يعد أرشيف الهلال، مصدرًا ثريا في الأدب والثقافة على مدى سنوات طويلة، كنهر لا ينضب من الشعر والروايات والقصص القصيرة النادرة، منذ تأسيسها عام 1892، احتضنت دار الهلال أعمال عمالقة الأدب العربي، الآن، وبعد عقود من الزمان، تفتح "بوابة دار الهلال" صفحات جديدة لاستكشاف هذه الكنوز المدفونة، مغريةً القراء بالخوض في رحلات سردية شيقة، تمزج الماضي بالحاضر، والواقع بالخيال، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
قصة أبو عرب، قصة قصيرة، للكاتب محمود تيمور، نشرتها مجلة الهلال مرتين، الأولى في عام 1928 والثانية في 1967، وهي قصة قصيرة ولكنها غنية بالمشاعر الإنسانية المتناقضة، وتتشابك فيها خيوط الحب والأسرة بخيوط المأساة والحزن، راسمة لوحة فنية تجسد جوهر الإنسانية بكل تناقضاتها.
نص القصة
في خيمة حقيرة من الشعر، قائمة في مزرعة عماد بك، يعيش الشيخ إبراهيم وزوجته وأطفاله الستة الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والعاشرة، هم قوم من العرب الرحل يكسبون عيشهم من تربية الأغنام ، ينتقلون بقطيعهم الصغير من مكان إلى آخر طلبا للمرعى الخصب، يستأجرونه من الملاك بأجر زهيد، يخرج الأب في الصباح من خيمته وخلفه أطفاله الكبار فيحل أغنامه المربوطة حول الخيمة ويذهب بها لترعى في مكان يختاره لها، ثم يتركها في عهدة أطفاله وحراسة كلبه «ذهب» ويقصد إلى الأسواق ليبيع الصوف أو إلى الضباع ليبيع الألبان، وربما وجدته في أوقات فراغه جالسا القرفصاء بجوار قطيعه يدخن التنباك في قصبته، وهو منهمك في غزل صوفه الذي يعده لكساء نفسه وعائلته، وبين فترة وأخرى يعلو في الجو غناؤه ذو الروى الواحد الذي يشبه في نغمه وتلحينه عواء الذئب الجائع، أطلق عليه الناس اسم «أبي عرب»، فأصبح لا يعرف إلا به في جميع الأماكن التي يطرقها.
هو رجل له هيئة العماليق، إذا سار ملتحفا بشاله الأبيض الكبير خلته من بعيد ناقة تتهادي في سيرها، إذا استفز للغضب هاج هياج الثور الوحشي، وإذا لوطف أصبح كالحمل الوديع، كله بشاشة وطيبة وإخلاص، يحب أولاده الستة حبا يقرب من العبادة، شغوف باللعب معهم، كثير العناية باطعامهم وتوفير سبيل الراحة لهم، لكلبه «ذهب» في قلبه مكانة الابن في قلب الوالد، فقد التقطة في الطريق رضيعا يكاد يهلك من الجوع، وأقام عليه يعتني بأمره حتى أصبح كلبا كالفحل يحرس قطيعه من الذئاب ويحمي خيمته من اللصوص، وكأنما تأثر «ذهب» بأخلاق سيده فاكتسب منه الشر في مواطن الشر والحلم في مواطن الحلم، تراه ممددا تحت قدمي مولاه، ينظر إليه بعينين صافيتين وأذناه مهدلتان علامة الاطمئنان والشعور بالهناء، يحرك ذنبه بين حين وآخر حركة ضئيلة من غير تكلف، فتخاله طفلا رضيعا ينظر بابتسام إلى وجه أمه نظرة الرضاء بعد الرضاع ، كثيرا ما يشارك رفاقه - أطفال سيده - لعبهم ومرحهم فيجرى بينهم قافزا بجسمانه الغليظ يتظاهر مرة بالهجوم عليهم وأخرى بالهرب منهم، فتخاله شخصا من السذج بين جمع من صبيته المرحين، وقد عرف مكانه في العائلة فإذا التف الجمع حول قصعة الطعام يغترفون منها للأكل حشر نفسه بينهم وجعل يتذوق رائحة الطعام بأنفه وهو يمسح فمه بلسانه ويزدرد لعابه جزافا، وأذناه قائمتان تهتزان، وعيناه تحدجان القصعة باشتهاء، ولا يخرج من بينهم إلا إذا نال نصيبه كاملا، حينئذ ينسل خارجا، ويذهب إلى باب الخيمة فيمتطي ويتمرغ، ثم يعتدل في تمدده ويتوسد يديه الأماميتين ويبدأ أحلامه الذهبية.
-2-
غير بعيد عن خيمة أبي عرب، قائم منزل عماد بك القديم - ذو الحديقة المهملة الموحشة - الذي يسميه الفلاحون «بالسراي».. وبالقرب من هذا المنزل توجد دور الفلاحين الحقيرة، وجرن الأوسيه وآلة الري البخارية ثم الترعة التي تشق أطيان الضيعة، هناك بعض التلال العالية تكومت من غير انتظام على أثر تطهير الترعة في السنوات الماضية، وكان في سراي عماد بك حركة غير اعتيادية، هي حركة حضور العائلة من مصر لتمضية بضعة أسابيع في الريف، فكنت تسمع أصوات الخدم مختلطة بصياح السيدة ربة الدار أو السيد صاحب الضيعة يأمران وينهيان، وكنت تشم رائحة الخبز وهو يخبز في الفرن، أو رائحة الطعام الشهي وهو يجهز في المطبخ، وربما لمحت في صحن القصر الداخلي حامد بك بن عماد بك - الغلام الذي لم يبلغ العاشرة بعد - يدور، صائحا، على حماره الصغير تحت عريش العنب القديم أو حول شجرة التوت المهدلة الأغصان، فتعلم عندئذ أن الحياة قد دبت في هذا المنزل العتيق.
-3-
وحامد وحيد أبويه، مدللاً محبوبا منهما، يقضي وقته مع خادمه المبروك، يصطادان العصافير بالنبل أو السمك بالسنار، أو يلعبان على التلال التي على حافة الترعة يقذفان الكلاب بالطوب، وقد قامت أخيراً بينه وبين «ذهب»، مخاصمة كبيرة نشأت من تعدي الغلام الدائم بالكلب فأضمر كل منهما لصاحبه العداوة، متربصا إيقاعه في الفخ، فاذا أحس «ذهب» بوجود حامد ولو على مسافة بعيدة منه رفع أذنيه باهتمام وجعل يشم الهواء وهو ينظر إلى جهة الغلام نظرة شزراء، مكشرا عن أنيابه، متحفزا للهجوم ثم يبدأ ينبح نباحا عاليا بنغمة ظاهر فيها الشر، وإذا لمح حامد ذهبا وكان في رفقة من أتباعه أمطر الكلب وابلا من الطوب، واحتمى بمن معه إذا هجم الكلب عليه.
-4-
وخرج ذات يوم حامد ومعه مبروك وقصدا التلال يلعبان فوقها كالمعتاد، وكانا وحيدين في هذا الوقت، وصادف إن جاء ليشرب من الترعة، وبينما هو منهمك في الشرب إذ أصابته طوبة حادة أدمت رأسه فقفز هاجما على الجاني وقد أحس بأنه لن يكون غير حامد، عدوه اللدود، وكان حامد محتميا فوق تل عال مع خادمه، لا يستطيع الكلب أن يصل إلى قمته إلا إذا نجا من وابل الطوب الذي كان الغلام قد بدأ يقذفه عليه، ولكن «ذهبًا»، حيوان تتسلط غريزته على عقله فلم يبال بالطوب المنهمر عليه وكان الشر قد اختمر في رأسه فأصبح ضبطه متعذرا، ورأى الفرصة سانحة أمامه للاقتصاص من عدوه إذ وجده وحيدا ليس معه إلا تابعه الصغير، وكأنه شعر بأن الموقعة فاصلة فإما إلى الانتصار الحاسم أو الفشل النهائي، وقامت غريزتا حب البقاء والشهوة إلى القتال تدفعانه للمخاطرة فهجم هجمة الكواسر، مكشر الأنياب، جاحظ العينين، قائم الشعر، وأحس الغلام بالخطر مع مناعة مركزه فضعفت همته واختلت أعصابه وأخذ يصيح بصوت مخنوق ضعيف يطلب الغوث والنجدة، وهو لا يستطيع التحرك في مكانه.. أما مبروك فأطلق ساقية للريح وترك سيده وحيدا أمام الخطر، ووجد «ذهب» الميدان أمامه خاليا فأخذ يصعد التل بوحشية، وقد زاده هذا الانتصار قوة واقداما، حتى لم يعد يفصله عن الغلام غير مسافة قصيرة لا شك متخطيها في لمحة بصر.
ورأى الغلام الكلب صاعدا وعيناه تقدحان كالنار، وشعره قائم كالشوك، فسرت في جسمه قشعريرة هائلة، ولكن بغتة، وقد وجد نفسه أمام خطر الموت، شعر بقوة غريبة حلت فيه فانقلب ضعفه في لحظة إلى قوة واستبسال واقدام، ووقف الكلب يستريح وهو ما زال يحدج عدوه بشرر عينيه، ووقف الغلام وقفة الجندي في أشد وأقسى مغامراته الحربية يستعد لمصارعة الموت وجها لوجه، ومضت دقيقة والعدوان واقفان أمام بعضهما لا يتحركان كتمثالين أودع فيهما المثال أقوى معاني التحفز للشر، وفي لحظة هجم الكلب على هجمته الأخيرة، ولكن الغلام كان قد سبقه فحمل حجرا ضخما كان بالقرب منه وهوى به على خصمه فشج به رأسه، وترنح «ذهب»، وقد بدأ الدم الفائر يسيل على وجهه ويسدل ستارا أحمر أمام عينيه، ثم نكص على عقبه مضطرا، وهو يحاول النهوض والهجوم من جديد، واختل توازنه فانقلب يتمرغ على التل متدحرجا من أعلاه إلى أسفله، هناك سكنت حركته سكونها الأخير، وأحس الغلام دفعة واحدة بضعف قواه فهوى مكانه على الأرض وجعل يرتجف كالمقرور، وقد علا وجهه صفرة الأموات، وأحدق بذهول في جثة الكلب المطروحة بعيدة عنه، ثم أخذ يتتبع بنظره طريق الدم المرسوم على التل من قمته إلى قاعدته، فحاله بحرا من الدماء أو لهيبا من النار خشى على نفسه منه فجعل يستغيث صارخا من أعماق قلبه، حتى وافاه الخدم من كل صوب وأخذوه إلى القصر للعناية به.
-5-
وقامت مناحة في خيمة أبي عرب بسبب مقتل الكلب «ذهب» فكان الأطفال يضجون بالبكاء على رفيقهم، بينما كانت الأم تندبه بعين حرى كأنها ثكلت بموته أحد أطفالها، وعاد الأب إلى الخيمة فهاله أمر الصياح والعويل، وسأل ما الخبر؟ ولكنه لم يحظ بجواب، وانقطع الصياح والبكاء على أثر دخوله، وصمتت الخيمة إلا من أنفاس ساكنيها، ودار أبو عرب بنظره على الموجودين فوجد عددهم كاملا، فهرع إلى الخارج حيث مربط القطيع فلم يجد ما ينقصه، ولكنه أدرك أنه «ذهبًا» غير موجود، فعاد إلى الخيمة من جديد وصاح في الجميع قائلا: كلكم موجودون إلا ذهبًا، فأين هو؟ فلم يجبه أحد:
- أذن هو الذي تندبونه، هل مات؟ قال ذلك وقد انقلبت سحنته فصارت كسحنة الثور الهائج، فانكمشت الأفئدة، وطأطأت الرءوس :
- ولكن كيف مات؟ أمقتولا أم حتف أنفه؟ هنا تقدمت زوجته في هوادة وأخبرته بمصرع الكلب بيد الغلام صاحب الضيعة، فلم يدعها أبو عرب تتم جملتها حتى قاطعها صارخا:
- أقسم برأس أبي ثلاثا أن الغلام سيلقي حتفه عاجلا، وبنفس الميتة التي مات بها «ذهب».
-6-
ومضت على هذه الحادثة بضعة أشهر نسيها الناس تماما وكاد سكان الخيمة أنفسهم ينسونها إذ شغلتهم حوادث الأيام، وإحلال كلب جديد محل القديم، تبوأ مركزه بين الأطفال، ولكن أبا عرب لم ينس قسمه، وكان شبح ذهب المخضب بالدماء ماثلا دائما أمام، عينيه يحرك كامن شره ومنذ الساعة التي أقسم فيها قسمه لم يعد بعدها يذكر اسم الكلب ونهى أفراد عائلته عن التحدث عنه.
وعاد عماد بك بعائلته كالمعتاد ليمضي بضعة أسابيع في الضيعة، وظهر حامد في صحن الدار الداخلي على حماره يدور به تحت العريش أو حول شجرة التوت، أو في الخارج مع خادمه مبروك يلعبان على التلال، يصطادان العصافير أو يرجمان الكلاب بالطوب ودبت الحياة في القصر من جديد، وأخذ أبو عرب يحوم حول المنزل في خفاء وتسر إذا ما جن الليل وانتشر على الضيعة الصمت والسبات، كما يحوم النسر على فريسته الضعيفة.
وكان إذا انتهى من جولاته هذه وعاد إلى مرعاه جعل يتمرن في الظلام على الرماية بالطوب الثقيل على أهداف أقامها بعيدة عنه، ولا يدخل خيمته إلا إذ نجح في اصابة الهدف عددا معينا من المرات، واستمر على هذه الحال ليالي متواليات حتى علم بقرب سفر العائلة فقر قراره على الأمر وعين الليلة التي أراد أن ينفذ فيها عزمه، وكانت ليلة حالكة تلك الليلة التي خرج فيها أبو عرب من خيمته ووجهته سراي عماد بك، كان ملثم الوجه بشاله الكبير، يحمل في عبه كمية وافرة من الأحجار المسننة الغليظة، كانت تثقل خطاه في سيره، وكان يسير متلصصا بحذر حتى دنا من سور حديقة القصر فالتفت يمنة ويسرة ثم اعتلاه بمهارة وهبط إلى الحديقة في خفة الهرة فلم يسمع له صوت، وتسلق شجرة كثة الأغصان كمن بين فروعها، ومن ثم جعل يراقب حجرة الغلام بعيني الصقر الجشع، وكانت الشجرة على مقربة من نافذة هذه الغرفة، والنافذة مفتوحة وخالية من القضبان ومضت ساعة والطفل يدخل حجرته لاعبا، ثم يتركها إلى ردهة المنزل، لا يستقر له قرار في مكان واحد.
فتعامل أبو عرب في جلسته وجعل يداعب الطوب في عبه مداعبة عصبية، حتى إذا وجد الغلام آتيًا مع أمه تيقن أن ميعاد نومه قد حل، وبعد أن غسلت الأم وجه طفلها خلعت ملابس يومه وألبسته ملابس النوم، ثم حملته إلى السرير لتضعه فيه، فأمسك الغلام برقبتها لا يريد فراقها وإنهال يقبلها ويحتضنها وهو يهمس في أذنها من كلمات المحبة ما استطاع فؤاده الساذج أن يدير بها، فضمته إلى صدرها بشغف وجعلت تحدق النظر إليه بمحبة شرهة ثم أخذت تقبله بكل ما أودعه الله في قلبها من حنو وعبادة، وكانت إذا انتهت مرة عادت تحتضنه وتقبله من جديد شاعرة بأنها مهما فعلت لن تستطيع اشباع نفسها منه، وكانت في أثناء ذلك تداعبه وتضاحكه وتصغي إلى صوته المرح كما يصغي الفنان إلى شهى ألحانه، واستمرت هذه الملاطفة أمام «أبي عرب»، برهة ليست بالقصيرة، كان الرجل في أثنائها يحدق فيهما بعجب ودهشة، وبغتة لمعت ابتسامة خفيفة على وجهه أخذت تتسع رويدا، وبدأت ترتسم على ملامحه مظاهر الغبطة والسرور.. وتنهد طويل.. وفي لحظة احتفت نظرة الصقر المفترس وحلت مكانها نظرة الحمامة الوديعة، وتلاشى مظهر الثور الوحشي وحل محله مظهر الحمل المستأنس الهادئ، وشعر الرجل بوخز الخناجر يدمي فؤاده، ثم أحس بغمامة مرت على عينيه تركت فيهما بضع قطرات من الدموع، ولم يشأ أن يترك المكان حتى يرى الطفل نائما بسلام، ومن ثم هبط إلى الأرض وعاد من حيث أتى، وقد أفرغ في الطريق حمله الذي كان يثقله، وما كاد يدخل خيمته حتى قصد إلى ولده الذي في عمر حامد وأخذه بين ذراعيه وجعل يحتضنه ويقبله بحنان ملتهب، ثم انتحى ركنا منفرداً في خيمته وأخذ يبكي كالأطفال.