحقيق آمال هذا العالم الجسور، وذلك الأزهرى النابغة، وقد تطورت الرؤية التى تجسد دور المكان. وأثره فى العبور إلى تحقيق حضارة الإنسان، فالمكان فى رؤى المفكرين المحدثين يحمل دلالات كثيرة تقشر وتعمق علاقة المكان بالشخصية والزمن، وكل ما يحيط بالإنسان من مقومات الحضارة، فالعلاقة وثيقة بين البيئة أو المحيط المكان وأبعاد الشخصية وجماليات البيئة، واستجد لدى المفكرين ما يعرف بالمكان المهيمن، والمحيط الروحى، والبيئة المؤثرة، وكيفية تصوير المكان، ولغة التصوير، وعلاقة الوصف بالرد والحركة التصويرية.
ومن موافقات الأقدار، والنبوءات المشعة بحركة المستقبل، ومعالم الشخصية أن الرائد المجدد رفاعة الطهطاوى يكون مولده.. عام 1801، وهو العام الدين شهدت خروج حملة نابليون من مصر، وهى أول حملة استعمارية على الشرق ترغم على الانسحاب من مستعمرتها المسلوبة دون شروط، وخرجت هذه الحملة من مصر ومعها صندوق من الرصاص بداخله جثة كلير، خليفة نابليون، فى قيادة الحملة، والذى اغتاله الشاب السورى الأزهرى سليمان الحلبى دفاعا عن الحرية والاستقلال.
إن هذا التوافق النبوءة يكشف.. حلم الإنسان فى تحرير المكان.. وكأنه أبناءها سيحدث فى الغد.. من نبوغ هذا الصبى رفاعة الذى ولد فى ريف مصر.. فى قرية طهطاوى من قلب صعيد مصر، ومن النبوءات الكاشفة عن علاقة الزمان والمكان بالإنسان أن البلدة التى ولد فيها رفاعة قد أعزفت بنادق أهلها القديمة سفينة القيادة لحملة فتح الصعيد التى أرسلها نابليون من القاهرة، فلم تستطع أبدا أن تزعم أنها فتحته، ولكن ولادة رفاعة الطهطاوى كما يقول الكاتب سامى خشبة كانت هى ثالث الأحداث فى ذلك الشهر التى سميت البداية لتاريخ مصر الحديث.
بل ربما كانت ولادته هى الحدث الأكثر أهمية، إذا نظرنا إلى التاريخ بحثا عن أعماقه الحقيقية وأساسه، فإن العمل الذى أنجزه الصبى الصعيدى فيما بعد، هو الذى أعطى المعنى الإيجابى للحدثين الأولين.
وقد تفاعل رفاعة الطهطاوى بعد ذلك حين انتقل إلى الأزهر الشريف مع نبض الحياة الفكرية والعقلية والدينية.. متمثلة فى جهود علماء الأزهر وشيوخه الأجلاء الذين قادوا الثورة ضد الحملة الفرنسية.. وهم يرفعون رايات الدفاع عن مصر منادة العالم العربى والإسلامى، وأصبحت موئل طلاب العلم، ومقصد العلماء من جميع أصفاع العالم.. حينما عصفت بتراث هذه الأمة رياح المغول.. وفضت معاهد العلم فى بغداد، كما غاضت منابع الثقافة العربية والإسلامية فى الأندلس، وفتحت مصر أبوابها للعلماء والطلاب الذين نزحوا إليها من الشرق والغرب فرارا من الظلم والوحشية.
والأزهر الذى نشأه الشيخ رفاعة فى ساحاته العلمية، وشرب رحيق العلم من علمائه الناهضين، أخذ يتبرأ مركز الزعامة الفكرية والثقافية فى مصر والعالم الإسلامى وأصبح مسرحا لنشاط جمهرة من العلماء أفاد منهن الشيخ رفاعة، وتشرب فكرهم المتنوع المتجدد، ومنهم عالم الاجتماع الشهير عبدالرحمن بن خلدون، وعبداللطيف البغدادى، وابن خلكان، والقلقشندى، والمقريزى، والإمام البوصيرى والسيوفى، وابن إياس، والعسقلانى، وغيرهم من كبار العلماء الذين نشرت مصر عليهم ظلالها، فأكسبتهم خلودا فى العالمين، ومن معالم أصالة الثقافة وتنوع الفكر وتجديد الخطاب فى هذا الزمن المبكر والذى تأثر به رفاعة الطهطاوى وتخلى هذا الأثر الحضارى فى جهوده الفكرية ونزعاته الإصلاحية، وريادته للتحديث قبل أن يدرك المحدثون أبعاد التجديد، ومن معالم هذه الأصالة التى نشأ فى رحابها، رفاعة الطهطاوى أن الأزهر كان يدرس العلوم الشرعية واللغوية، وفى الوقت نفسه كما يقول الشيخ أحمد الدمنهورى يدرس الحساب، والميقات والجبر والمقابلة، وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطر لاب، والهندسة، والهيئة وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصديه، وعلم المواليد الثلاثة، وهى الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلم التشريح، وتاريخ العرب والعجم.
وبعد أن خيا ضوء هذه العلوم فى ساحات الأزهر روحا من الزمن.. يقود الشيخ حسن العطار، مسيرة التطوير والتحديث، ويدرس الطبيعة والفلسفة، والمنطق والفلك، وعلوم الجيل، والأدب والرياضة.
ويتأثر الشيخ رفاعة بمنهج أستاذه حسن العطار الذى أوصاه بدراسة هذه العلوم الحديثة، وكان يجمع فى بيته ألمع تلاميذه ومنهم، رفاعة الطهطاوى لكى يتباحثوا فيما عرفوا من علوم الفرنسيين، وأسباب تفوقهم الظاهر على المماليك، وولعهم بالمعرفة والنظام والنظافة.
إن الرائد رفاعة الطهطاوى.. لم يفتن بعلوم العرب إلى درجة التبعية والتقليد لكل وافد، ولكنه احتفظ بأصالته المصرية، وهويته العربية والإسلامية، وذلك فى تأكيده على أن هذه العلوم الحديثة من أصول ثقافتنا، وخصائص نامجنا حيث يقول: إن هذه العلوم الحكمية العلمية التى تظهر الآن أجنبية هى علوم عربية إسلامية نقلها الأجانب إلى لغتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن فى خزائن ملوك الإسلام، أو على حد قولهم بضاعتنا ردت إلينا.
إن هذا الكلام قبل قرنين من الزمن، والواقع يؤكد أننا مازلنا نحاول اللحاق بالتطور العلمى والتقنى فى الغرب.. ولكن حركتنا أبطأ من تطلعاتنا، وجهودنا أقل من طموحاتنا وأفلامنا.
ويتضح تأثر رفاعة الطهطاوى بحركة التحديث فى فرنسا، جيد استجاب لوصايا أستاذه الشيخ حسن العطار الذى أوصاه بضرورة تسجيل كل ما يراه تسجيلا علميا واعيا فدركا أثر مظاهر التحديث العلمى والفكرى والصناعى والعقلى فى تطوير الفكر العربى، ولا عجب أن يؤكد الفرنسيون على هذا المنحى، فالعالم الفرنسى جوهار الذى حفر إلى مصر مع بونابرت فى حملته عليها، وتابع فيما بعد نشاطه بصفته مشرفا على بعثات محمد على إلى فرنسا، ويلقى جومار كلمة فى الطلبة المبعوثين عام 1828م جاء فيها إنكم منتدبون لتجديد وطنكم التجديد الذى سيكون سببا فى تمدين الشرق بأسره، أمامكم مناهل العلم فاغترفوا منها بكلتا يديكم، وهذا هو فبسه المضىء بأنواره أمام أعينكم، فاقتبسوا من فرنسا نور العقل الذى رفع أوروبا على سائر أرجاء الدنيا.
ومن معالم الحرص على الأصالة، والتمسك بالهوية الوطنية أن البعثة التى أرسلت إلى إنجلترا عام 1837 بصحبة أدهم بك رئيس المدفعية كما يذكر عمر طوسون فى كتابه البعثات العلمية فى عهد محمد على..، حدث فيها أن أدهم بك تزيا بزى الإنكليز وحاطاهم فى أحوالهم وعاداتهم فعلم بذلك محمد على فأرجعه مغضوبا عليه منه وقال: إننى بعثته ليعاين فابريقاتهم ويقف على صنائعهم لبثها فى مصر، لا ليقلدهم فى ملابسهم وعاداتهم.
جماليات المكان من معالم حضارة الإنسان
لقد عني الرائد رفاعة الطهطاوى عناية فائقة بتصوير المكان تصويرا علميا دقيقا حسب معلومات عصره، ويؤكد خبرته بعلم الجغرافيا، وتحديد الأماكن والمساحات ليس فى مصر ففط ولكن فى قارات العالم وإلى جانب الجغرافيا اهتم المعلم الأول رفاعة بالتاريخ كما يقول الكاتب سامى خشبة وقال ربما يمكن أن نسميه فلسفة التاريخ، أو علم الاجتماع، أو بنوع من الأنثروبولوجيا علم تاريخ العقائد، واهتمام الطهطاوى بوصف المكان، وتصوير معالم البيئة لم يكن اهتماما عارضا، ولا انطباعات شخصية كما يفعل كتاب أدب الرحلات.. وإنما كان بدافع الشعور بالمسئولية.. وتحديد موقع وطنه من العالم الجديد المحتدين.
والطهطاوى القارئ لروسو، ومونتسكيو بالخصوص كما يقول د. حميد بن عزيز فى دراسته "خطاب الحداثة فى الفكر العربى المعاصر: الطهطاوى أنموذجا" يقول: اجتهد الطهطاوى لصياغة أفكار جديدة متأثرا بمونتسكيو الذى يؤكد فى مؤلفاته روح الشرائح.. على الجغرافيا فى تكوين تلك الشرائع ومن ثمة فكرة قيامها وفكرة انهيارها.
وفى الباب الثالث من مقدمة كتاب تخليص الايريز فى تلخيص باريز يفصل القول فى تحديد أماكن القارات وبين مزية المكان فى حضارة الإنسان ويكتب عيان فى تصدير هذا التفصيل المكانى قائلا:
فى ذكر وضع البلاد الإفرنجية ونسبتها إلى غيرها من البلاد ومزية الأمة الفرنساوية على من عداها من الافرنج وبيان وجه الحكمة فى إرسالنا إليها دون عددها من ممالك الإفرنج.
● ثم يفصل القول فى تحديد أماكن القارات ويستخدم مصطلحات وأسماء كانت موجودة فى عصره قائلا: اعلم أن الجغرافية من الإفرنج قسموا الدنيا من الشمال إلى الجنوب، ومن المشرق إلى المغرب خمسة أقسام بلاد أوروبا وبلاد آسيا وبلاد: الأفريقية وبلاد: الأمريكة "أمريكا" وجزائر البحر المحيط المسماة الأوقيانوسية ولعله بقصد أندونيسيا وبلاد الملايو.
ويعلق: الطهطاوى على المترجمين ويوضح أخطاءهم فى تحديد الأماكن والأسماء قائلا: فمن ذلك نعلم زن تفسير بعض المترجمين بلاد أوروبا وبلاد الإفرنج فيه قصور: اللهم إلا أن تكون بلاد الإفرنج تطلق على ما يعم الدولة المحلية، ولكن كما يقول يناقضى ذلك أن مترجمى الدولة العثمانية يقصرون بلاد "أفرنجستان" علىما عدا بلادهم من بلاد أوروبا ويسمون بلادهم ببلاد الروم وإن كانوا يعممون أيضا فى لفظ الروم فيريدون به بعض الأحيان ما يهم بلاد الإفرنج وبعض البلاد الداخلية فى حكمهم من بلاد آسيا.
إن هذه المراجعة وذلك التقويم يؤكد حرص: الطهطاوى على تحرى للحقيقة ويرى قاعدة فى منهج البحث العلمى وهى جزورة الاستقرار والموازنة ثم الاستنباط والوصول إلى النتجية الصحيحة.
ولم يقدم الطهطاوى المعارف الجغرافية تقديما صامتا أو جامدا، ولكنه مزج هذه المعارف التى تتضمن مظاهر التقدم العمرانى والتكنولوجى، قد مزج هذه المعارف برؤيته التى تنبئ عن أصالته واعتزازه بالحضارة العربية والإسلامية وهى فى أوج ازدهارها يقول منوها بمظاهر فى العالم الاسلامى قبل العالم الأوروبى ويلاحظ أنه استخدم مصطلح السياحة استخداما حضاريا وهو يعنى سرعة الحركة والقدرة على التنقل بين القارات فى أسرع وقت وذلك عبر الح؟؟؟؟؟؟ أو الاجواء أو غير ذلك من المخترعات الحديثة يقول فى عاطفة إيمانية صادقة ومما قام مقام آلات السياحة قبل ابتداعها وناب عن أدوات الملاحة قبل اختراعها الأنوار المحمدية، والغيرة الإسلامية بل والمعارف الوافرة فى العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية فى زمن الخلفاء العباسية ففتحوا بلاد مصر والسودان والمغرب والحجم وبلا قابول وبخارى والهند والسند وجزائر سيلان وسومطره وبلاد التبت والصين وعدة ولايات ببلاد أوروبا مثل ممالك الأندلس أو صقلية وبلاد الروم.
 وتقدمت عندهم العلوم الجغرافية واشتهر من علماء الجغرافية كثيرون كالمسعودى وابن حوقل والشريف الإدريس وابن الوردى والسلطان عماد الدين أبى الفدا صاحب حماة.
وبعد أن يفصل القول المصور لمقومات المكان وحدوده وميزاته وسلبياته فى قارات العالم.. يقول موضحا موقفه من ائتمانه الجغرافى إلى قارة آسيا ومعتز بحضارته.
وأما بلاد آسيا فإنها منبع بلاد الإسلام بل وسائر الأديان، وهى أوطان الأنبياء والمرسلين، وبها نزلت سائر الكتب السماوية وهى تتضمن أشرف الأماكن والأرض المباركة والمساجد التى لا تشد الرحال إلا إليها.
وبها يعنى ببلاد آسيا العرب وهم أفضل القبائل على الإطلاق ولسانهم أفصح الألسن باتفاق وفيهم بنو هاشم الذين هم ملح الأرض وزبدة المجد ودرع الشرف.
المكان والإنسان وإيقاع الحضارة
إن اهتمام الطهطاوى بالمكان وإيقاعه الحضارى كان الدافع إليه هو تحديث المجتمع المصرى تحديثا شاملا فكتابه تخليص الإريز في تلخيص باريز كتبه عام 1930 وهو ابن التاسعة والعشرين وقدم مخطوط هذا الكتاب إلى لجنة الامتحان معع خصوص 12 اثنى عشر كتابا أو فضولا من كتب قام بترجمتها خلال سنوات الدراسة الخمس تشمل جوانب من علوم التاريخ والتعدين والجغرافيا أو علم الاجتماع والهندسة المدنية وفنى القيادة العسكرية والقانون العام، وفلسفة القانون والميثولوجيا اليونانية، والصحة العامة وتقويم البلاد بالإضافة إلى المخطوطة الكاملة لكتاب تخليص الإيريز الذى يقوم فيه اكتشاف للحضارة الغربية: تاريخها وأصولها ومؤسساتها السياسية والثقافية والاقتصادية والتشريعية والقضائية وأدبها وأصول السلوك والعادلت فى وحقوق الأفراد ووجهه نظرة النقدية والموضوعية فى كل ذلك.
والرصد الجمالى للمكان فى باريس يقدمه فى الفصل الأول من المقالة الثالثة ويجعل عنوانه فى تخطيط باريس من جهة وضعها الجغرافى وطبيعة أرضها ومزاج إقليمهما وقطرها.. ويمتلك الطهطاوى الجيزة اللغوية فى اللغة الفرنسية فترة يحقق لقط باريس وكيف ينطق عند الفرنسين بدون السين أو الزاى ولديه قدره على المقارنة من اللغات ويتكلم عن النسبة حسب القاعدة العربية والقاعدة الأعجميا وكان الطهطاوى يرصع معلوماته بالشعر العربى من تأليفه ومن مختارته من أشعار الآخرين وهذا شائع فى كتابه ويحتاج إلى بحث مستقل: يقول مدللا على أن ينطق باريس بالسين.
لئن طلقت باديا ثلاثا .. فما هذا لغير وصال مصر 
ويقدم الطهطاوى معلومات جغرافية دقيقة حسب معارف عصره منذ مائتى عام.. ومن ذلك قوله: وهى باريس موضوعة في التاسعة والأربعين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالى يعنى أنها بعيدة عن خط الاستواء جهة الشمال لهذا القدر.
والمسافة بين باريس وإسكندرية سبعمائة وتسعة وستون فرسخا وبينها وبين القاهرة ثمانمائة وتسعة فراسخ وبينها وبين مكة المشرفة سبعمائة وأربعون فرسخا .. إلخ.
ويربط الطهطاوى بين المناخ ومزاج الإنسان فيقول:
وأما المطر فإنه لا ينقطع فى هذه المدينة فى سائر فصول السنة وتغير مزاج الهواء والزمن فى باريس أمر عجيب فإنه قد يتغيرون اليوم الواحد أو ما بعده حال الزمن مثلا يكون فى الصباح صحو عجيب فلا يمضى نصف ساعة إلا ويذهب بالكلية ويخلقه المطر الشديد وهكذا فقل أن يأمن الإنسان تغير الوقت بهذه البلاد فمزاجها كمزاج أهلها.
وأقاضى الطهطاوى فى وصف معالم باريس ومنها تهز السين والحمامات ونظافتها والقهاوى وكذلك مدينة مرسيليا وجزيرة كريت وصقلية وصور معالم مدينة الإسكندرية.
وأسهب فى تاريخ الإسكندرية وقدم كثير من الأساطير التاريخية التى تروى عن بنائها.. ونده بأنه يوجد ستة عشر بلدا اسمها الإسكندرية فى العالم وقبل عشرون بلدا وقال: وقد تغلبت عليها الفرنسيس ثم أخرجهم الإنكليز منها ورجعت إلى يد الإسلام ومن الآن يلوح عليهم أنوار العمارات وبها بهجة التجارة كما أنها كانت فى الزمن السابق مركزا للتجارات وصارت فى هذا الوقت دار إقامة الحاكم فى أغلب الأوقات وهى أشبة وضعا وعمارة ببنايات الإفرنج.
وقدم علماء وأدباء فرنسا شهادات تكريم للشيخ رفاعة الطهطاوى تؤكد الدور الحضارى الذى قام به فى تحديث الفكر المصرى والعربى بما قدمه من آثار وجهود علمية نافعة ومن هؤلاء: مسيو جومار حيث يكتب إليه رسالة قائلا:
إلى محبنا العزيز الشيخ رفاعة: لا يخفى عليكم الأمر الوارد من الوالى المتعلق بالأوراق المشتملة على الدورس التى قرأتموها فدم على ما أنت عليه من المواظبة، ولا يخفى علىّ اجتهادك ولا أجهل قدر ثمرة تحصيلك (جومار باريس 25 محرم 1246 هى 15 يونيه).
وأما مسيو دى ساسى.. فقد تعددت الرسائل بينه وبين الشيخ رفاعة ومن ذلك رسالته إلى حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوى حفظه الله وأبقاه: أما بعد فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشمل على حوادث سفرك وقال فى رسالة تالية: حق لى أن أقول: إنه يظهر لى أن صناعة ترتبية عظيمة وأنه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهما صحيحا عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية.
ويثنى كوسين دى بدسوال على جهد الطهطاوى فى كتاب تخليص الإبريز قائلا: قرأت بالتأمل مؤلف الشيخ رفاعة الملقب بتخليص الإبريز فى تلخيص باريز فوجدته يتضمن حكاية صغيرة فى سفر المصريين المبعوثين إلى فرنسا.
وقد ظهر لى أن هذا التأليف يستحق كثيراً من المدح، وأنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالى بلد المؤلف "وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام ويدخل عندهم الرغبة فى المعارف ويؤكد عندهم محبة التمدن الإفرنجي والترقى فى صنائع المعاش (ص  215 تخليص الإبريز فى تلخيص باريز)
من معالم أصالة الفكر واستقلال الذات لدى الطهطاوى 
إن رائد الفكر الحضارى التنويرى الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى أطلق شرارة التجديد وحتمية الانتماء الحقيقى إلى الوطن العريق مصر.. وهذا البحث عن الذات حقق له الريادة والاستقلال فى مسيرة التطوير الحضارى من مصر والعالمين العربى والإسلامى إنه مهد الطريق للمفكرين الكبار فى مصر وفى مقدمتهن د/محمود شاكر والأديب الكبير/مصطفى صادق للرافعى.
ويقول عنه د/على مطاوع فى دراسته القيمة المنشودة بجريدة الأزهر العزاء.
غاب عنا الذى لم يتهره حضارة الغرب كى يستغرق فى نتاجها ككل بل آمن بالعقل قدر إيمانه بالعقيدة يحلل ويوازن ويعلل فيأخذ النافع الجديد الذى ترقى به الأمم دون أدنى صدام مع أسس العقيدة الراسخة.
ومن معالم أصالة الفكر واستقلال الذات لدى الطهطاوى.
أبذل الجهود فى سبيل تعريب العلوم، حيث استمر مواصلا التعريب مع طلابه عندما أسس مدرسة الألسن واختار لها خمسين من الطلاب وإذا ما انتهى المعرب من مادة كانت تعرض على مراجع متخصص ليطلع على دقة التعريب وأصالة اللغة العربية وهذا التوجه المبكر يدفعنا إلى تستعيد هذه الإرادة ونسعى إلى تعريب العلوم ولدينا مجامع اللغة العربية ومدرسة الألسن وأقسام اللغات بالجامعات المصرية.
يؤكد الرائد رفاعة الطهطاوى على أهمية التربية الأخلاقية وهى فى منهجه لا تقتصر على عوام الناس وإنما تشمل أبناء الملوك والرؤساء وكل طوائف المجتمع وكتابه "المرشد الأمين" خيراً نموذج لذلك التوجه الحضارى الأخلاقى التربوى وهى الدعوة إلى إنصاف المرأة، وتمكينها من حقوقها المشروعة ومنها حق التعليم لمشاركة الرجل فى الحياة العملية والعائلية ويؤكد حقها فى العمل ويرى أن العمل يصون المرأة عما لا يليق ويقدسها من الفضيلة.
وبعد فهذه قبسات من أضواء المعلم الأول: الطهطاوى الأزهرى الذى قهر التخلف وسبق كل المفكرين والكتاب فى نزعته الإصلاحية التنويرية وتمسكه بأصالته، وهويته وانتمائه إلى وطنه مصر وإيقاظ عزائم الشباب لبناء المستقبل المنشود.
 

Dr.Radwa
Egypt Air