الأربعاء 15 مايو 2024

بطل الشفرة النوبية وموثق «كلمات السر» في نصر أكتوبر العظيم


أمينة خيرى كاتبة مصرية

مقالات9-10-2023 | 11:45

أمينة خيرى

يعتقد البعض أن الحرب تقتصر على القوة العسكرية وبأس الجيوش وعنفوان الهجوم، لكن الحرب أيضاً دهاء وحنكة وخروج على المألوف. وحرب أكتوبر 1973 كانت من ألفها إلى يائها خروجاً على المألوف، وهو الخروج الذي تكلل بنصر مبين وانقلاب كلي لتعريف القوة ورسم ملامح المستقبل. 

مستقبل مصر رسمه ماض قريب مضى عليه 48 عاماً بالتمام والكمال. جزء من هذا الرسم كانت الإثارة قوامه والمباغتة عقيدته. لم تقتصر المباغتة على تحديد موعد بدء حرب أبعد ما يكون عن توقعات العدو، أو العبور إليه والوصول إلى قواته في قلب تمركزها في وضح النهار، أو السرعة المتضامنة مع الحنكة والإيمان والجدارة وجميعها لا يخلو من بساطة في توليفة عجيبة مازالت تذهل العالم حتى يومنا هذا، بل شملت المباغتة اعتماد لغة غير اللغة ومفردات غير المفردات. وكانت النتيجة عصباً عتيداً لنصر أكتوبر العظيم بدأ بكلمتي "اضرب" و"الساعة الثانية" باللغة النوبية في كواليس الجيش المصري. 

الجيش المصري العظيم وهو يحتفي بنصر أكتوبر في عامه ال48 يتذكر من رحل قبل أيام عن عمر يناهز 83 عاماً وهو أحد أبطال حرب أكتوبر العظام. لم يكن بطلاً في سلاح الجو، أو قائداً في البحرية، أو ما شابه. إنه الجندي المصري النوبي أحمد إدريس. قبل عام واحد، تم تكليفي بكتابة تحقيق أو إجراء مقابلة في مناسبة ذكرى حرب أكتوبر كجزء من عملي في موقع "إندبندنت عربية". أردت فكرة جديدة وزاوية فريدة. وحين ظهر اسم "أحمد إدريس" تخوفت من عدم القدرة على الوصول إليه، أو في حال الوصول إليه عدم قدرته على الحديث لتقدم في العمر أو لعدم وجود سابق معرفة بيننا، أو حتى لعدم رغبته في الحديث من الأصل. 

وجرى ما توقعت. لم يرد على المكالمة الهاتفية. وقبل أن أنتقل إلى فكرة أخرى، أرسلت له رسالة نصية قصيرة، فإذا به يبادر بالاتصال بي من محل إقامته في مدينة الإسكندرية. كنت غير مستعدة للحوار في هذه اللحظة، فطلبت منه مهلة نصف ساعة لأعاود الاتصال، فقال لي مطمئناً "مش مشكلة هستناكي"!

وبالفعل انتظرني، واستغرقت المكالمة الأولى ساعة كاملة. حكى "الحاج أحمد" بالتفصيل عن بطولته الكبيرة ودوره المحوري في دعم الحرب التي تكللت بالانتصار التاريخي. إنها الشفرة النوبية!

لكن قبل "الشفرة النوبية" حكى "الحاج أحمد" بكل فخر وتواضع في آن عن نشأته وطفولته. قال إنه حصل على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية الأزهرية عام 1952، بعدما ترك قريته "توماس وعافية" بمركز إسنا في محافظة الأقصر جنوب مصر ليحصل على قسط من التعليم في القاهرة. عاش مع أخيه الأكبر، الذي كان مقيماً في منطقة "حدائق القبة" بالقاهرة، حتى حصوله على شهادته الابتدائية، وبدلاً من أن يكمل تعليمه، كانت ثورة 1952 قد تركت آثارها الاجتماعية والمعنوية على الجميع بمن فيهم الفتى الصغير. لذلك أصر إدريس على الالتحاق بالكيان، الذي ظهر منه الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو (تموز) عام 1952. 

تطوع في الجيش وانضم بعد فترة التدريب لقوات حرس الحدود وهو مفعم بآمال ثورة يوليو الحماسية الشابة الفريدة. الصدفة وحدها قادته إلى مناقشة بين ضباط حول شفرة مختلفة للتواصل يصعب فكها من قبل العدو، وذلك قبل حرب أكتوبر بعامين كاملين. 

فما كان من الجندي الشاب إلا أن قال كلمتين مصحوبتين بضحكة بريئة: "اللغة النوبية". أخبرني "الحاج أحمد" أنه قال لقائده: "اللغة النوبية هي الحل. تكون هي لغة الإرسال، يحاول العدو فك شفرتها، يجد نفسه أمام لغة بلا أبجدية موثقة". وبضحكة أكثر براءة وخفة روح وصفاء قلب أضاف لي: "قائدي المباشر أخبر قادته بالفكرة فقالوا له هاتوا الصول ده".

وبالفعل "جابوا الصول ده" الذي وجد نفسه واقفاً أمام كوكبة من قادة الجيش يشرح لهم الفكرة وهي استخدام اللغة النوبية غير المكتوبة وغير القابلة للتفصيل في التواصل بأمان دون الخوف من قيام العدو الإسرائيلي بفك شفرتها، لأن لا شفرة لها. 

استمع القادة لشرح "الصول أحمد"، وبدورهم أبلغوها للرئيس الراحل محمد أنور السادات. وعرف "الحاج أحمد" وقتها أن الرئيس السادات أمر بالتكتم الفوري على الفكرة، وعدم التفوه بكلمة عنها وإلا تعرض الجميع للعقاب الشديد. ومرت ساعات قليلة قبل أن يجد الجندي الشاب نفسه مقيداً بـ "كلبشات حديدية" ومتوجهاً مع عدد محدود من الضباط إلى مكان ما لم يتم الإفصاح عنه، في جو يحيطه الصمت القاتل.

وحكى الحاج أحمد باستفاضة ووضح ذهن يحسده عليه ابن العشرين. "كنا في أبو صوير بالإسماعيلية، ووقتها لم يكن يمر يوم من دون أن يبلغ الأهالي عن شخص هنا أو هناك بأنه جاسوس. القيود الحديدية أصابتني بصدمة وقلق وخوف. الشيء الوحيد الذي فكرت فيه هو أن يكون أحدهم قد اتهمني بهذه التهمة البشعة. بعد ساعات قليلة وجدت نفسي بالقرب من قصر الاتحادية في مصر الجديدة، ومنه إلى بيت الرئيس السادات. هنا أخبرت نفسي أنني حتماً انتهيت. قادوني إلى غرفة مكتب الرئيس الراحل، وأخبروني أنه في اجتماع مع قادة الجيش، وأنه سيأتي ليقابلني ما إن ينتهي من الاجتماع. تحول الشعور بأنني ميت إلى يقين أن عشماوي سيدق الباب في أي لحظة لينفذ حكم الإعدام فيّ. مرت ساعة ونصف، وأنا جالس على مقعد، لكنها مرت علي كدهر كامل. ثم دخل الرئيس الراحل حاملاً عصاه تحت إبطه وغليونه في اليد الأخرى، فانتفضت واقفاً وأديت التحية العسكرية، فما كان منه إلا أن ربت على كتفي وقال لي: اقعد يا بني! فتسلل إليّ شعور خافت بالاطمئنان".

ظل الرئيس الراحل السادات يتحدث معه مدة 45 دقيقة عن أحواله، وإن كان متزوجاً وأطفاله وتعليمهم، وكيف يعيشون، وماذا يقول الناس في الشارع، وفجأة سأله: "إيه حكاية اللغة النوبية؟"

شرح إدريس فكرته، وما إن انتهى حتى غرق الرئيس الراحل السادات في موجة ضحك هيستيرية أعادت الرعب مجدداً إلى قلب الجندي الشاب الذي انتفض واقفاً مجدداً وسأل الرئيس: أنا قلت حاجة وحشة يا ريس؟ فرد الرئيس: "لا! أضحك لسبب في نفس يعقوب".

أسفرت نفس يعقوب ولحظات الضحك الهيستيري عن مفاجأة كبرى. وفي خلال أيام معدودة، تم جمع 344 جندياً مصرياً نوبياً على دراية تامة باللغة النوبية، وأصبحت كلمة السر في شفرة الحرب وما قبلها وما بعدها. اللغة غير الموثقة كتابة والمنقولة من جيل إلى جيل شفاهياً، تم اعتمادها سراً لشفرة الجيش المصري في حربه الجاري التخطيط لها آنذاك.

رحم الله "الحاج أحمد" الذي رحل قبل حلول ذكرى نصر أكتوبر العظيم الذي ساهم في تحقيقه بشكل غير مباشر وبطريقة فريدة هي الأولى من نوعها. فلم يحدث من قبل أن لجأ جيش نظامي، له عتاده وعدته، وأنظمة الشفرة المعقدة والمتطورة، إلى لغة اعتمدت عبر مئات السنين على النقل والتواتر الشفهيين، بمعنى آخر لا توجد سجلات لها تمكن أحدهم من اللجوء إليها، ودرسها وفهم أبجديتها ومن ثم كانت غير قابلة للفهم من قبل العدو.

ولأن ركن من أركان الحرب هو السرية فقد اتفق الرئيس الراحل السادات و"الصول أحمد" على أن يبقى محتوى حديثهما سراً. لذلك، حين سئل عما جرى في لقائه مع الرئيس، قال: "الريس أراد أن يسألني عما جرى بعد نقل النوبيين من بيوتهم عام 1964 لبناء السد العالي". 

وبسرعة شديدة وحنكة بالغة، تم تدريب 344 جندياً نوبياً، وجميعهم "ضباط صف" على أجهزة اللاسلكي الصغيرة. وبعد التدريب على الأجهزة، إضافة إلى تحديد الكلمات النوبية التي سيتم إطلاقها على الدبابات والجنود والمدرعات والأوضاع كلها بشكل عام، كان الجنود يسبحون في القناة ليلاً، وكل منهم يرتدي على رأسه نصف ثمرة بطيخ مفرغة، حتى اكتسبوا اسم "البطيخ العائم". انتابهم قلق وخوف في البداية من أن يكتشف العدو الإسرائيلي أمرهم فيقعون أسرى أو قتلى، بينما كان مكان الإقامة النهارية صهاريج المياه التي تتجمع فيها مياه الأمطار التي تهطل في فصل الشتاء. ومهمة الجنود وقتها كانت جمع المعلومات الخاصة بأعداد الجنود الإسرائيليين ومعداتهم العسكرية وأعدادها التقديرية، فمثلاً المدرعة تتسع لعدد معين من الأشخاص، ويوجد 20 مدرعة، مما يعني أن العدد المقدر للأفراد كذا، وهلم جرا.

ثم أتى دور النشاط الليلي لإرسال المعلومات. هنا يوجد 20 "أولوم" أي تمساح باللغة النوبية والمقصود بها دبابة، و30 "أسلانغي" أي ثعبان، ومعناها عربة مجنزرة، وهكذا. أما التعيينات من طعام وشراب، فكان يمدهم بها مصريون من بدو سيناء. وظلت الأمور هكذا من عام 1971 حتى يوم الخامس من أكتوبر عام 1973. ويشار إلى أنه تم تزويد القوة المصرية النوبية الموكل لها مهمة الإرسال باللغة النوبية بـ 20 محطة لاسلكية، أطلقوا عليها اسم "أوندي"، أي ذكر بالنوبية، وتم تعريفها بـ "أوندي1" و"أوندي2" وهكذا.

استطرد بشغف، إنه في اليوم الموعود كان كل قائد معه خطاب مغلق عليه أن يفتحه الساعة الثانية إلا عشر دقائق بعد الظهر. وفي الوقت المحدد تم فتح الخطابات التي حملت كلمات "أوشريا"، أي "اضرب" و"ساع أوي" أي الساعة الثانية. ويشير بطل الشفرة النوبية إلى أنه في تمام الثانية وعشر دقائق من بعد ظهر هذا اليوم كان تحرك القوات المسلحة المصرية في أوجه.

يتحدث أحمد إدريس عن فكرته بثقة بالغة ويقين بأن شفرة اللغة النوبية أسهمت بقدر كبير في صناعة النصر. يقول، "ثلاثة أشياء صنعت النصر إضافة إلى إرادة الله: دهاء وحكمة الرئيس السادات في خطة الحرب والتمويه الذي سبقها، وفكرة خراطيم الماء التي أسقطت خط بارليف التي اقترحها الراحل اللواء مهندس باقي زكي يوسف، وفكرتي باستخدام اللغة النوبية شفرة لرسائل الجيش وتعليماته".

قال لي بالحرف: "ثلاثة أشياء صنعت النصر إضافة إلى إرادة الله: دهاء وحكمة الرئيس السادات في خطة الحرب والتمويه الذي سبقها، وفكرة خراطيم الماء التي أسقطت خط بارليف التي اقترحها الراحل اللواء مهندس باقي زكي يوسف، وفكرتي باستخدام اللغة النوبية شفرة لرسائل الجيش وتعليماته".

ظل "الحاج أحمد" بطل "الشفرة النوبية" نشيطاً حتى الأيام الأخيرة من حياته الحافلة. والنشاط في الكبر ليس فقط صحة جسدية جيدة، بل راحة نفسية وشعوراً بقيمة الحياة ومعناها. في عام 2017، منح الرئيس عبدالفتاح السيسي "الصول أحمد" وسام النجمة العسكرية في احتفالات نصر أكتوبر. وفي العام الماضي، ألقى "الحاج أحمد" كلمة في احتفال شعبي أقيم في الإسكندرية عن الشفرة واللغة النوبية وأثرها في تحقيق النصر. هذه اللقاءات الثقافية كانت عادة يحرص عليها. قال لي أنه طالما قادر على الحركة والتفكير لا يرفض دعوة للقاء وحديث للشباب عن حرب أكتوبر. "ألبي أنا وعدد من أبطال حرب أكتوبر في كل عام دعوات لشرح وسرد ما قمنا به في الحرب في جامعات ومدارس ومراكز شباب. هذا واجب علي ليبقى الشباب على معرفة بروعة بلدهم وذكاء وحنكة جيل الآباء والأجداد".

الغريب أن  أياً من أحفاد "الحاج أحمد" الـ 11 لا يتحدث اللغة النوبية. فجميعهم ولد ونشأ في الإسكندرية، ولا يعرفون اللغة النوبية. لكنه أضاف بسرعة: "لكن كلهم يعرفون ما فعل جدهم".

كانت أمنية "الصول أحمد" أن يتم إنتاج عمل توثيقي أودرامي عن دور اللغة النوبية في حرب أكتوبر، "فما جرى يستحق أن تعرفه الأجيال الجديدة، وأن يبقى في الذاكرة لأنه جزء من تاريخ مصر".

رحم الله "الصول أحمد" بطل حرب أكتوبر العظيمة وصاحب فكرة "الشفرة النوبية" الفريدة. 
 

نشر في عدد الهلال أكتوبر 2023

 

Dr.Radwa
Egypt Air