الإثنين 29 ابريل 2024

حكايات من زمن المماليك (3).. الغيرة القاتلة

مقالات26-1-2024 | 16:18

لم تكن سوى امرأة مملوكة، لكنها نالت من الشهرة ما لم تنله امرأة مثلها في عصرها، كانت حياتها صعوداً إلى الهاوية، وذهاباً إلى المجهول، كانت كنجم لامع، وبريق خاطف، توهّج في سماء الشرق أياماً، ثم ما لبث أن خبا وانطفا، ثم طواه الظلام.

رفعتها أيد المقادير من سفح الحياة إلى قمتها، ثم ألقت بها إلى هاوية الموت بلا رحمة وغير مأسوف عليها، فمن جارية تعتلي صهوات الجياد، إلى زوجة ذات حظوة عند زوجها السلطان، ثم إلى سلطانة تسود وتقود، وتأمر وتنهي، إلى زوجة ترضى بسلطان زوجها وتعيش في ظله وتحت إمرته على هامش السلطة.

عاشت رجلاً بين الرجال، وأنثى لا ترضى أن يشاركها غيرها في زوجها، لكنها راحت ضحية هذه الأنثى التي بداخلها، وضحية الغيرة التي لم تستطع التحكم فيها والتغلب عليها، فخانها ذكاؤها، وتخلت عنها حكمتها ورجاحة عقلها، ولم يفلح دهاؤها، فدفعتها غيرتها إلى قتل زوجها فكان أن قُتلت جزاء ذلك، فقضت غيرتها على زوجها وعليها.

إنها شجرة الدرّ، ومعناه الجميلة اللامعة مثل الشجرة التي تحمل (اللؤلؤ)، قيل إن سبب تسميتها أن أباها، الذي اختطفت من بين أحضانه وهي صغيرة، كان يحبها وأهداها فستاناً من الدرّ فلما لبسته كانت وكأنها شجرة من اللؤلؤ.

وربما كان لها من اسمها نصيب كبير، فيذكر المؤرخون أنها كانت بارعة الجمال، ذات شعر أسود فاحم، وبشرة بيضاء كالحليب، وصوت أخّاذ آسر، وإضافة إلى جمالها الظاهر كانت ذات ذكاءٍ لامع، وعقل راجح، ورأي حازم، وشخصية قوية، وصاحبة حديث يأخذ بالألباب، وفوق هذا وذاك، كان لها صوابٌ في المسعى. 

شجرة الدرّ أو عصمة الدين أم خليل، ذات الأصل الأرميني، وقيل: التركي، حكمت مصر مدة ثمانين يوماً، فكانت أول امرأة في التاريخ الإسلامي في مصر تتولى السلطة، وأول مملوك حكم مصر والشام، وبها بدأ حكم المماليك. أنقذت بلاد المسلمين من الحملة الصليبية السابعة، وخطت بمصر نحو الاستقرار السياسي في فترة مضطربة من تاريخها.

طفولتها مجهولة، لكن أول ظهور لها على مسرح التاريخ عندما كانت مملوكة شابة في حريم الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين في بغداد (حكم بين عامي 1242-1258م). ليشتريها بعد ذلك الصالح نجم الدين أيوب ويضمها إلى حريمه قبل أن يعتلي سلطنة مصر، فتقع منه موقع الحب والحظوة، فكان أن أعتقها، ثم تزوجها، وأنجبت منه ابنهما خليل الذي مات في حياة والده.

وما أن عاد إلى مصر واستولى على الحكم فيها بديلاً عن أخيه السلطان العادل بتأييد من أكابر الأمراء ومماليك والده، وهبها لقب الزوجة المفضلة؛ ليعلو نجمها وتتصدر المشهد السياسي في مصر في فترة عصيبة من تاريخها وتكون مشاركا فاعلاً في أحداثه.


ظلت شجرة الدّر الزوجة ذات الحظوة لدى السلطان الصالح نجم الدين أيوب طيلة تسع سنوات، وكان التحول الكبير في حياتها يوم أن مات السلطان بينما كانت المعارك مشتعلة في دمياط مع قوات الملك الفرنسي لويس التاسع، في الحملة الصليبية السابعة على الشرق الإسلامي.

فاستطاعت شجرة الدّر أن تدير الأمور بحكمة وفطنة، وتمكنت من السيطرة على الوضع السياسي والعسكري إلى أن وصل "توران شاة" ابن السلطان ليتولى السلطنة. وبفضل حنكتها السياسية والعسكرية وتحكمها في مسار الأحداث تمكن المماليك من هزيمة قوات لويس في المنصورة وأسر الملك الفرنسي وجيشه، بل وتحافظ على استقرار البلاد ونظامها بعد أن قتل المماليك توران شاة بعد ذلك بفترة وجيزة لخلافات بينهم وبينه.


وبعدما عاين المماليك ما لديها من قوة شخصية، وحنكة سياسية، ومهارة في تصريف أمور الدولة في هذا الوقت العصيب، إضافة إلى أصلها المملوكي، ارتضوا أن تكون سلطانة عليهم يوم الخميس الثاني من شهر صفر عام 648هـ، وألبسوها خلعة السلطنة، من الحرير المضفور بالذهب، وقبَّل لها أمراء المماليك الأرض من وراء حجاب، وخطب الخطباء باسمها على المنابر ورفعوا الدعاء لها: “واحفظ اللهم الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم خليل"، وكان خليل ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب زوجها، وتوفي في حياة والده.

حاولت أن ترضي الجميع، الكبير والصغير، بكل ما يمكن، فأنعمت على الأمراء بالوظائف السنية، ووزّعت عليهم الاقطاعيات، وأغدقت على الجند بالأموال والخيول، وبدا أنها تسوس الرعية أحسن سياسة، غير  أنه لم يكن تولي امرأة السلطة العليا في البلاد، في بادرة هي الأولى من نوعها في دولة إسلامية، وخرقاً للتقاليد الإسلامية المتعارف عليها، ليقبله الناس بسهولة، فلم يقبل به قاضي القضاة العز بن عبد السلام، ذو الشخصية المؤثرة في المجتمع المصري في ذلك الوقت، والذي أفتى بأن المفهوم الإسلامي لا يعطي الحق للمرأة أن تصبح حاكماً ونقل عنه المؤرخون أنه قال: "لما تولت شجرة الدرّ على الديار المصرية، عملت في ذلك مقامة، وذكرت فيها بماذا ابتلى الله به المسلمين بولاية امرأة عليهم"، وتظاهرت جموع من الشعب ضدها.


ولما بلغ الخليفة المستعصم بالله، وهو ببغداد، أن أهل مصر قد سلطنوا امرأة، أنكر عليهم ذلك غاية الإنكار. وأرسل يقول لهم في لهجة ساخرة آمرة: أعلمونا إن كان ما بقي عندكم في مصر من الرجال من يصلح للسلطنة، فنحن نرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة". 

تعاملت شجرة الدرّ مع المعارضة لوجودها على رأس السلطة، بحكمة وذكاء، وجنَّبت البلاد الدخول في خلاف مع الخلافة، أو الدخول في شجار مع الشعب، فجمعت الأمراء والقضاة، وخلعت نفسها من السلطنة برضاها. وأشار البعض عليها بالزواج من عز الدين أيبك، قائد المماليك، فقبلت، وساندته حتى صار سلطاناً على مصر بداية من يوم السبت الموافق 29 ربيع الآخر سنة 648هـ..

سار قارب الحياة الزوجية بين شجرة الدرّ وزوجها السلطان عز الدين آيبك مدة ست سنوات في هدوء وسكينة، لا تواجهه أمواج، ولا تضربه عواصف، على الرغم مما اعترض السلطنة من منغصات سياسية وعسكرية، كانت شجرة الدرّ فيها إلى جوار زوجها، تدعّمه بالرأي الراجح والمشورة السديدة، وتشجعه وتؤازره، بل وتشاركه الحكم من وراء ستار، إلى أن جاءت سنة 654هـ، حتى دبّت الخلافات بين الزوجين، فتغيّرت عليه، وتغيّر عليها؛ لأنها دائمة التذكير له بفضلها عليه، وكانت تمن عليه في كل وقت، وتقول له: "لولا أنا ما وصلت أنت إلى السلطة"، وكانت قد ألزمته بطلاق زوجته، أم ولده الأمير علي، فطلَّقها إرضاءً لها.

ولأنها كانت شديدة الغيرة، فما أن بلغها أن السلطان عز الدين أيبك أرسل يخطب بنت بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، حتى وتأججت غيرتها، وثارت ثورتها، ولا شك أنها قد لاحقته بمعايرتها له وتذكيره بفضلها عليه، وحدثت بينهما مشاجرات وخلافات مثلما يحدث من زوجة غيورة على زوجها مجروحة في كرامتها كأنثى، فترك القلعة وهجرها أياماً، فأرسلت له  من تلّطف به حتى عاد إلى القلعة، ثم قابلته بلطف وقبّلت يده على غير عادتها، فظن ذلك رضاً منها، ولا تعدم المرأة الخديعة والحيلة، حتى إذا اطمأن إليها، وكانت قد أضمرت له السوء، فأظهرت له محبتها، وأوهمته برضاها.

 وفي ليلة الأربعاء 25 ربيع الأول سنة 655هـ، ندبت له خمسة من الخدّام الروم، وقالت لهم: "إذا دخل الحمّام، اقتلوه بها"، فبينما هما في الحمّام، دخل عليهما الخدّام، وبأيديهم سيوف مسلولة، فلما عاينهم السلطان، استجار بشجرة الدرّ، وقبَّل يدها، فقالت للخدّام: "اتركوه"، فقال لها أحدهم: "متى تركناه لا يبقي عليكِ ولا علينا"، فقتلوه في الحمّام خنقاً، وأشاعوا أنه أغمي عليه في الحمّام. فملا أصبح الصباح أشيع بين الناس موته، فركب ابنه الأمير علي، وأمراء المماليك، إلى القلعة، فغسَّلوا الملك المعزّ، وكفّنوه، ثم صلّوا عليه ودفنوه.


وفي رواية أخرى، إنه كان عائداً من بعض التريض، ودخل الحمام لينفض عنه الغبار ويغتسل، فأوعزت إلى الخادمات بضربه بالقباقيب الخشبية حتى أجهزن عليه، ثم ادّعت أنه قد سقط من فوق جواده أثناء عدوه، في محاولة يائسة للتستر على الجريمة.

وأمام ريبة أمراء المماليك ومواجهتهم لها لم يكن أمامها سوء الاعتراف بأنها أرادت الانتقام منه، وأنها لم يخطر ببالها أبداً أن ذلك سيؤدي إلى وفاته. وانقسم أمراء المماليك فبينما رأى البعض أنها اقترفت ذنباً وارتكبت جريمة، رأى البعض أن لها من الأيادي على مصر وعلى المماليك أنفسهم الشيء الكثير. وانتهى الانقسام بانتصار أصحاب الرأي الأول، وحُبست في أحد أبراج القلعة، ثم نُودي بالمنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وكان عمره، يوم بويع بالسلطنة، 21 عاماً، ليكون سلطاناً جديداً خلفاً لوالده.


سُلِّمت شجرة الدر إلى أم السلطان علي، التي أمرت جواريها أن يضربوها بالقباقيب والنعال حتى ماتت، ثم سحبوها من رجليها وألقوها في خندق خلف القلعة، وهي عريانة، وليس في وسطها غير ما يستر عورتها. واستمرت مرمية في الخندق ثلاثة أيام دون أن تدفن، ثم حملت إلى المدرسة التي بجزار بيت الخليفة، فدُفنت بها.  

Dr.Randa
Dr.Radwa