الجمعة 3 مايو 2024

الشيخ حسن العطار إمام المجددين.. ورائد المستنيرين


محمد الشافعى

مقالات11-8-2023 | 13:41

محمد الشافعى

• كان الشيخ العطار دائم التأكيد على أن أجدادنا لم ينغلقوا على أنفسهم أو على علومهم الدينية فقط بل كانت لهم نظرة مهمة فى العلوم الأخرى
• امتلك الشيخ العطار من الوعى ما مكنه من استقراء أسباب انحدار الحضارة العربية، فتميز بوضع يده على بيت الداء، إضافة إلى امتلاكه عقلاً تقدمياً جعله يصل إلى قمة الفكر المستنير
• تجاوز العطار سريعاً مرحلة الانبهار بعلوم الفرنسيين لينتقل إلى مرحلة الملاحظة والفهم، حتى أصبح على قناعة بضرورة الأخذ بالعلوم العصرية  لكى نلحق بالركب الحضارى الحديث
• عندما تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر قاد ثورة عملاقة داخل أروقته، حيث بدأ على الفور تدريس العلوم العصرية والعمل على توسعة مدارك الطلاب
• ترك الشيخ العطار مجموعة من التلاميذ الذين قادوا حركة النهضة بعد رحيل أستاذهم، وفى مقدمتهم رفاعة رافع الطهطاوى الذى رشحه ليسافر مع البعثة العلمية إلى فرنسا
• لم يحظ الشيخ العطار بمن يدرس تراثه دراسة متأنية واسعة، والوقوف على جوانب شخصيته كمفكر رائد فى التمهيد لرسوخ حركة النهضة الفكرية المصرية فى العصر الحديث

ذكاء فطرى.. وذهن متقد.. طموح جامح.. وعقل نهم.. إرادة فولاذية.. تغرس بذور الثورة فى كل الاتجاهات والمجالات.. حاد البصر والبصيرة.. واسع الاطلاع.. منفتح الادراك.. لا يشبع من العلم والتحصيل.. حصين كيس.. سمح الخصال.. مستنير الرؤى.. امتلك بسطة فى العلم والجسم.. عصرى التفكير.. تقدمى الاجتهاد.. فصار كالطائر العملاق.. الذى يحلق بجناحى الأصالة والمعاصرة.
إنه الإمام الأكبر حسن العطار "حسن محمد محمود العطار".. الشيخ السادس عشر للأزهر الشريف.. الذى اجتهد كثيراً.. لكى يفتح كل الأبواب والنوافذ.. حتى يتدفق نور العلم.. ليبدد تلك الظلمات التى تراكمت.. حتى صارت طبقات فوق طبقات.. وتحولت إلى قيود من الأفكار العقيمة.. التى عملت طويلاً على تكبيل عقول المسلمين.. ولم يكتف الشيخ العطار.. بتفجير ثورة التجديد والاستنارة.. ولكنه كان حريصاً على أن يترك تلاميذاً نابغين.. يمتلكون القدرة على حمل الرسالة.. وتطوير الأفكار والرؤى.

ولد حسن محمد العطار فى القاهرة عام 1766.. وكان والده الشيخ محمد العطار – ذكر بعض المؤرخين أنه من جذور مغربية – صاحب محل عطارة.. وله إلمام بالعلم.. فراح يستعين بولده ليعمل معه فى البيع والشراء.. ويستخدمه فى أصغر شئونه.. ولكن هذا الطفل الشغوف كان ميالاً للعلم.. فذهب إلى الأزهر الشريف.. واستطاع أن يحفظ القرآن فى مدة يسيرة.. ولما علم والده فرح وشجعه على الاستمرار.. ليستوعب الكثير من العلوم فى سنوات قليلة.. خاصة وأنه قارئ نهم.. يحسن الانتفاع بما قرأ.. مما أهله لأن يتولى مقعد التدريس فى الأزهر الشريف.. ولكنه قرر ألا يتعجل الأمور.. واستمر فى تحصيل العلم.. وتتلمذ على يد مجموعة من كبار مشايخ الأزهر مثل الشيخ محمد الصبان – الشيخ مرتضى الزبيدى – الشيخ محمد الأمير – الشيخ حسن الجبرتى.. وقد تملكته منذ حياة قناعة بأن العلم بكل فروعه فريضة.. يستوى فى ذلك العلوم الشرعية والآداب والعلوم العلمية.. وقد قويت تلك القناعة بما يمتلكه الفتى الطموح.. من ذكاء وفطنة.. وصحة فى الجسم.. وقوة فى النظر.. وجلد على القراءة ومصاحبة الكتب. وقد انشغل بغرائب الفنون والآداب وجنى ثمارها.. فالشيخ الأزهرى الذى كان ضليعاً فى علوم اللغة والدين.. كان شديد الولع بعلوم الطب والتشريح والصناعات الحديثة فى زمانه.. كثير الاطلاع على الكتب المترجمة.. والتى استطاع من خلالها الإلمام بالحضارة الغربية بشكل عام.. والثقافة الفرنسية بشكل خاص.. حتى صار ألمع مثقفى عصره.. وفى مقدمة رواد النهضة.. وقد امتلك الشيخ العطار رؤية جديدة للثقافة والحياة.. لخصها فى قوله "إن بلادنا لابد وأن تتغير حوالها.. ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها".. وكان يبحث عن كيفية وصول الفرنسيين إلى كل تلك المعارف والعلوم.. ويعجب بكثرة كتبهم وسهولة وصولها إلى القراء لتعم الإفادة.. ومثل هذه الرؤية تمثل رؤية شديد التقدمية فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.. حيث كان أول من دعا إلى الارتباط الوثيق بحضارة العصر الحديث.. التى ظهرت فى أوربا.. وقد انطلقت دعوته تلك من إدراك عميق وفهم واعى لطبيعة مصر فى عصره.. واتصاله بالفرنسيين.. واطلاعه على كتبهم وآلات معاملهم.. وأيضاً إدراكه للفجوة العميقة التى أصبحت تفصل بين الحضارتين الأوربية والعربية.. فالأول تملك العلم والتكنولوجيا.. والأخرى تملك ثقافة الماضى العريق.. ولكن حاضرها ملئ بالتخلف والجمود.. وقد آل الشيخ على نفسه أن يغير ذلك الواقع.. فكان أول رجل دين يحاول تدريس كتب العلم الحديث فى الأزهر الشريف.. والذى كان يقتصر على تدريس المثون والشروح والحواشى.. وقد عائدته الظروف فى تنفيذ مشروعه العلمى الكبير.. فاكتفى بأن يقرأ على تلامذته المقربين كتب الجغرافيا والتاريخ.. وكان على الأزهر الشريف أن ينتظر ما يقرب من المائة وخمسين عاماً لكى ينفذ تلك الرؤية المستنيرة.. من خلال قانون تطوير الأزهر.. الذى أصدر الزعيم جمال عبدالناصر فى يونيو عام 1961.

وكان الشيخ العطار دائم التأكيد.. على أن أجدادنا لم ينغلقوا على أنفسهم.. أو على علومهم الدينية فقط.. بل كانت لهم نظرة مهمة فى العلوم الأخرى.. وقد امتلك الشيخ العطار من الوعى ما مكنه.. من استقراء أسباب انحدار الحضارة العربية.. فتميز عن أقرانه بوضع يده على بيت الداء.. إضافة إلى امتلاكه عقلاً تقدمياً.. جعله يصل إلى قمة الفكر المستنير.. من خلال إدراك أثر العلوم الطبيعية فى نهضة الأمة وارتقائها.. ليكون بذلك أول داعية لتدريس تلك العلوم العصرية.. ومثل هذه الرؤية المستنيرة جعلته أهم أعمدة المدرسة الثورية.. التى ثارت على أسس الحياة السائدة فى المجتمع المصرى فى القرن التاسع عشر.. ودعت إلى تغييرها.. انطلاقاً من الأسس الروحية والدينية التى تعبر عن حقيقة الإسلام.. مع الأخذ بإنجازات الحضارة الغربية.. وإبراز قيمة الإنسان فى الحياة.. أى الجمع بين الأصالة والمعاصرة.. سعياً لتجديد فكرنا الحديث.. ويحتل الشيخ العطار مكانة إمام المجددين فى العصر الحديث.. حيث رفض مناهج مدارس الشرح على المثون والحواشى والتقارير.. كما رفض ثقافة عصره والتى تدور حول النقل من كتب السابقين ويقول فى ذلك "قصارى أمرنا الثق عنهم.. بدون أن نخترع شيئاً من عند أنفسنا.. وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة.. بل اقتصرنا على النظر فى كتب محصورة.. فكررها طوال العمر.. ولا تطمح نفوسنا إلى النظر فى غيرها.. وكأن العلم قد انحصر فى هذه الكتب فقط".. ولذلك كان فى مقدمة من نادوا بتجديد فكرنا الحديث.. وبنياتنا الحضارى.. كما دعا إلى ضرورة الأخذ بالعلوم العقلية الوضعية.. والخروج من حصار العلوم النقلية الجامدة.. التى جعلت بعض مشايخ الأزهر يرفضون معطيات العلوم الحديثة.. مثل هذا الشيخ الذى يرفض حقيقة أن الأرض كروية فيقول شعراً:

والأرض قالوا إنها كره/ وقولهم هذا ما أكفره

ولم يكتف الشيخ العطار.. بمجرد الدعوة إلى تدريس العلوم الحديثة.. ولكنه حرص على دراسة تلك العلوم "الطبيعة – الهندسة – الرياضيات.. إلخ" كما درس الموسيقى وأجاد فنونها.. وكان يتردد على المجمع العلمى المصرى.. يستمع إلى ما يقال فيه من محاضرات.. ويقرأ فى مكتبته العامرة كل أنواع المعارف "العلوم.. الآداب الفنون".

وتلك الحماسة للعلوم العصرية.. لم تكن أبداً على حساب تدريس العلوم الشرعية.. حيث كتب الشيخ العطار فى إجازة "شهادة" تخرج أحد تلاميذه "والعلوم وإن كثرت أنواعها.. وتباينت أوضاعها.. فأجلها قدراً.. وأرقها ذكراً.. وأبهاها حسناً.. وأعلاها ارتقاءً.. وأغزرها ارتواءً.. وأكملها إشراقاً.. وأجملها اتساقاً.. العلوم الشرعية.. التى هى مقاصدنا.. ولأجلها نلتمس فوائدها".. بما يعنى امتلاكه رؤية متكاملة – لمشكلات مجتمعة الثقافية والتعليمية والأدبية والسياسية.. وقد سعى إلى تشخيص وتحديد تلك المشاكل.. مع تحديد جوانب الضعف فى المجتمع.. مع المناداة بالتغيير.. والأهم وضع برنامج لهذا التغيير.

وفى كتاباته تميز أسلوب الشيخ العطار.. بالدقة والاستطراد.. من أجل الإحاطة بكل جوانب الموضوع الذى يكتب فيه.. وامتلك المقدرة على إعمال فكره الخاص عندما يتناول أعمال من سبقوه من المؤلفين.. فلا يكتفى بالشرح والتفسير كما كان سائداً فى عصره.. ولكنه يضيف من عندياته واجتهاداته.. وكان أقل مؤلفى عصره استخداماً للمحسنات البديعية فى كتاباته.. وكان يتخلص منها تماماً فى كتاباته العلمية.

وقد ارتبط الشيخ العطار خلال دراسته بالأزهر.. بصديقيه الشاعر إسماعيل الخشاب.. والمؤرخ عبدالرحمن الجبرتى ابن أستاذه حسن الجبرتى.. ويقول الجبرتى عن علاقة العطار بالخشاب "خالطه ورافقه ووافقه ولازمه.. فكان كثيراً ما يبيتان معاً.. ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر.. وألطف من تساق نظم الدر.. وكثيراً ما كانا يتنادمان بدارى.. لما بينى وبينهما من الصحبة الأكيدة.. والمودة العقيدة.. فكانا يرتاحان عندى.. ويطرحان الكلفات التى هى على النفس شديدة".

وكتب الجبرتى عن صديقه العطار "أديب شاعر لا يشق له غبار" وقد كان الشيخ العطار بشير التجديد فى تاريخ الشعر العربى المعاصر – حيث دعا إلى مخالفة شعراء عصور التراجع.. وعدم السير على نهجهم.. وكتب فى كل أغراض الشعر العربى حتى الحبس.. وقد سبقه فى كتابة أشعار الحب الشيخ عبدالله الشبراوى الإمام السابع للأزهر الشريف.. والذى غنت له أم كلثوم "وحقك أنت المنى والطلب".. وقد اتسم شعر العطار بالروح المصرية العذبة.. كما كان مولعاً بوصف الطبيعة بكل مظاهرها.. واستطاع أن يتخفف إلى حد كبير من كل قيود الصنعة.. وسجل من خلال أشعاره خبراته العلمية ورحلاته المتعددة.. وقد كانت أشعاره وسطا.. بين مدرسة البعث والإحياء التى أعادت للشعر العربى الكثير من بريقه.. وبين مدرسة المحاكاة الباردة التى وصتل بالشعر.. إلى نوع سخيف من حيل وألاعيب الصنعة.. وقد حاول قدر طاقته التجديد فى موضوعات الشعر.. والتمرد على نهج السابقين.. فيصف الشام قائلاً:

عرائس أشجار إذا الريح هزها تميل سكارى وهى تخطر فى مرط

كساها الحياء أثواب خطر قد ثرت بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط

ويقول عن صديقه "أبوالقاسم المغربي".. شيخ رواق المغاربة..

إنهض فقد ولت جيوش الظلام وأقبل الصبح سفير اللثام

وغنت الورق على أيكها تنبه الشراب لشرب المدام

كأنما الورقاء لما شدت تتلو علينا فضل هذا الإمام

ويقول عن صديقه الذى أبعد عن نقابة الأشراف ثم عاد إليها

ويفخر المرء بأفعاله لا بالذى قد مات من أهله

وقد يسوء الشخص أباءه ويشرق الفرع على أصله

وكتب عن حديقة الأزبكية

بالأزبكية طابت لى مرات ولذلى فى بديع الأنس أوقات

حيث المياه بها والفلك سابحة كأنها الزهر تحويها السموات

ويقول فى قصيدة غزلية

أفلا رثيث لعاشق لعبت به أيدى المنون ونازعته خطوبه

أنت انلعم له ومن عجب تفد به وتمرضه وأنت طبيبة

وكتب أيضاً الموشحات وقال فى واحد منها

أنا فؤادى فعنك ما انتقلا فلم تخيرت فى الهوى بدلا

يا معرضا عن محبة الدنف ومغرماً بالجمال والصلف

ومن به زاد فى الهوى شغفي

فرد عليه صديقه إسماعيل الخشاب قائلاً

يهتز كالغصن معتدلاً اطلع بدراً عليه قد سدلا

يزرى بسمر الرماح إن خطرا ساحر جفن لمهجتى سحرا

علم عينى البكاء والسهرا فكيف أبقى بحبه بدلا

وبعد وفاة صديقه الشاعر إسماعيل الخشاب.. قام الشيخ العطار بجمع أشعاره وأصدرها فى ديوان.. ويؤكد الجبرتى أن العطار قد توقف عن نظم الشعر وكتابة النثر.. بعد وفاة صديقه الخشاب.. وسعى فى خدمة العلم.. وتدريس الكتب الصعبة.. حتى اشتهر بين طلاب الأزهر.. والمؤسف أن الشيخ العطار لم يجد من يجمع أشعاره بعد رحيله رغم إنه كتب فى كل أغراض الشعر.. فضاع أغلب شعره بين أصابير النسيان.. وليظل العطار أكبر من شعره.. ولتظل أفكاره منارة تهتدى بها الأجيال وعندما اجتاحت الحملة الفرنسية مصر "1798 – 1801" ترك الشيخ العطار القاهرة وذهب إلى الصعيد.. كما فعل الكثير من علماء الأزهر.. ولكنه عاد إلى القاهرة بعد عدة أشهر.. وتواصل معه بعض علماء الحملة.. وأخذ عنهم بعض علومهم.. وقام بتعليم بعضهم اللغة العربية.. وأكد الجبرتى على أنه دخل مع صديقه العطار معمل الكيمياء والطبيعة الخاص بعلماء الحملة الفرنسية.. وأن العطار لم يصب بالدهشة أو الذهول.. عندما دخل هذا المعمل.. لسابق معرفته بتلك العلوم.. وقد تجاوز العطار سريعاً مرحلة الانبهار بعلوم الفرنسيين.. لينتقل إلى مرحلة الملاحظة والفهم.. حتى أصبح على قناعة بضرورة الأخذ بالعلوم العصرية – لكى نلحق بالركب الحضارى الحديث.. ويقول عن أثر الحملة الفرنسية "وقع فى زماننا أن جلبت كتب من بلاد الأفرنج وترجمت إلى اللغة العربية والتركية.. وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة.. اطلعنا على بعضها.. وقد تتحول هذه الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم من القوة إلى الفعل.. وتكلموا فى الصناعات الحربية والآلات النارية.. ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات.. وعجائب المصنفات.. انكشفت له حقائق كثيرة من وثائق العلوم".

وقد أثارت علاقته بالفرنسيين سخط بعض رجال الدين.. فقرر ترك مصر عام 1802.. وسافر أولاً إلى الشام.. ثم سافر إلى تركيا وألبانيا.. وسكن فى بلدة تدعى "أشكودرة" من بلاد الأرثاذوط وتزوج بها.. ثم عاد إلى الشام عام 1810 وظل بها خمس سنوات.

وكتب عن دمشق قائلاً: "تنجلى بمشاهدة حرمه الشريف همومى.. وتزول غمومى.. وينشرح صدرى.. وتصفو مرآة فكرى.. وتعذب مواردى.. وتحمد مصادرى ومواردى.. ناهيك برقة نسيم ومرأى وسيم.. وعيش عهده غير ذميم.. وكأن ساكنه فى جنات النعيم".

وكتب عن اسطنبول قائلاً: "الخليج القسطنطين الملتف بعرائس القصور.. والرياض المعطرة.. بروائح الزهور.. وملاعب الولدان والحور.. ولفتنى ضروب الملذات والسرور.. وصاحب أذيال الحبر والحبور".

عاد الشيخ العطار من رحلته الطويلة إلى القاهرة عام 1815.. محملاً بكثير من المعارف.. ومجيداً لأكثر من لغة.. وأصبح أكثر حماساً لتطوير البلاد.. وإصلاح أحوالها فى مجالات التعليم والثقافة والسياسة.. للخروج من الجمود والعلمى فى الأزهر.. عاد من رحلته الطويلة.. ليجد الأمور قد استقرت للحاكم الجديد محمد على.. بعد أن تخلص من صداع المماليك عن طريق مذبحة القلعة.. وكان محمد على قد بدأ ببعض الإصلاحات.. التى تساعده فى إنشاء دولته الجديدة.. وساعدت هذه الإصلاحات الشيخ العطار فى تدريس التاريخ والجغرافيا والأدب وبعض العلوم العصرية.. ولم يكتف بمجرد التبشير بأفكاره.. ولكنه جمع بين القول والعمل.. فكتب فى المنطق والفلك والطبيعة والكيمياء.. وألف كتاباً فى فلسفة الانتماء.. ضمنه نماذج مختارة من إنشائه.. وسجل فيه خواطره وانطباعاته أثناء رحلاته وهو كتاب "إنشاء العطار".

وعندما عاد إلى القاهرة ارتبط بعلاقة صداقة مع سامى باشا وأخويه باقى بك وخيرالله بك.. وكانوا من المقربين من الوالى محمد على.. وعن طريقهم تعرف على الوالى.. وتلاقت أفكار الرجلين.. ووجد محمد على فى أفكار العطار أكبر سند لتحقيق مشروعاته لبناء دولته الحديثة.. من خلال إنشاء المدارس.. التى تساعد فى تكوين الجيش القوى.. وعندما أنشأ محمد على أول جريدة مصرية عربية.. وهى جريدة الوقائع.. لتكون الجديدة الرسمية للدولة.. اختار الشيخ العطار ليكون أول رئيس تحرير لهذه الجريدة الوليدة.. وذلك فى عام 1828.. وقد صادف هذا الاختيار أهله.. حيث يتمتع الشيخ العطار بأسلوب جميل فى الكتابة.. كما أنه صاحب نهضة ترجمة كتب الغرب من خلال جريدة الوقائقع عمل على تحسين أساليب الكتابة العربية.. من خلال تحطيم الأغلال التى تكبلها.. بكثير من المحسنات البديعية.

وكان اختيار الشيخ العطار لرئاسة تحرير الوقائع عام 1828.. بداية منطقية لاختيار شيخاً للأزهر فى عام 1830.. حيث جاء هذا الاختيار ليؤكد نهج الاستنارة عند محمد على.. يوضع هذا الشيخ المستنير على رأس أكبر مؤسسة للثقافة الإسلامية.. والتى طالما وقفت حجر عثرة فى طريق التجديد على مدى عدة قرون.. وعندما تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر.. قاد ثورة عملاقة داخل أروقته.. حيث بدأ على الفور تدريس العلوم العصرية.. والعمل على توسعة مدارك الطلاب.. وراحت أفكاره تتحقق مع النظام التعليمى الذى أقامه محمد على.. والبعثات العلمية العديدة التى أرسلها إلى أوربا.. وقد دفع إلى بعض تلاميذه بالعديد من الكتب.. التى كانت من المحرمات داخل الأزهر.. مثل الأغانى للأصفهانى.. والمقامات للحريرى.. ليتم تدريسها فى الأزهر.

ويذهب بعض المؤرخين.. إلى أن النهضة التى أقامها محمد على.. قامت فى كثير من أركانها على أفكار الشيخ حسن العطار.. الذى ظل طوال حياته يدعو إلى الأخذ بالعلوم العقلية إلى جوار العلوم الوضعية.. وكانت مثل هذه الدعوة تمثل ثورة كبيرة.. فرغم أن شيوخ الأزهر فى ذلك الوقت هم صفوة المجتمع.. إلا أنهم كانوا أحد أسباب الجمود الذى يعانى منه المجتمع المصرى.. لإصرارهم على الأخذ بالقديم وعدم التطوير.. إضافة على حرضهم على مكانتهم الخاصة ومكاسبهم من هذه المكانة.

ولكن الشيخ العطار استطاع بما يملكه من مرونة.. تلك المرونة التى ميزته عن صديقه الجبرتى.. والذى كان يمثل المعارضة المستترة لحكم محمد على.. ولكن العطار الذى بدأ طفلاً يبيع العطارة فى دكان والده.. استطاع أن يصل بجهده وأفكاره إلى قمة الحياة العلمية فى مصر.. كما أصبح من أكثر مستشارى محمد على قرباً وثقة.. بعد أن صار الإمام السادس عشر للأزهر الشريف.. وجاء توليه مشيخة الأزهر.. ليؤكد على تصاعد قوة تيار القدم والتطور.. فى مواجهة قوى الجمود والتخلف.. وقد سعى الشيخ العطار إلى تحويل جامع الأزهر إلى جامعة لتدريس علوم الدين والدنيا.. وعندما لم يستطع تحقيق ذلك.. فتح كل الأبواب والنوافذ.. حتى يخرج تلاميذه من صحن الجامع الأزهر.. ليجوبوا أفاق العالم.. مما جعل هذا الرجل المستنير.. يتصدر أى دراسة تبحث عن الجذور الفكرية للنهضة المصرية فى العصر الحديث.. فقد راح هذا الرجل الذى تولى مشيخة الأزهر وهو فى الخامسة والستين من عمره.. يدعو إلى التجديد والاستثارة.. ويواجه كل دعاوى التخلف والجمود.. فذهب إلى مدرسة الطب فى منطقة أبوزعبل.. بعد أن حاول أحد الطلاب طعن الطبيب كلوت بك بخنجر.. اعتراضاً على قيامه بتشريح جثة آدمية بدعوى حرمة الأموات.. فذهب الشيخ الجليل إلى مدرسة الطب أثناء الامتحانات.. وخطب فى الطلاب.. وأكد على دعم وتشجيع الإسلام لدراسة الطب.. وكانت هذه الفتوى بداية الترسيخ الحقيقى لتدريس الطب فى مصر خلال العصر الحديث.

ويقول الشيخ حسن العطار عن نفسه.. فى مقدمة كتابه حاشية نحوية "أما بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله.. فيقول الفقير حسن بن محمد العطار الشافعى المصرى "يتقى الجذور المغربية" الأزهرى غفر الله له ذنوبه.. وستر عيوبه.. هذه حواش كنت جمعتها على شرح الأزهرية فى علم النحو.. وقت قراءتى لذلك الكتاب بالجامع الأزهر لبعض الطلبة.. ثم شرعت فى نقلها من المودة.. فدهم مصر ما دهمها من حادثة الكفرة الفرنسيس.. فخرجت من مصر إلى البلاد الروبية "تركيا".. مستصحباً المسودة وغيرها من بعض كتبى.. فأمت بالبلاد الروبية مدة طويلة.. ثم توجهت إلى دمشق الشام.. فصادف دخولى فيها زوال يوم الجمعة التالى من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة.. فالتمس منى بعض إخوانى من أهل العلم بتلك البلدة قراءة الكتاب.. فشرعت فى نقل هذه الحاشية وكتابتها.. رجاء أن ينتفع بها إخواننا طلبة العلم فأفوز بدعوة أخ صالح بنظر فيها.

وقد ترك الشيخ العطار العديد من الكتب والمؤلفات منها "إنشاء العطار – حاشية العطار – منظومة العطار فى علم النحو – حاشية فى علم الكلام – نبذة فى علم الجراحة – شرح على تهذيب المنطق والكلام.. إلخ.

كما ترك الشيخ العطار مجموعة من التلاميذ.. الذين قادوا حركة النهضة بعد رحيل أستاذهم.. وفى مقدمتهم رفاعة رافع الطهطاوى.. الذى رشحه العطار ليسافر مع البعثة العلمية المسافرة إلى فرنسا عام 1886.. وأوصاه قبل السفر بأن يدون انطباعاته وشاهداته فى تلك البلاد فسحلها فى كتابه الأشهر "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز".. وكان الطهطاوى يتقاضى طوال البعثة راتب اليوزباشى ويقول الطهطاوى عن موسوعية أستاذه العطار "كان الشيخ حسن العطار حظ من العلوم العصرية.. حتى العلوم الجغرافية.. وقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لأبى الفداء.. وهوامش أخرى على كثير من كتب التاريخ وطبقات الأطباء وغيرها.. وكان يطلع على الكتب املصرية.. وله ولع شديد بسائر المعارف البشرية.. وله بعض تأليف فى الطب وغيره.. ولم يكن الطهطاوى تلميذه الشهير.. ولكن هناك العديد من التلاميذ مثل الشيخ محمد عياد الطنطاوى – حسن قويدر – محمد شهاب الدين الذى خلف أستاذه فى رئاسة تحرير الوقائع – نصر أبوالوفا – إبراهيم عبدالحكم.. إلخ وقد طلب قيصر روسيا من محمد على.. إرسال أحد المشايخ لتدريس اللغة العربية فى جامعة "سان بطرسيورج".. تلك المدينة التى تحول اسمها بعد الثورة البلشقية 1917 إلى "لينجراد".

فطلب محمد على من الشيخ العطار ترشيح أحد تلاميذه .. فرشح الشيخ محمد عياد الطنطاوى .. الذى حقق نجاحا كبيرا فى روسيا.. وظل محتفظا بزيه الأزهرى حتى توفى فى روسيا .. وتم دفنه فى سان بطرسبورج وكان الشيخ الطنطاوى أستاذا لكل المستشرقين الروس.. وهمزة الوصل بين الثقافتين العربية والروسية وخلال عصر القياصرة .. وقد كتب عنه المستشرق الروس (كراتشكوفسكى) كتابا كاملا .. ونشر فى مقدمته صورة الشيخ بالزى الأزهرى .. وكان الشيخ الطنطاوى شاعرا مثل أستاذه العطار.

ولم يكن الطهطاوى الأزهرى الوحيد الذى سافر فى بعثته إلى فرنسا، حيث كان العطار حريصا على فتح الآفاق الجديدة لتلاميذه الذين جلسوا أمامه على حصير الأزهر، فسافر مع رفاعة الطهطاوى الشيخ محمد الدشطوطى الذى تخصص فى الطب والجراحة، والشيخ أحمد العطار الذى تخصص فى الميكانيكا، وكان معهم ثلاثة مشايخ آخرين عادوا إلى مصر إما للمرض أو لعدم التوفيق.

ومن المشايخ الذين سافروا إلى فرنسا أيضا، وصاروا أطباء الشيخ نصر أبوالوفا والشيخ إبراهيم عبدالحكم ، وقد أصرا على حمل لقب الشيخ بدلا من الدكتور، وأصدر محمد على قرارا بتعيين الشيخ نصر أبوالوفا فى مستشفى البحرية بالأسكندرية ، والشيخ نصر هو جد د. محمد نصر وكيل وزارة الصحة المصرية فى الأربعينيات.

وقد نصح العطار تلميذه الطهطاوى قائلا (ومن سمت به همته إلا الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له عجائب كثيرة من دقائق العلوم.. وتنزهت فكرته.. إن كانت سليمة فى رياض الفهوم).

ورغم كل هذه الإنجازات فى التجديد والاستنارة ، لم يحظ الشيخ حسن العطار بمن يدرس تراثه دراسة متأنية واسعة، والوقوف على جوانب شخصيته كمفكر رائد فى التمهيد لرسوخ حركة النهضة الفكرية المصرية فى العصر الحديث.. ولم يكتب عنه إلا عدد قليل جدا من الكتب وهى (كنز الجوهر فى تاريخ الأزهر) تأليف سلمان الحنفى، و5 كتاب حسن العطار تأليف محمد عبدالغنى حسن، كما كتب العطار عن نفسه كتابا صغيرا فى أقل من مائة صفحة، وقدمه إلى مكتبة الجهادية المصرية فى عصر محمد على. وذكره بعض الأدباء والمفكرين فى كتاباتهم ، مقال عنه صديقه المؤرخ عبدالحمن الجبرتى (صاحبنا العلامة وصديقنا الفهامة، المتفرد الأن بالعلوم الكمية ، والمشار إليه فى العلوم الأدبية، وصاحب الإنشاء البديع، والنظم الذى هو كزهر الربيع الشيخ حسن العطار).

وقال عنه محيى الدين الخطيب فى كتابه عن الأزهر (وكان العطار متضلعا فى العلوم الرياضية، فضلا عن العلوم الشرعية والعربية).

وقال عنه المستشرق فولرز فى دائرة المعارف الإسلامية "وكان العطار رجلاً مستنيراً اشتهر بعلمه وكان أيضاً شاعراً ثائراً".

وقال عنه على مبارك فى الخطط التوفيقية "لقد جد فى التحصيل حتى بلغ من العلم فى زمن قليل مبلغاً تميز به.. فاستحق التصدى للتدريس.. واشتغل بغرائب الفنون.. والتقاط فوائدها كالطب والفلك والرياضة" وقال عنه الشيخ عبدالمتعال الصعيدى "لا شك أن موقف الشيخ العطار من العلوم الرياضية بشكلها الجديد.. يدل على ما كان يمتاز به من مرونة عقلية ودينية.. وكان أحسن حالاً من أهل الأزهر الذين حاربوها".

وكل هذا لا يفى هذا المجدد المستنير حقه.. وقد تولى مشيخة الأزهر بعد الشيخ العطار عدد من المشايخ.. حرموا تدريس المنطق والعلوم الفلسفية وكل العلوم العقلية.. فى ردة غريبة عن الخطوات التنويرية التى قطعها هذا الشيخ المستنير.. تلك الخطوات التى انتظرت.. ما يقرب من مائة وخمسين عاماً حتى جاء الزعيم جمال عبدالناصر ليثيناها ويعمل على تطوير الأزهر الشريف.. ذلك التطوير الذى وضع لبناته الأولى العالم العلامة الشيخ حسن العطار.
 

Dr.Randa
Dr.Radwa