الخميس 23 مايو 2024

جهود الطهطاوي المسرحية المجهولة


سيد على إسماعيل

مقالات11-8-2023 | 10:59

د. سيد على إسماعيل

 

  • ما كتبه عبد الله أبو السعود أفندى صاحب مجلة وادى النيل  يثبت أن رفاعة الطهطاوى لم يشرف على ترجمة مسرحية "هيلانة الجميلة".. بل هو نفسه المُترجم!
  • إن الشيخ رفاعة رافع "هيلانة الجميلة»؛ هى أول عمل مسرحى إبداعى يقوم الطهطاوى بترجمته.. وهو مجال جديد يُضاف إلى تاريخه وإنتاجه العلمى المُترجم
  • ترجم الطهطاوى المسرحية عام 1868، وهو ما يجعلنا نقرّ بأن الطهطاوى أول مصرى يترجم مسرحية؛ مما يعني إنه رائد الترجمة المسرحية فى مصر

التياترو الفرنسى بالقاهرة والمعروف بالكوميدى الفرنسى – ومكانه حالياً مبنى بريد العتبة - بدأ عروضه المسرحية فى يناير 1869، أى قبل افتتاح الأوبرا الخديوية بعدة أشهر، لأن الأوبرا افتتحت في نوفمبر 1869. وهذا معناه أن أية أخبار تتعلق بالمسرح أو التمثيل في القاهرة قبل نوفمبر 1869 لا بُد وأنها تخص التياترو الفرنسى فقط! وبناءً على ذلك وجدت وثيقة – فى دار الوثائق القومية مؤرخة فى 15 رجب 1286 الموافق 21/10/1869 - عبارة عن أمر من الخديوى إسماعيل صادر من سراى قصر النيل، هذا نصه:

"أمر كريم منطوقه ناظر مطبعة بولاق كتب لمعيتنا في 29 الماضى بشأن مبلغ تسعة آلاف وثلثمائة وخمسين قرشا وعشرة فضة ثمن ألف وخمسمائة كتاب فصل التياترو تقدم طبعهم تركى وعربى. وحيث إنه فى مقتضى إرادتنا تسديد هذا المبلغ من الخاصة إلى المطبعة أصدرنا أمرنا هذا إليكم لتجروا تسديد المبلغ المذكور على وجها ذكر. وبما أن تلك الكتب باقى منها جانب بعد الذى صار تفريقه فالباقى المذكور مرسول إلى الخاصة لإبقاه".

هذه الوثيقة تُعدّ كشفاً ثميناً؛ لأنها تثبت أن مطبعة بولاق طبعت ألف وخمسمائة نسخة من نص مسرحي باللغتين العربية والتركية، وهذه النسخ تم توزيع أغلبها، ولم يبق منها إلا القليل. والمسرحية المطبوعة من المؤكد أنها إحدى المسرحيات التي تمّ عرضها في التياترو الفرنسى، ومن المحتمل أنها مسرحية الافتتاح، وتم توزيع نسخها على الجمهور! ورغم منطقية هذا التفسير؛ إلا أننا لم نقرأ أن العرض المسرحى الأول بالتياترو الفرنسى - أي مسرحية الافتتاح - كانت باللغة العربية أو التركية! والاحتمال المقبول لهذا الأمر، هو أن النسخ المطبوعة بالعربية والتركية، ما هى إلا ترجمة عربية وتركية لنص مسرحى فرنسى تم عرضه فى التياترو الفرنسى!

اكتشافى لهذه الوثيقة، جعلنى أعود إلى كتاب فيليب سادجروف «المسرح المصري في القرن التاسع عشر»، وفيه قال سادجروف عن الترجمات المسرحية الأولى في مصر: "... كانت أول ترجمة من هذا النوع ترجمة أوبريت «أوفنباخ Offenbach» «هيلين الجميلة La Belle Hélène»، التي نشرت في 1869م، تحت إشراف الطهطاوى". وعندما عدت إلى المصدر الذى استقى منه سادجروف هذه المعلومات، وجدته مقالة منشورة في مجلة «وادي النيل» بتاريخ 6/1/1871، تحت عنوان «في نوع اللعب النفيس المُسمى بقضاء باريس»، وهى مقالة كتبها صاحب المجلة «عبد الله أبو السعود أفندى» عن أوبرا «قضاء باريس»، التي ستعرض فى دار الأوبرا الخديوية. والغريب أنني لم أجد في المقالة المعنى الذى كتبه سادجروف؛ بأن الطهطاوى أشرف على ترجمة «هيلين الجميلة»، بل ما وجدته يثبت أن الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى هو نفسه مُترجم المسرحية!!

يقول أبو السعود أفندى في هذه المقالة، صراحة: ".. ها هو قد شرع في نشر هذه البدعة الجليلة بترجمة اللعبة المسماة باسم «هيلينة الجميلة»، وانتشرت من العام الماضى في أفق الأدبيات، وظهرت فى أجمل حلل الحسان العربيات. اعتنى بتعريبها بأمر الحضرة الخديوية، وتقريبها لإفهام غواة تلك التصويرات اللعبية، الأديب الشهير والأستاذ الكبير حضرة رفاعة بك أفندى أستاذ كل من له في الديار المصرية معرفة بالعربية واللغات الأجنبية". وهذا القول الصريح، يثبت لنا أن الشيخ «رفاعة رافع الطهطاوى» ترجم مسرحية «هيلينة الجميلة» بأمر من الخديوى إسماعيل! وهذا الخبر لا شك فى صحته؛ لأن كاتبه أبو السعود أفندى من رجال المسرح - فهو مُترجم مسرحية «عايدة»، التي عرضت بالأوبرا الخديوية لأول مرة عام 1871 – بالإضافة إلى أنه من أهم تلاميذ الشيخ رفاعة وأقربهم إليه فى هذه الفترة!

والمعروف أن موضوع ليبرتو «هيلانة الجميلة La Belle Hélène» مأخوذ من الأساطير اليونانية، كتبه عام 1864 الفرنسيان: «هنري ميلهاك Henri Meilhac) و(لدوفك هاليفري Ludovic Halévy»، من تلحين الموسيقار «جاك أوفنباخ Jacques OFFENBACH». وبناء على ذلك، نستطيع أن نقول: إن الشيخ رفاعة رافع الطهطاور ترجم «هيلانة الجميلة»؛ بوصفها أول عمل مسرحى إبداعي يقوم بترجمته. وهذا المجال؛ يُعدّ مجالاً جديداً يُضاف إلى تاريخ الشيخ رفاعة الطهطاوي وإلى إنتاجه العلمى المُترجم. وإذا علمنا أن الطهطاوى ترجم المسرحية عام 1868 – كما سيتضح لنا – فهذا يجعلنا نقرّ بأن الطهطاوى أول مصرى يترجم مسرحية؛ مما يعنى إنه - حتى الآن -  رائد الترجمة المسرحية فى مصر!

النسخة المجهولة

عندما أشار سادجروف إلى إشراف الطهطاوى على ترجمة مسرحية «هيلانة الجميلة»، كان يتمنى أن يحصل على نسخة من هذه الترجمة؛ ولكنه لم ينجح! وعندما اكتشفت أن الطهطاوى لم يشرف على الترجمة؛ بل هو من قام بترجمة المسرحية بنفسه، كنت أحلم بحصولى على نسخة من هذه الترجمة، وأعدّ الحصول على هذه النسخة حلماً بعيد المنال! ولكن الحلم تحقق، ونجحت في الحصول على نص مسرحية «هيلانة الجميلة» المحفوظ حتى الآن بدار الكتب المصرية، وإليكم وصفه:

على الصفحة الأولى مكتوب بالريشة والمداد الأسود كلمات يُفهم منها؛ أن هذه النسخة ملك البرنس «إبراهيم حلمي باشا» ابن الخديوي إسماعيل، ومؤرخة في 26 مايو 1888. والصفحة الثانية بها عنوان «أسماء أصول مشاهير الرجال والنساء المذكورين فى الألعاب المبينة في هذا الكتاب وبيان مناصبهم ووظائفهم»، والمقصود بهذا العنوان أسماء شخصيات المسرحية! وجاءت مرقمة في عمودين، الأول يحمل عنوان «أسماء»، والآخر «أوصاف»: ومن هذه الأسماء والأوصاف على سبيل المثال: باريس: ابن الملك بريام ملك ترواه «بقرب اسكي أزمير»، مينيلاس: ملك سبرطة باليونان، أغاممنون: ملك ملوك اليونان، هيلانة: ملكة سبرطة وزوجة مينيلاس، كلكاس: رئيس كهنة هيكل المشترى، أشيل: ملك فيسيوتيد باليونان، أوريست: ابن أغاممنون ملك الملوك .. إلخ.

ولأن المسرحية؛ أول مسرحية تتم ترجمتها في مصر بالعربية، وجدنا الطهطاوى يكتب كلمة اللعبة بدلاً من الفصل! فعندما يقول «اللعبة الأولى» فإنه يقصد «الفصل الأول». كذلك كان يقول كلمة «الملعب أو الملعوب» على المنظر أو المشهد! فعندما يقول: «الملعب الخامس» أو «الملعوب السادس» فإنه يقصد بذلك المنظر الخامس أو المشهد السادس. والمسرحية تقع فى 86 صفحة من القطع الصغير، ومنشورة في ثلاث لعبات – أى ثلاثة فصول – اللعبة الأولى تتألف من أحد عشر ملعباً، واللعبة الثانية من اثنى عشر ملعباً، واللعبة الثالثة تتكون من ثمانية ملاعيب؛ أى ثمانية مناظر أو مشاهد!!

أما أحداث نص «هيلانة الجميلة»، فتدور في جو أسطورى حول ربة الجمال «الزهرة»، التي ترسل رسالة إلى «كلكاس» رئيس كهنة معبد المشتري تأمره فيها بأن يسلم «هيلانة» ملكة أسبرطة إلى «باريس» ابن الملك بريام ملك طروادة؛ لأنها حكمت بحبهما. وبالفعل يحضر «باريس» ويقع فى غرام هيلانة، التي بادلته الغرام أثناء غياب زوجها «مينيلاس» ملك أسبرطة. وعندما يحضر الزوج ويضبط زوجته في أحضان باريس، يفضحهما في مشهد حضره كل الملوك. ويعيش الزوج في أزمة نفسية ليقينه بحدوث الخيانة من قبل زوجته هيلانة، وزوجته تحاول إقناعه بأن ما حدث .. حدث في المنام لا في اليقظة. وعندما تعلم «الزهرة» تقسو على اليونان بأكملها، بأنها أرسلت إلى أهلها لعنة هروب الزوجات من أزواجهم، وهروب الأزواج من زوجاتهم! فيتدخل الملوك وأنصاف الآلهة والشخصيات الأسطورية أمثال: «أغاممنون، وأشيل، وأجاش»، في محاولة إقناع «مينيلاس» بأن يتنازل عن زوجته لباريس إرضاء للزهرة وإبعاد اللعنة عن شعبه؛ ولكن الزوج تحايل على الأمر بأن أرسل رسالة إلى كبير كهنة معبد الزهرة، يطلب منه الحضور من أجل التفاهم معه في حل آخر يُرضى الزهرة. وبالفعل يحضر الكاهن الأعظم فى سفينة ضخمة، ويقترح على «مينيلاس» أن يأخذ زوجته «هيلانة» إلى جزيرة نائية تنحر فيها عشرة عجول بيضاء قرباناً للزهرة، وهذا هو الحل البديل لترضية الزهرة. ويوافق مينيلاس والشعب اليونانى، وتستقل هيلانة السفينة برفقة الكاهن، الذى ما لبث وأن كشف عن حقيقته لمينيلاس وشعبه – بعد أن أبحرت السفينة – بأنه العاشق باريس! وهنا ثار مينيلاس وشعبه وتوعدوا باريس بأنهم سيذهبون إليه ويهدمون عليه مدينة طروادة. وبذلك تنتهى القصة.

وهناك ملاحظتان مهمتان في نسخة نص «هيلانة الجميلة» المترجم: الأولى أن تاريخ طباعتها مذكور في آخر سطر من آخر صفحة رقم «86»، ومكتوب الآتى: "طبع بمطبعة بولاق 17 رمضان سنة 1285"، وهذا التاريخ يوافق 31/12/1868. وحسب اجتهادنا فى البحث، لم نجد أية إشارة لنشاط التياترو الفرنسى قبل هذا التاريخ، بل وجدنا بعده وتحديداً يوم 21 يناير 1869، عندما حضر الخديوى برفقة ولى عهد إنجلترا وزوجته وشاهدوا عرضاً مسرحياً .. وهذا الخبر لا أظنه خبر افتتاح التياترو الفرنسى؛ لأنه جاء فاتراً، لا يدل على شيء مهم سوى أن الخديوى وضيفه شاهدا المسرح!

وبناء على ذلك، فنحن نبحث عن يوم افتتاح التياترو الفرنسي بالأزبكية، وهو يوم يقع بعد يوم 31/12/1868 تاريخ طباعة مسرحية «هيلانة الجميلة»، وقبل يوم 21/1/1869 تاريخ حضور الخديوى وولى عهد إنجلترا دوغال إلى المسرح! وفى ظنى أن هذا اليوم هو السابع عشر من يناير 1869؛ لأنه يوم الاحتفال باعتلاء الخديوى إسماعيل عرش مصر – الذي بدأ في هذا اليوم عام 1863 - والاحتفال بعيد الجلوس الخديوى، هو أنسب يوم لافتتاح أول مسرح رسمى حكومى في الأزبكية!! ومما يعضد هذا الأمر، قول عبد الله أبو السعود أفندى بأن الطهطاوى ترجم المسرحية بأمر من الخديوى إسماعيل كما مرّ بنا!

الملاحظة الأخرى في النص المنشور لترجمة مسرحية «هيلانة الجميلة»؛ تتمثل فى عدم وجود اسم الشيخ «رفاعة الطهطاوى» على النص؛ بوصفه مترجماً أو كاتباً أو مؤلفاً. وهناك احتمالان لهذا الأمر: الأول، أن صفحة الغلاف مفقودة أو منزوعة، وكان بها اسم الشيخ رفاعة! وهذا الاحتمال من الصعب قبوله؛ لأنه يعنى أن بقية الـ1500 نسخة – عربى وتركى كما جاء فى الوثيقة – من المسرحية بها الصفحة المنزوعة، والتى بها اسم الشيخ رفاعة! وهذا الأمر لو كان حقيقياً لكان أمر قيام الشيخ بترجمة المسرحية معروفاً للجميع – وبالأخص دارسى إنتاج الطهطاوى – وهو الأمر الذى لم يحدث!

لم يبق أمامنا إلا قبول الاحتمال الآخر، وهو أن الشيخ رفاعة هو من طلب عدم وضع اسمه على ترجمة المسرحية عندما نُشرت! لأنه كان مُجبراً على ترجمتها بأمر من الخديوى إسماعيل! والسرّ في ذلك أن الشيخ رفاعة، لا يريد أن يرتبط اسمه بالمسرح في مصر؛ لأن هذا الارتباط يعني ارتباطه بالعوالم – أي بالغوازى - وما فيهم من وقاحة!! وهذا التصور نشره الطهطاوي عام 1833 عندما نشر ترجمته لكتاب «ديوان قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» للمؤلف الفرنسى «ديبنج Depping»، وأضاف إلى الترجمة قاموساً شرح فيه بعض الكلمات، كان منها كلمة «سبكتاكل» والمقصود بها المسرح، حيث شرحها الطهطاوي هكذا:

"سبكتاكل: اسم لملعبة ببلاد الإفرنج، يلعب فيها تقليد سائر ما وقع. وفي الحقيقة إن هذه الألعاب هي جد فى صورة هزل. فإن الإنسان يأخذ منها عبراً عجيبة لما أنه يرى فيها سائر الأعمال الحسنة فيقتفيها، والسيئة فيتحاشاها لما يراه من مدح الطيب وذم الخبيث. حتى إن الإفرنج يقولون إنها تهذب أخلاق الإنسان. ومع اشتمالها على المزح الممدوح فبها أيضاً كثير من المبكيات والمحزنات. وصورة هذه السبكتاكلات عند الإفرنج إنك تجد هيكلاً عظيماً مسقوفاً بقبة، وفيه عدّة أدوار. وكل دور به أروقة موضوعة حول القبة من داخل فى جوانب الهيكل، وفي جانب من الجوانب أيضاً مقعد متسع يكشفه سائر الجالسين في هذه الأروقة. بحيث أن سائر ما يلعبه اللاعبون في المقعد، يراه سائر من فى الهيكل. وهو منوّر بالنجف العظيم، وتحت ذلك المقعد محل للآلاتية. وهذا المقعد يتصل برواق فيه سائر آلات اللعب وسائر الأدوات اللازمة للألعاب، التي تظهر في ليلة اللعب ولجميع النساء والرجال المعدين للعب فيهيئون ذلك المقعد على حسب ما يقتضيه اللعب المطلوب منه. فإذا أرادوا تقليد سلطان مثلاً في حكاية سائر ما وقع منه، صوروا ذلك المقعد في شكل سراية بها كرسى، وعليه شخص جالس في شكل السلطان المقلد، وقصوا قصته، وجعلوه يتكلم ويُتكلم معه وهكذا. ومدّة تجهيز المقعد يرخون الستارة لتحجب المقعد عن أعين الناظرين، ثم يرفعون الستارة ويلعبون. واللاعبون واللاعبات بهذه الهياكل أشبه بعوالم مصر لا في الوقاحة؛ فإن أرباب هذه الحرفة عند الإفرنج أرباب أدب وحياء في مدّة لعبهم؛ وإن كانت اللاعبات في الغالب غير عفيفات. ومن الغرائب إن كلاً من اللاعب أو اللاعبة يحفظ دواوين الأشعار الأفرنجية والنكات والنوادر؛ بل ومسائل من العلوم البرانية الغريبة، حتى إن من رآهم ربما نظمهم فى سلك العلماء لا العوالم".