الخميس 2 مايو 2024

«وثيقة المدينة 4» التكافل الاجتماعى والتعاون

صورة أرشيفية

8-4-2024 | 17:39

بقلـم: د. محمد أحمد سرحان
إنه المجتمع المثالى الذى لم يعرف له التاريخ مثيلا، وإنها المدينة الفاضلة التى لم تكن إلا فى عقول بعض الفلاسفة، ولم تعرف الإنسانية أمثال هؤلاء الذين كانوا فى عالم التراب وكأن مادتهم من السحب، يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس فى تركيب طباعهم إلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا الإخلاص وإن كان حرمانا، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألما. وقد كان من أبرز ما اشتملت عليه وثيقة مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التكافل الاجتماعى والتعاون لمنع الظلم فهى أول وثيقة فى التاريخ تقرر التعايش والتكافل والتراحم بين الجميع مع المحافظة على خصوصيات مكونات المجتمع نفسه وإقرار العدل التام بينهم، من غير تفرقة أو تمييز. إن هذه الوثيقة نظّمت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدفاعية لسكان المدينة المنورة من المسلمين والمشركين واليهود: ليجد الفقير معاونة من الغنى فى معيشته وسداد دينه وتحمّل فداءه وديّته. كما أن الجار له حرمة من جاره، وسكان المدينة المنورة آمنون فيها من القتل والاغتيال والغدر، ولكل دينه الذى هو عليه، والمجرم ينال عقابه على جرمه. وإن تعرضت المدينة لاعتداء، أو حدث اختلاف بين افراد المجتمع، أو الموقعين على الوثيقة، فقد نصّت على التعاون الدفاعى بين جميع الأطراف، كما نصّت على قيادة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لسكان المدينة المنورة كافة: مسلمين، ومشركين، ويهود، فإليه يرجع الأمر كله، وله أن يحكم فى كل اختلاف يقع بين السكان، وبذلك أصبح أهل المدينة متكافلين متعاونين بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فى الدفاع عن المدينة ضد كل اعتداء خارجى، لضمان سلامتهم وللحفاظ على مصالحهم وأمنهم، فهذه الأسس أو المقومات التى نصّت عليا الوثيقة تعد أهم مقومات المجتمع الأساسية للتعايش السلمى، والتكافل الاجتماعي. ولقد ضرب الصحابة (رضى الله عنهم) أروع الأمثلة وأسماها فى التكافل، والتعاطف، والتراحم، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا، فقال (صلى الله عليه وسلم): «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله»؟ فقال رجل من الأنصار- وفى رواية أنه أبو طلحة- فقال: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمى ضيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالت: والله ما عندى إلا قوت الصبية!! قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئى السراج، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ففعلت. ثم غدا الضيف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة» وأنزل الله فيهما: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ..)، وقوله- سبحانه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ولكنها القلوب النقية، والنفوس الطاهرة، التى لا تعرف حقدا أو غلا أو حسدا للآخرين. قال: الحسن البصرى: { ولا يجدون فى صدورهم حاجة } يعنى: الحسد. (مما أوتوا ) قال قتادة: يعنى فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن أنس قال: كنا جلوسا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة».. فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى.. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إنى لاحيت أبى فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤوينى إليك حتى تمضى فعلت.. قال: نعم.. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالى فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر.. قال عبد الله: غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة».. فطلعت أنت الثلاث المرار فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك فأقتدى به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قال: ما هو إلا ما رأيت.. فلما وليت دعانى فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنى لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه.. قال عبد الله: هذه التى بلغت بك. التعاون لمنع الظلم كما أن من أبرز ما نصت عليه الوثيقة هو منع الظلم والتعاون من أجل ذلك، لأن العدل هو أهم الركائز التى قامت عليها هذه الوثيقة؛ وذلك باعتباره أهم مقوِّمات الاستقرار فى المجتمعات والشعوب، وبدونه يُصبح الضعيف مغلوبًا على أمره، فاقدًا لحقوقه، بينما يرتع القوى فى حقوق الآخرين دون وجه حقٍّ، وقد كانت المجتمعات الجاهلية تقوم على نُصرة القريب، سواء كان ظالمًا أو مظلومًا؛ وذلك بدافع العصبيَّة القَبَليَّة، ولمَّا جاء الإسلام هذَّب هذه القاعدة بِإقرار نُصرة المظلوم، وجَعْل نُصرة الظالم بالأخذ على يديه ومَنْعِهِ من الظلم، (عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال: رجل يا رسول الله أنصره إذ كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره)، ومن ثَمَّ فقد كان أحد البنود فى هذه المعاهدة هو: «وإن النصر للمظلوم» وأُطلق هنا لفظ المظلوم ليظهر لنا أحد معالم العظمة الإسلامية فى إقرار حقوق الإنسان فى هذه الوثيقة؛ فسواءٌ كان المظلوم مسلمًا أو يهوديًّا فإن له النصرة، وعلى ظالمه العقوبة، فلو أن مسلمًا ظَلَم يهوديًّا فإنه يُعَاقَب على هذا الظلم، ويُرَدُّ الحقُّ إلى اليهودي، وكذلك لو ظَلَم يهودى مسلمًا فإنه يُعَاقَب ويُرَدُّ الحقُّ إلى المسلم، هذا هو التشريع الإسلامى العظيم الذى يحفظ لكل إنسان حقوقه، دون تمييز أو تفريق، ومن البنود التى تُؤَكِّد معنى العدل أيضًا البند الثانى عشر: «وإنه لا يَحُولُ هذا الكتاب دون ظالم أو آثم»، فهذا الدستور ليس ملاذًا للظالمين والآثمين، يحتمون به من المظلومين وأصحاب الحقوق؛ بل على العكس من ذلك فإن هذه الوثيقة تردُّ (بموجب بنودها) الحقوقَ إلى أصحابها. إن شريعة الاسلام هى الشريعة الإلهية، والله تعالى اسمه العدل، واسمه الحق، فالعدل التام، ولو كان مع الخصوم أو الأعداء (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) المائدة آية (8) أى ولا يحملنكم أو يدفعنكم بغض قوم لكم على عدم التزام العدل معهم، روى أن رجلا من الأنصار يقال له: طعمة بن أبيرق، أحد بنى ظفر بن الحارث، سرق درعا من جار له يقال له: قتادة بن النعمان، وكانت الدرع فى جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فى الجراب، حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق. ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده، وحلف لهم: والله ما أخذها وما له به من علم.. فقال أصحاب الدرع: بلى والله قد أدلج علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق.. فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودى، فأخذوه فقال: دفعها إلى طعمة بن أبيرق، وشهد له أناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر - وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكلموه فى ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودى، فهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل - وكان هواه معهم - وأن يعاقب اليهودى، حتى أنزل الله تعالى براءة هذا الرجل اليهودى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) النساء آية (105) خصيما أى محاميا ومدافعا عنهم، لذلك أنشد شاعرهم معترفا ومقرا بهذه العدالة التى لا تتحقق إلا فى ظل هذه الشريعة الإلهية. إن كنت من موسى قبست عقيدتى * فأنا المقـيم بـظل دين محمــدِ وسمـاحة الإسلام كــانت موئـــلى * وبلاغة القرآن كانت موردى