الأربعاء 1 مايو 2024

دَمِي يُعْلنُ مَنْ أكونْ ..!!

مقالات16-8-2023 | 13:57

                                                                                                                                                                                                                     

 مثلما البحر الثائر تضرب أمواجُه الصاخبةُ شطآنَه فيرتفع ضجيجها يلامس حواف الأفق ، كذلك الشعر منذ أن عرفه الإنسان ولمَّا يزلْ يبوح بعواطفه الجيَّاشة وأحاسيسه المتصادمة في كل أوقات نهاره ولياليه ، ومن منا لم يجد في الشعر ما يصوِّر أفراحه ويبثُّ شكواه ...؟!! لقد كان الشعر رفيق الإنسان في كدْحِ نهاره ، وسميره في لياليه ، يصحبه في سِلْمه وحربه ؛ يحمِّس به نفسه ويرثي به قتلاه ويفخر بانتصاره ، ومنذ فجْر الإنسانية ازدهر شعر الملاحم الذي يقصُّ أنباء المعارك ويصف أحداث البطولة ويصوِّر الأبطال ، وماذا صوَّرت ( الإلياذة والأوديسَّا ) اللتان أخذ "هوميروس" الشاعر الضرير يجوب بلاد اليونان ومعه قيثارته مُنشدًا على نغماتها تلك الأشعارالرائعة التي تقصّ بعض أحداث تلك الحرب الضروس التي نشبتْ قبل الميلاد بين بلاد اليونان ومملكة طروادة نتيجة خطْف "باريس" أحد أمراء طروادة "هيلانة" زوجة "منيالاس" الملك اليوناني أثناء رحلته البحرية إلى بلاد اليونان ؟!! وما ( الإنيادة ) التي صاغها "فرجيل" شاعر الرومان لبني وطنه ليقص أنباء جدهم الأعلى البطل "أتيوس" وتأسيسه مدينة روما، وما كان له من معارك ومغامرات في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضًا ، وما (الشاهنامة) وهي أعظم أثرٍ أدبيٍّ فارسيٍّ نَظمَها الفردوسي مصوراً تاريخ الفرس الأسطوري حتى زمن الفتح الإسلامي وسقوط الدولة الساسانية منتصف القرن السابع للميلاد ... لنسأل أنفسنا ... لماذا كانت الشعوب شديدةَ الغرام بإنشاد ملاحمها وتصوير معاركها وخوارق أبطالها ...؟!!                                                                                                                                                                                                                             ورغم خلوِّ تاريخ العرب الأدبي من فن الملاحم واقتصار الشعر العربي قديماً على اللون الغنائيِّ إلا أنهم فطنوا إلى دور الشعر في إشعال الحماس وإضرام نار الأخْذ بالثأر والانتقام ، ويكفي أن نعرف أنهم كانوا يصحبون نساءهم وأولادهم في ساحة القتال ليقاتلوا قتال المنتحر ..!! ، ويحتفظ التاريخ بالكثير من الشعر والرجز كأرجوزة "هند بنت عتبة" قبيل غزوة أُحُد وكانت على شِرْكها حيث ارتجزت لتحميس فرسان قريش للأخْذ بثأر قتلاهم في بدْر ... تنشد ومعها النساء اللواتي صحبنها مفتخرةً بشرف الأصل والثراء الفاحش ( نحن بنات طارقْ/ نمشي على النمارقْ ) ولا تنسى "هند" التباهي بالحُليِّ في الأعناق وأفخر العطور تفوح من مفارق شعورهن ( الدرُّ في المخانقْ/ والمِسْك في المفارقْ) ؛ لنصل إلى المعنى المراد ( إن تُقبلوا نعانقْ/أو تُدبروا نفارقْ) ...إنها تضع فرسان قريش بين خيارين ونتيجتين : فإما الإقبال على الأعداء فلهم الحب والعناق ، أو الإدبار فالفراق لا رجعة فيه..!!                                                                                                   
ويأتي العصر الحديث ، ويؤدي الشعر دوره في تثوير الشعوب واستنهاض هممها للكفاح في سبيل نيل استقلالها ، ومناصرة قضية العرب الكبرى فلسطين ، لقد كان الشعر العربي أكثر معاناة وعلاقة بمأساة فلسطين ، فلم يتوان الشعراء عن تعزيز روح المقاومة ؛ ليأتي الشعر من داخل فلسطين مُنْبئًابالصمود والتحدِّي ؛ يؤكد ذلك "محمود درويش" :(لم نكن قبل حزيرانَ كأفراخ الحمامْ/ولذا لم يتفتتْ حبُّنا بين السلاسلْ/نحن يا أختاه من عشرين عامْ/نحن لا نكتب أشعاراً ولكنَّا نقاتلْ!!) وكان الشعر العربي أكثر وعياً بتناقضات الموقف العربي الرسمي أثناء انتفاضة الحجارة ، يخاطب "نزار قباني" أطفال الحجارة : ( لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا/اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا ) ولا يغيب عن "نزار قباني" استثمار هذا الموقف في جلْد الذات العربية ، وتوزيع اتهاماته على المستويين الشعبي والرسمي ، ومزْج ذلك كله بالسخرية اللاذعة :(نحن أهل الحساب والجمْع والطرْح فخوضوا حروبكم واتركونا/إننا الهاربون من خدْمة الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا)!!
لنصل سريعاً محطة الشعر الأفريقي والشاعر السنغالي "نداي كومبا دياختي" وقصيدة (قوّال سلالتي) حيث لا يتوانى الشاعر عن تحدِّي الواقع الذي أراد المستعمر فرْضه على شعوب القارة ، والشاعر بلسان كل الأفارقة يرفض ذلك ويتحداه معتمداً على تاريخه الناصع في رفْض الذل مؤكداً على أن المستعمر لا يعرف حقيقة شعوب القارة فهم لا تخدعهم وسائل الحياة الحديثة .. حياتهم نقية وطبيعتهم صافية ... فإلى السنغالي "نداي" و(قوّال سلالتي):                                                                                     

أنا قوّال سلالتي ..شاعرٌ جوّالٌ ... أغنّي سلالتي بصوتٍ عال،
أغنّي دمي الّذي يُعلن من أكون.
أنا..خشبُ الأبنوس الّذي يستهلك النّار البطيئة للكذب.
أنا..الحصى الأحمر لدم أسلافنا الشّرس.
أنا الغابةُ الطّاهرة ... مملكةُ القردة الصارخة.
ولستُ زنجيّ الأحياء الفقيرة المحشور في حفرة قذرة ملتصقاً بالسّخام، هناك في المدينة الرّمادية الّتي تخنق ...
أنا..من لا تعرفه: شمسٌ بلا خِداع، ولستُ شمعةَ نيون مُنافقة.
أنا..ضوءُ البدر الصّافي المتواطئ مع مُداعبات اللّيل،
أنا من لا تعرفه...أبصقُ على الرّوح القذرة ... وها أنا أحطِّم السلاسل والصّمت الكاذب الّذي قذفْتَ به إليّ.

Dr.Randa
Dr.Radwa