في عام 1983 ألقى المفكر الفلسطيني الشهير " إدوارد سعيد " محاضرة بجامعة أكسفورد بعنوان " إسرائيل تجتاح لبنان " بين فيها ما خفي على العالم من وراء غزوها لبنان وهو تصدير أزمتها الداخلية المُزمنة بوصفها نموذجا يتكرر بين الحين والآخر، ومن ثمة يشتت انتباه البشرية ويُبعد عن الاعتقاد بأن إسرائيل تقوم على أرض ليست أرضها، مثل هذا النموذج هو الذي جعل العديد من أفراد الصفوة اليهودية يغادرون إسرائيل بعد هجرتهم إليها عندما اكتشفوا أنها تتعدى في أجندتها " الجغرافيا الوهمية " إلى غزو جيرانها وهذا ما دفع " ناعوم تشومسكي "أستاذ اللسانيات الأمريكي، والفيلسوف عالم الإدراك والمنطق، والمؤرخ والناقد والناشط السياسي، إلى هجر الإقامة في الكيبوتس في إسرائيل عندما أدرك عن قرب انزلاق إسرائيل -على حد قوله - إلى السياسة العدوانية، وهذا ما فعله أيضا عدد من المثقفين اليهود، انتقادا لسياسة إسرائيل العدوانية والتفرقة العنصرية التي تنتهجها.
وهذا الذي ذكره " ادورد سعيد " يتكرر بتفاصيله في أحداث غزة اليوم، وشاهدها المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني .. والذي ذكره أيضا " تشومسكي" من قبل حين تحدث عن نتائج هذا الصراع بأنه مرتبط برد فعل العالم تجاه جرائم إسرائيل، ومعارضته لها، لكن ذلك لم يتحقق ولم يصل بعد إلى النقطة التي تؤثر فيها بشكل كبير على سياساتها في الاعتماد على ميزة القوة الساحقة لديها.
استحضرت هنا هذه العبارات التي ذكرها د. محمد شاهين في المقدمة التي كتبها لكتاب " إدورد سعيد : أماكن الفكر " من تأليف: تمثي برنن . لأؤكد بها أن ما نذكره اليوم، قيل بالأمس، وقبل الأمس، ومنذ زراعة هذا الكيان في الأراضي الفلسطينية المُنتزعة من أهلها، بالقتل والتدمير والإرهاب. وسيظل الصراع مستمرا طالما ظل هذا الكيان قائما وحاضرا بأطماعه التوسعية في المنطقة كلها، وليس في فلسطين وحدها، ولأن تلك القضية تُعد من أخطر القضايا التي يواجهها مجتمعنا العربي، بل وتواجهه منطقة الشرق الأوسط كلها ، فلقد تفاعل الكتاب والمبدعين معها، وما يهمنا هنا كتاب المسرح، هؤلاء الذي قدموا نصوصا كثيرة جدا (مصر والبلدان العربية) تُعالج موضوع الصراع العربي الإسرائيلى ، مؤكدة على الحق الفلسطيني، وحق العودة، منحازة لقيمة المقاومة التي بدونها لن تتحرر الأرض المسلوبة من أصحابها. وحقيقة الأمر فإن الأدب المُقاوم بكل أنواعه وأجناسه، بدأ في فلسطين المُحتلة منذ 1948 وانطلق بعدها ليتبناه عدد كبير من الكتاب العرب، المؤمنين بالقضية الفلسطينية، انطلاقا من أن الصراع - في واقع الأمر - صراع عربي إسرائيلي، وليس صراعا فلسطينيا إسرائيليا فقط ، وعلى حد تعبير الكاتب الفلسطيني ( غسان كنفاني ) إن الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية والبدنية التي تشنها إسرائيل على الثقافة العربية، والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي علي الصورة التي نراها الآن .
المسرح والقضية
لقد استطاع المسرح العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص، التعبير عن كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بموضوعات، تناولها بطرق أكثر شمولية، لتعبر عن الصراع العربي الإسرائيلي، لأنها ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية كل العرب، لأن وجود إسرائيل في المنطقة، يمثل خطرا على البلدان العربية، في ظل انتهاج سياسة التوسع، وممارسة النفي، والتهديد والوعيد، ومحاولة قيادة المنطقة، تنفيذا للسياسات والدعوات المُغرضة، التي تنادي بشرق أوسط جديد، تتزعمه الدولة الصهيونية التي تريد أن تُصبح القدس العربية عاصمة لها. وهذا السلوك الذي يعكس أطماع ذلك الكيان، يُعد دافعا من الدوافع التي جعلت الكاتب المسرحي العربي مهموما بتلك القضية، ذلك الهم انعكس في معالجته لموضوعات كثيرة، عبرت عن طبيعة هذا الصراع، ودوافعه، في إطار ما يسمى بالإبداع المُقاوم ، سواء قدمه كتاب داخل فلسطين أو خارجها، وعلى الرغم من أن مصر هي الدولة التي أبرمت - مبكرا- اتفاقية للسلام مع الكيان الصهيوني في عام 1978 ، إلا أن كتابها بشكل عام وكتاب المسرح بشكل خاص، لم يكتبوا كلمة واحدة تعزز من تلك الاتفاقية المُبرمة ، بل قاوموها بشكل لافت، وأصبحت قضية مقاومة التطبيع، هي قضية كل المثقفين المصريين، ومن اللافت أن كاتبا مسرحيا مثل ( على سالم) وهو الوحيد الذي قام بزيارة إسرائيل، وكتب كتابا أسماه ( رحلة إلى إسرائيل) أصدره في عام 1994 لم يستطع كتابة أي نص مسرحي يدافع فيه عن فكرة السلام المزعوم، أو يدافع فيه عن إسرائيل، كما دافع عنها في مقالاته حتي رحيله عام 2015 وذلك الموقف يؤكد أن الإبداع الحقيقي لايمكن أن يكون أداة للتزييف، حتى عند هؤلاء الذين مارسوا التزييف بعيدا عنه، وعلى سالم نفسه كتب أعمالا لاقت رواجا واهتماما، بسبب موقفها الإيجابي من تلك القضية، على عكس مواقفه الأخرى، ولم نره يتنصل منها، ومن هذه الأعمال مسرحيته ( سفينة نوح ) التي كتبها عقب هزيمة يونيه 67 ، ومسرحيته القصيرة ( الملاحظ والمهندس ) التي ناقش فيها فكرة الأمن والأمان، تلك الفكرة التي طُرحت إبان اتفاقية (كامب ديفيد)، وكانت إسرائيل ترددها كثيرا، وتتخذها حجة لتبرير ما تفعله، وفي مسرحيته تلك ، تناول الصراع بين ضدين كاشفا أبعـاد كل منهما على حـدة، مصورا التعارض بين موقفين : موقف ( الملاحظ ) الذي يمثل - في المسرحية - الأصالة التي لها جذور ممتدة في الواقع؛ تجعل شخصيته ثابتة متزنة ؛ لا يخاف من شيء فليس هناك ما يدعوه إلى الخوف، لأنه صاحب المكان ، ويعلم تفاصيله جيدا . وموقف " المهندس " الذي يمثل " الغريب " الفاقد لأي صفة تجعله مطمئنا للمكان الذي يعيش فيه، ولهذا السبب أصبحت شخصية مهتزة ، يبحث عن أمنه الشخصي؛ ويستخدم القوة – مسدسه الشخصي - وسيلة لتحقيق هذه الغاية.
يشارك المهندس زميله الملاحظ في الاستراحة المُعدة لهما معا ؛ فيقوم بتغيير كل شيء، مستبدلا الأشياء البسيطة الموجودة داخل الاستراحة بأشياء أخرى حديثة ومتطورة.
المهندس: الحيطان تتلزق ورق تاخد وش زيت ، وبعدين تتلزق ورق .. الأرض تتفرش موكي . الحوض ده يتغير .. يبقى ستانلي ستيل. ويركب على الصنبور فلتر (ميكرونايت )
ويطلب المهندس من ( الملاحظ ) ضرورة التخلص من كل الأشياء التي يمكن أن تهدده – فيما أسماه – بأمنه الشخصي . ولقد أجاد ( على سالم) ترجمة الخوف الذي ينتاب " المهندس " الدخيل . خوفه على أمنه وإحساسه بعدم الأمان في المنطقة الغريب عنها .
- خوفه من وجود القصب في حقل قريب من الاستراحة .
المهندس : أي حد يستخبي في القصب، ممكن يصطاد حد فينا ( الملاحظ تستولي عليه دهشة مفاجئة ).
الملاحظ : محصلش قبل كده ؟
المهندس: اللي محصلش قبل كده ممكن يحصل بعد كده .
- يحمل مسدسا ؛ وعندما يسأله الملاحظ عن السبب يقول :
- تسليح شخصي أهم حاجة بالنسبة للإنسان هي أمنه الشخصي. بين المصنع وبين المساكن اثنين كيلو .. ممكن حد يطلع علىَّ !
- يملك رشاشا صغيراً لنفس السبب " الأمن الشخصي" ويشعر في الوقت نفسه أن مجرد وجود السكاكين والشوك في المنزل تُعد سببا من الأسباب التي تهدد أمنه الشخصي ، وعندما يشعر " الملاحظ " بهذا يقوم بإلقاء السكاكين والشوك من النافذة ؛ والمهندس يفسر الأمر تفسيرا آخر يقل للملاحظ:
- ممكن تستاء منى وبعدين يتزايد استياؤك ويتحول لحقد.. حقد يعمى قلبك ويشل عقلك .
ويكثف " على سالم " هذا الخوف في نهاية المسرحية، عندما يسأله الملاحظ :
- ماذا ستفعل مع العقارب ؟!
والملاحظ يستطيع أن يتخلص منها بضربة (شبشب) ويسأله المهندس في ارتياب:
- يعنى لو قرصت حد .. تموته ؟!
الملاحظ : في دقائق .. بس مش أي حد .. أهل المنطقة – هنا – واخدين عليها .. أنا شخصيا اتلدعت منها كثير
وعندما يسأله " المهندس " عن الطريقة التي بها يستطيع أن يتخلص منها يقول . الملاحظ : زى ما حضرتك شفت .. بالشبشب
المهندس : بالشبشب ؟
الملاحظ : أو بالجزمة .. أو بالقبقاب . دي الأسلحة الفعالة .. ويمارس "الملاحظ" على " المهندس " التخويف لإحساسـه بأنه لا فائدة فيـه ، طالما ظل الخوف يجتاح تفكيـره .. ( الأمن الشخصي ) .. وينام "الملاحظ" شاعرا بالأمن والأمان لأنه صاحب المكان . ولا شيء يؤرقه، بينما يجلس المهندس على سريره، يرفع المخدة بحذر، ويبحث تحتها. ينقل بصره بين الجدران . ينحنى تحت السرير ويراقب أسفله يعود بسرعة لأمتعته، ويخرج مصباحا كهربائياً صغيرا ، يمسكه بيده اليسرى، وباليمنى يمسك المسدس، يتذكر شيئا .. يترك المسدس ويمسك فردة الشبشب بدلا منه ، يبحث جيدا تحت السرير ، يجلس متلاحق الأنفاس .. ينظر حوله ببطء في دائرة كاملة .. يقفز فجأة .. ويراقب مقعدا صغيرا يمسك بمسدسه في يد والرشاش في اليد الأخرى، ويستمر على هذه الحالة من الخوف إلى أن ينزل الستار .
المحروسة 2015
ومنذ كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيته ( وطني عكا) ، وكتب ألفريد فرج ( مسرحيته ( النار والزيتون) ، وكتب محمود دياب مسرحيته ( أرض لم تنبت الزهور ) وقبلها مسرحيتيه (رسول من قرية تميرة ) و( باب الفتوح) ، منذ كتب هؤلاء نصوصهم في الستينيات، والكاتب العربي في مصر وخارجها كان حريصا على تناول تلك القضية الحيوية ، فقرأنا - أيضا - أعمالا لسهيل إدريس ( زهرة من دم ) ولكاتب ياسين ( فلسطين المخدوعة ) ولسعد الله ونوس ( اغتصاب)، ولعلى عقلة عرسان (فلسطينيات)، وهارون هاشم رشيد (السؤال)، وقبل كل هذه الأعمال- كلها - قرأنا لعلى أحمد باكثير مسرحيته ( شيلوك الجديد) واستمرت مسيرة الإبداع المسرحي المُعبر عن القضية الفلسطينية قائمة، ومستمرة إلى اليوم، حتى أن كاتبا مثل (سعد الدىن وهبة) قد ختم حياته بتقديم نص مسرحي مهمة، عالج فيه تلك القضية، واختار زاوية جديدة لم يتطرق لها المسرح العربي من قبل وهي ( قضية التطبيع ) بشكل جريء، وأسماه ( المحروسة 2015) تلك المسرحية التي أثارت الفزع في نفس الكاتب (محمد حسنين هيكل ) حين كتب مقدمتها، وتساءل : أترى أن هذه الصور التي رسمها (سعد الدىن وهبة) واردة في مستقبل ما يجرى في مصر بعد ذلك النوع من السلام مع إسرائيل؟؟ وبحثا عن الإجابة قام بسؤال (سعد الدىن وهبة) عما إذا كان يتصور أن مشاهد نصه المسرحي واردة بالفعل في الواقع ، فكان رده "إنه لم يفعل في نصه غير أنه وصل بالاحتمالات إلى نهايتها المنطقية"، وعلى الرغم من أن المسرحية تشير إلى المخاطر التي يمكن أن تصيب الوطن من جراء الاستسلام للتطبيع والسعي نحوه لدرجة أنه يرى أن "الوضع إذا استمر على ما هو عليه ، سنصل إلى المرحلة التي تصبح فيها لإسرائيل اليد الطولى في كل شيء" أقول على الرغم من هذه الرؤية السوداء، إلا أنه في نهاية المسرحية يقدم رؤية متفائلة، حيث نرى الفلاحين يرفضون تدخل إسرائيل ،في كل شيء، خاصة عندما طلبوا - في المسرحية- استئجار قناة السويس !! يثورون ويطردون إسرائيل ، وهى النهاية التي يتمناها الكاتب على المستوي الواقعي. وتعد صرخة (صابحة) في نهاية المسرحية رسالة تحذير لكل المطبعين . تقول "معقول يحصل في المحروسة اللي عمره ما حصل، معقول يتحكم فيها شوية لصوص وقطاعين طرق ، معقول رجالتها يسيبوها في إيد اللى يسوى واللى ما يسواش ، طبعا مش معقول، لا يمكن دا يحصل، والمحروسة ماعادش فيها حد، لا راجل ولا ست، ولا عيل، كلهم حيدفعوا دمهم قدام اللى يفكر يحط إيده عليها تانى".
- لقد استطاع كتاب المسرح المعاصرين، السير على نفس النهج الذي سار علىه من سبقوهم من كتاب المسرح فظهرت أعمال لكل من (أبو العلا السلاموني - يسري الجندي - الميداني ابن صالح
- حكم بلعاوي - نبيل بدران) ومن الشباب ظهرت أعمال لكل من (سامح العلى - عادل موسي - منتصر ثابت - حامد إبراهيم) وغيرهم.
القتل في جنين
هذا النص كتبه الكاتب (محمد أبو العلا السلاموني) لأول مرة في عام 1973 عقب انتصار الجيش المصري في حرب 6 أكتوبر 73، وعالج فيه موضوع الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ثم أعاد كتابته مرة أخري في عام 1985 ليجعل قضيته هي قضية الحرب والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة بعد إبرام اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ، وانعكاس تلك الاتفاقية علي الفلسطينيين. وفي المعالجتين، كان النص اسمه ( المزرعة ) ثم - بعدها- حدث الاجتياح الإسرائيلي لمخيم (جنين) الفلسطيني في أبريل عام 2002 ، فأعاد المؤلف كتابة النص ، متناولا فيه تلك الأحداث، مؤكدا- من خلاله - علي أن إسرائيل ترفض فكرة فلسطين الديمقراطية، تعبيرا عن نزعتها العنصرية، وهذه النزعة ستكون ضد السلام .
والكاتب يؤكد – من خلال المعالجة الدرامية لهذا الموضوع – علي أن الصهيونية التي تتزعمها أمريكا ، صنعت ما أسمته ( حرب الإرهاب ) وجعلته شعارا تضرب به كل الشعوب العربية، وحين تستخدمه، تخلط بينه وبين مفهوم المقاومة والاستشهاد في سبيل تحرير الأرض، والدفاع عن الحق، هذا الخلط يكشف، أن شعار محاربة الإرهاب، ما هو إلا شعار يُعيد التاريخ إلي ما قبل ظهور التاريخ ، ويُكرس لزمن البطلان، ونهاية لتاريخ الإنسان.