الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

مقامات الحضور التراثى.. فى حياة رفاعة الطهطاوى وكتاباته


رفاعة الطهطاوى

مقالات11-8-2023 | 10:32

د. حسام أحمد عبد الظاهر

كان لرفاعة الطهطاوى قراءات تراثية واسعة، وهو الأمر الذى يظهره ما تركه من مكتبة عامرة، تنقلت فى أكثر من مكان حتى استقرت فى مدينة سوهاج

  • على الرغم من تعدد المشروعات الخاصة بإحياء التراث العربى فى العصر الحديث، إلا أن مشروع الطهطاوى يعتبر من أوائل المشروعات المصرية فى هذا السياق
  • كانت ظاهرة السجع فى عناوين المؤلفات التراثية العربية اتجاهًا غالبًا طوال تاريخ حركة التأليف فى الحضارة العربية الإسلامية

 

 

اهتم الكثيرون ممن كتبوا عن رفاعة الطهطاوى (1801- 1873م) بالحديث عن معْلَمين كبيرين من معالم دوره التحديثى، وهما التأليف والترجمة، غير مبرزين روح عامة تخللت جهوده الفكرية والثقافية، تمثلت في حضور التراث حضورًا قويًّا في حياته وكتاباته، وهو ما يحاول هذا المقال نفض التراب عنه، خاصة مع ظن البعض أن الطهطاوى بوصفه رائدًا للتحديث والنهضة فى مصر فى القرن التاسع عشر لم تتشرب نفسه آفاق التراث العربى الكثيرة أو أنه أدار ظهره لهذا، وأن توجهه الأساسى فى مشروعه كان قائمًا على فكرة التوجه إلى الغرب قلبًا وقالبًا. وهذا الظن يتجاوزه الصواب، والمطالع لسيرة الطهطاوى يجد التراث العربى الإسلامى حاضرًا بقوة فى حياته وكتاباته. وهذا الحضور يمكن رصده عبر آفاق أو مظاهر أو مقامات كثيرة، منها:

أولًا- مقام الدراسة الأزهرية

    بعد أن أتم الطهطاوى حفظه للقرآن قام بحفظ المتون التراثية المتداولة فى المعقول والمنقول، وذلك بمساعدة أخواله الذين كانوا من علماء الأزهر. وقد التحق رفاعة بالجامع الأزهر سنة 1817م عندما بلغ عمره السادسة عشرة، وفى الأجازة الصيفية من عامه الدراسى الأول كان يجلس فى الجامع اليوسفى فى مدينة (ملوى) يُلقي دروسًا يشرح فيها كتبًا تراثية، مثل كتاب (صغرى الصغرى) للسنوسى (ت895هـ/ 1490م).

    وأثناء دراسته الأزهرية درس الكثير من الكتب التراثية؛ فقد تلقى (صحيح البخارى) على الشيخ الفضالي (ت1236هـ/1820م)، كما أخذ  عن  الشيخ حسن القويسني (ت 1254هـ/1838م) كتابى (جمع الجوامع)، و(مشارق الأنوار)، وتلقى كتاب (الحكم العطائية) لابن عطاء الله السكندرى على الشيخ البخارى (1256هـ/1840م)، وحضر كتابى (مغني اللبيب) و(جمع الجوامع) على الشيخ محمد حبيش (ت1269هـ/1852م)، كما حضر (شرح ابن عقيل) على الشيخ الدمنهورى (ت1286هـ/1869م).... إلى غير ذلك من كتب تراثية في علوم وفنون مختلفة.

    وبعد تخرجه سنة 1821م جلس للتدريس بالجامع الأزهر، وشمل تدريسه كذلك كتبًا تراثية، منها (المعجم الوجيز في أحاديث الرسول العزيز) لعبد الله بن إبراهيم الميرغنى (ت1193هـ/ 1779م). يقول تلميذه صالح مجدي واصفًا مجالس تدريسه: "كان درسه غاصًا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم إلا من استفاد منه، وبرع في جميع ما أخذه عنه".

ثانيًا- مقام الاقتناء

      كان لرفاعة الطهطاوى قراءات تراثية واسعة، وهو الأمر الذى يظهره ما تركه من مكتبة عامرة، وهى المكتبة التي تنقلت في أكثر من مكان حتى استقرت في محطتها الأخيرة فى مدينة سوهاج. وهذه المكتبة خير مؤشر على اهتمامات الطهطاوى وجوانب شخصيته العلمية؛ والمكتبة دائمًا هى عقل صاحبها التي يعاودها قارئًا ومؤلفًا ومترجمًا. وتحتل المخطوطات المكانة الأولى في مكتبة الطهطاوى، وتضم وفقًا لبعض الإحصائيات 1437 مخطوطًا.

   وتظهر أهمية مجموعة مخطوطات مكتبة رفاعة فيما رصده الدكتور أحمد جمعة في رسالته للدكتوراة عن هذه المجموعة، إذ خرج بنتائج مهمة منها أن المكتبة تضم 68 مخطوطًا بخطوط مؤلفيها، و62 مخطوطًا كُتبت فى حيوات المؤلفين، و24 مخطوطًا منقولة ومقابلة على نسخ المؤلفين، و52 مخطوطًا نسخها علماء وأعلام مشهورين... إلى غير ذلك. ومثل هذه النتائج تعكس عناية الطهطاوى وحرصه على الاختيار الدقيق للمخطوطات التي يقتنيها من ناحيتى الندرة والأهمية. وتأتى المخطوطات الدينية على رأس القائمة، يليها المخطوطات الأدبية، ثم المخطوطات التاريخية ... ثم تجىء الجوانب التراثية الأخرى بدرجات أقل.

    ومن المخطوطات التي كُتبت بخط مؤلفيها في مكتبة الطهطاوي: (البهجة الوردية) لابن الوردى (ت749هـ/1349م)، و جزء من كتاب (فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبى (ت764هـ/1363م)، و(داعى الفلاح إلى سبل النجاح) لسبط المرصفى (ت965هـ/1557م)، و(خصائص الغرر ونقائص العرر) لابن الجزرى (ت1033هـ/1624م) ... وغيرها.

    ومن المخطوطات المنسوخة في حياة مؤلفيها: جزءان من كتاب (فتح الباري) لابن حجر العسقلانى (ت852هـ/1449م) وهما منسوخان قبل وفاته بعشر سنوات، وكتاب (اللآلئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة) للسيوطى (ت911هـ/1505م) المنسوخ قبل سنة من وفاة مؤلفه.

    ومن المخطوطات القيمة أيضًا تلك التى نسخها علماء أو أعلام بارزون، ومما يمثلها فى مكتبة رفاعة: (المحدث الفاصل بين الراوى والواعى) للرامهرمزى (ت 360هـ/ 970م)، والذى نسخه شرف الدين الميدومي (ت683هـ/1284م)، وكتاب (مختصر السجاعى على قصيدة امرئ القيس) الذى نسخه الطهطاوى نفسه.

ثالثًا- مقام الإحياء

    على الرغم من تعدد المشروعات الخاصة بإحياء التراث العربة فى العصر الحديث، إلا أنه يبرز منها مشروع الطهطاوى باعتباره من أوائل المشروعات المصرية فى هذا السياق، وتصدى فيه لطبع  مجموعة من الكتب التراثية غير المتاحة أو "عديمة الوجود" على حد تعبير على مبارك في خططه. وقد نجح الطهطاوى في إقناع الحكومة المصرية خاصة الأمير سعيد باشا على تحمل نفقة هذا الطبع، لتكون هذه الكتب مفيدة على جانبين: أولهما علماء الأزهر الشريف وطلابه، وثانيهما غيرهم من القراء وطلاب العلم. ومن أبرز المصححين الذين عملوا فى هذا المشروع الشيخان قطة العدوى، ونصر الهورينى.

     ويأتى على رأس هذه الكتب التي تضمنها هذا المشروع الطموح وطُبعت في خمسينيات القرن التاسع عشر: (المقامات الحريرية) للحريرى (ت516هـ/ 1122م)، و(مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازى (ت606هـ/ 1209م)، و(الفتوحات المكية)، لابن عربى (ت638هـ/1240)، و(المقدمة) لابن خلدون (ت808هـ/1406م)، و(القاموس المحيط) للفيروزأبادي (ت 817هـ/ 1415م)، و(خزانة الأدب) لابن حجة الحموى (ت837هـ/ 1434م)، و(المستطرف فى كل فن مستظرف) للأبشيهى (ت850هـ/1448م)، و(معاهد التنصيص فى شرح شواهد التلخيص) لأبى الفتح العباسي (ت963هـ/1556م)... وغيرها.

رابعًا- مقام الاستشهادات التراثية

   استخدم الطهطاوى فى كتاباته المختلفة المادة التراثية على نحو بارز، وفي نص مهم للطهطاوى فى كتابه (مناهج الألباب المصرية) أوضح أهدافه وغاياته من استشهاداته التراثية المتنوعة قائلًا: "اقتطفتها من ثمار الكتب العربية اليانعة... وعززتها بالآيات البينات، والأحاديث الصحيحة والدلائل المبينات، وضمنتها الجم الغفير من أمثال الحكماء، وآداب البلغاء، وكلام الشعراء، من كل ما ترتاح إليه الأفهام، وتنزاح به عن الذهن الأوهام، وتتأيد به السعادة، وتتأبد به السيادة، وبالجملة فقد أودعتها ما يكون لأهل الوطن ذخرًا، ويعقبه النجاح دنيا وأخرى".

    وفي استشهاداته سواء القصيرة أو الطويلة يفصح رفاعة أحيانًا صراحة عن هذه المصادر، وأحيانًا أخرى يكتفي بالقول: "قال المؤرخون"، أو "قال المفسرون"، وأحيانًا ثالثة لا يذكر المصادر التي ينقل عنها على الرغم من أنه ينقل بعض الروايات بين علامتي التنصيص مذيلة بكلمة "انتهى" الدالة على انتهاء النقل من بعض المصادر.

    وعلى الرغم من أن الطهطاوى لم يقم بإفراد صفحات في بدايات كتبه أو نهاياتها تتضمن قائمة بالمصادر التي رجع إليها إلا أنه يمكن بتصفح مؤلفاته معرفة هذه الكتب. وقد حاولت حصر الكتب التراثية التى استخدمها الطهطاوى وذكر عناوينها صراحة في مؤلفاته، فوجدتها تبلغ مائتى كتاب تقريبًا، ويحتل كتاب (نهاية الإيجاز) الموقع الأكبر في الاعتماد على المصادر التراثية، يليه كتاب (مناهج الألباب)، ثم كتاب (المرشد الأمين)، ثم تأتى الكتابات الأخرى بعد ذلك.

     والكتب التي استخدمها الطهطاوى تتوزع بطبيعة الحال على فنون تراثية مختلفة، غير أن معظمها يندرج ضمن ثلاثة اتجاهات تراثية هى: التراث الأدبى، والدينى، والتاريخى.      والملاحظ أن الطهطاوى فى استشهاداته عامة كان إذا تصرف فى  النقل اختصارًا أو دمجًا أو أسلوبًا يذكر أن النقل "بتصرف"، ومن معالم طريقته في ذلك حذفه لمعظم أسانيد المرويات، وانتقاؤه لبعض الروايات دون البعض الآخر.

خامسًا- مقام سجع العناوين

    يُعتبر العنوان ركنًا أساسيًّا من أركان الكتاب، وهو أشبه ببرقية يوجهها المؤلف لتنبئ عن الكتاب وموضوعه والقصد من تأليفه في أضيق حيز ممكن من الكلمات. وفي علم السيميوطيقا يتم الاهتمام بالعناوين باعتبارها إحدى مفاتيح فهم النصوص ومضمونها واتجاهاتها.

    وكانت ظاهرة السجع في عناوين المؤلفات التراثية العربية اتجاهًا غالبًا طوال تاريخ حركة التأليف فى الحضارة العربية الإسلامية خاصة منذ القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادى، مع وجود بعض الاستثناءات. وسجع العناوين يكفل لها فواصل تتسم بالتجانس والتوازن من ناحيتي عدد الكلمات وأصواتها من حيث الإيقاع والسكنات.

     وقد سار رفاعة على المنوال التراثى العربي في وضع العناوين المسجوعة لمؤلفاته، ومنها: (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، أو (الديوان النفيس بإيوان باريس)، و(مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية)، و (المرشد الأمين للبنات والبنين)، و(نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز).

    ولم يقتصر السجع على عناوين مؤلفاته وحدها، بل توافر كذلك فى عناوين المترجمات أيضًا، مثل: (قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر)، و(مواقع الأفلاك فى أخبار تليماك).

سادسًا- مقام التأليف الموازى

   الذى ينظر إلى قائمة مؤلفات الطهطاوى يُلاحظ بقوة تأثره بمظاهر حركة التأليف التراثية، وهو الأمر الذى يمكن تلمسه عبر أكثر من اتجاه، ومنها:

  1. التهذيب والاختصار والإيجاز: ويظهر في تأليفه (مختصر معاهد التنصيص).
  2. الشرح: ويبينه قيامه بشرح (لامية العرب).
  3. وضع خاتمة لبعض الكتب التراثية: ومن ذلك تأليفه زمن حضوره بالأزهر خاتمة لكتاب (قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام (ت761هـ/ 1360م).
  4. تخميس القصائد: مثلما فعل مع قصيدة نبوية لعبد الرحيم البرعى (ت 803هـ/ 1400م).
  5. التأليف على المنوال: ويتمثل ذلك فى نظمه (أرجوزة في التوحيد)، وفى منظومته (جمل الأجرومية)، أما كتابه (تخليص الإبريز) الذي يمثل رحلته إلى باريس، فيشبه على نحو ما بعض كتب الرحلات التراثية المعروفة خارج إطار العالم الإسلامى.
  6. الترجمة: يمكن النظر إلى اضطلاع رفاعة بعمليات الترجمة الواسعة التى قام بها أو أشرف عليها نظرة تراثية، من حيث اقتدائه بحركة نهضة الترجمة إلى العربية في العصر العباسي.
  7. الإكمال أو المزاوجة بين الترجمة والتراث: ومن ذلك قيامه فى بعض الكتب التي ترجمها بعض تلامذته بإيراد نصوص مطولة من المصادر التراثية العربية لاستكمال النقص الذي وجده فى هذه الكتب، ومن النماذج الواضحة لذلك كتاب (بداية القدماء وهداية الحكماء).

خاتمة

    إن هذه المقامات السابقة تمثل ركائز أساسية يمكن من خلالها معرفة الموقع المتميز للتراث في مشروع الطهطاوي التجديدى، وهو بذلك يُعتبر في صورة من الصور قلب المشروع الذى تخرج منه كافة الروافد. وأرى أن طغيان الحضور التراثى فى كتابات الطهطاوى يرجع إلى محاولاته التوفيقية بين الثقافتين العربية والغربية؛ إذ أنه فى استشهاداته التراثية عمل جاهدًا على أن يُظهر عدم وجود الاختلاف أو التعارض بين ما هو موجود بين هاتين الثقافتين. إن موقع رفاعة كما تبينه مقامات الحضور التراثي التى عرضت لها فيما سبق يظهر في أنه ليس مع أى قطاع يدعو إلى القطيعة مع التراث من ناحية أو القطيعة مع الحضارة الأوروبية من ناحية أخرى؛ إذ إنه يقع في موقع وسط بين هذا أو ذاك أو منزلة بين المنزلتين، وهو موقع يدعو إلى التمدن عن طريق الجمع أو المزاوجة بين الناحيتين، مع توافر اتجاه نقدى في التعامل مع كل ناحية منهما.