الأربعاء 15 مايو 2024

طريقُنا نحوَ الثقافةِ الثالثة


د. شعبان عبدالجيد

مقالات1-5-2024 | 12:50

د. شعبان عبد الجيد

من أشدِّ الأشياء خطرًا على الأمة ألا تجتمعَ لها كلمة ولا يتحدَ لها رأي ولا يتفقَ لها شعور؛ ساعتها تشملها الفوضى وتسودُها الفُرقةُ ويَعُمُّها الاضطراب، فتفكر بألف عقل، وتشعر بألف حِسٍّ، وتتحدث بألفِ لسان، وهنالك لا يكون لها هدفٌ واضحٌ محدَّد، ولا رأيٌّ عامٌّ موحَّد، وتصبح كما وصف حافظ إبراهيم اللغة العربية بعد أن سَرَت فيها لَوثةُ الإفرنج: فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ ورغم أن مصر من أصلح البلاد تربةً لوجود هذا الرأي العام الناضج القوي؛ إلا أن فيها من المعوِّقات والعقبات ما يمنع ظهورَه، أو يَحُول بينه وبين أن ينموَ ويثمر.

أشار أديبنا الكبير توفيق الحكيم إلى هذا منذ ما يقرب من خمس وسبعين سنة، وقال إن كل شيءٍ في مصر يجعل هذا المولود مخلوقًا مشوَّهًا؛ لأن كل شيءٍ فيها له نسَخٌ متعددة وأثوابٌ مختلفة: لدينا تعليم أجنبي، وحكومي، وأزهري، ودرعمي، وجامعي، وخارجي. ولدينا قضاء شرعي ووطني، ولدينا أحياء أوربية وأحياء وطنية وأحياء مختلطة، ولدينا مطربشون ومعممون ومقبعون، وحفاة ومحتذون ومقبقبون، ولابسو الزيِّ الإفرنجي والزيِّ البلدي والزيِّ المختلط؛ أي طربوش ومعطف وجلباب، أو طاقية وبيجامة وقبقاب.

وكان من رأي الأستاذ توفيق الحكيم أن هذا الخلط في الأوضاع والتعليم والتربية، والإطار الذي يعيش داخله الناسُ في بلادنا، جعل لهم بالضرورة عقلياتٍ مختلفةً، كلُّ عقلية تفكر تفكيرًا خاصًّا، وترى الدنيا من زاوية منفردة. وكان من أثر ذلك أن حُبِسَ كلُّ فردٍ داخل حلقة منفصلةٍ من وضعه الذي نشأ عليه، يحسب الدنيا دنياه، ورأيه هو وحده الذي على حق؛ لا يفهم جارَه، ولا يشعر بشعور مواطنٍ آخر، وبتفكك عقلية الأمة الواحدة إلى عقليات متعددة ومختلفة ومتضاربة، يتم تفكك الشخصية لأمة من الأمم، وإذا تفككت شخصيةُ أمةٍ، فمعنى هذا انحلالُها وموتُها.

لذلك كان من ألزَمِ الأمور أن نبادرَ إلى الاهتمام بتربية "الرأي العام"، تربيةً قوامها توحيد ثقافته الأولى، وتوحيد محيطه ونظرته إلى الأشياء. فإذا عُنينا بهذه التربية الموحدة العناية الصادقة، ظفرنا بعد قليلٍ بأمة قوية الشخصية، وبرأي عامٍّ موحَّدِ الثقافة، متحدِ العقلية. قال توفيق الحكيم هذا الكلام في كتابه "فن الأدب"، لكنه عاد فتساءل في كتاب "عصا الحكيم": هل يتحد الناسُ جميعًا في مستوى الثقافة والفكر في يومٍ من الأيام؟ وأجاب هو نفسه بأننا لو استطعنا أن نتخيل عالَمًا مثاليًّا يسودُ الأرضَ في يومٍ من الايام، تُحَلُّ فيه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي تفرِّقُ بين الناس، وتجعل منهم الغنيَّ والفقير، والحاكم والمحكوم، والعالِم والجاهل، عالَمًا مثاليًّا قد أصبح الناسُ فيه متساوين في الثروة والسلطة والمعرفة...

لو استطعنا أن نتصور إمكان ذلك، فإن الذي لا نستطيع أن نتصور إمكانَ حدوثِه هو أن يتحد الناسُ جميعًا في درجةٍ واحدةٍ من درجات الثقافة والفكر؛ فالتعليم الموحَّدُ لا يولِّدُ الفكرَ الموحَّدَ، ولا الثقافة الموحَّدة؛ لأن الفكر وليدُ الطاقة الذهنية التي تختلف باختلاف القوة العقلية في الأفراد، والثقافة وليدة ملَكاتٍ إحساسية، تختلف باختلاف الطبع والعاطفة والميل الطبيعيِّ في كلِّ إنسان.

وخلاصة القول في رأيه أيضًا إنه من العسير أن نجد، حتى في طبقة المتحدين في الفكر والثقافة، اتحادًا تامًّا في الحكم على فكرةٍ من الأفكار، أو في المَيلِ إلى أثرٍ من الآثار. وإذا اتحدوا في الحكم والمَيلِ؛ فقلَّما يتحدون في الزوايا التي منها نظروا وشعروا.

ولعلَّ خطوط العقول أو القلوب مختلفةٌ في الناسِ كاختلاف الخطوط في بصمات الأصابع. هل معنى هذا ألا تكون لنا ثقافةٌ قوميةٌ تجمع شتاتنا وتوحد غايتنا؟ وأن نترك الأمر نهبًا لفوضى العادات والأذواق وما يفد علينا من هنا وهناك؟ بالطبع لا. فليس ثمة أمةٌ من الأمم بلا ثقافةٍ تحدد ملامحها وتبرز هويتها، ولا جدال في أنها لا تُصطَنع اصطناعًا، ولا تُفرَضُ فرضًا، لكنها، كما يقول الدكتور عبدالقادر حاتم في أحد مقالاته، يمكن أن تتأثر تأثرًا إيجابيًّا بنوعٍ من التخطيط، أو استيضاح الرؤية، يستهدف النمو الطبيعي للثقافة القومية، وسيرَها في طريقٍ سليم بعيدٍ عن التحكم، وبعيدٍ أيضًا عن الانحراف الذي يمكن أن يصيبَها بتأثيرٍ خارجي، تدفعه عوامِلُ العداء لقوميةٍ من القوميات. ويبقى علينا في هذه الحالة أن نبين الخطوط الرئيسة التي تميز هذه الثقافة وتحدد أبرز خصائصها.

وأذكر أن الدكتور طه حسين كان من أوَّلِ الذين ناقشوا هذا الموضوع في كتابه عن "مستقبل الثقافة في مصر"، وأنه كعادته كان صِداميًّا، وربما مبالغًا ومغاليًا، في كثيرٍ من آرائه. لكنه ألقى حجرًا في البِركة الراكدة، ونبَّه الأذهان الغافلة إلى أهمية الأمر وخطورته.

كان من رأيه أن العقل الإسلاميَّ لا يختلف عن العقل الأوروبي، وأن الغرب لا يتميز على الشرق؛ بل إن أوروبا قد أخذت عنَّا مذاهبنا القديمة في التعليم فارتقت بها، وأن تقصير مصر في الأخذ بأسباب الحضارة هو مصدر تخلفها، وكان يذهب إلى أن الخطوة التالية بعد تحقيق الاستقلال وإقرار الديمقراطية في مصر أن نمحوَ من قلوب المصريين، أفرادًا وجماعاتٍ، هذا الوهمَ الآثِمَ الشنيعَ الذي يصور لهم أنهم خُلِقوا من طينةٍ غير طينة الأوروبي، وفُطِروا على أمزجةٍ غير الأمزجة الأوروبية، ومُنحوا عقولًا غير العقول الأوروبية.

وقد دفعه هذا إلى أن يدعوَنا صراحةً إلى أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرِها وشرِّها، حلوِها ومُرِّها، وما يحَبُّ منها وما يُكرَه وما يُحمَد منه وما يُعاب.

وبعيدًا عما يمكن أن يراه البعض تطرُّفًا في مثل هذه الآراء، فقد كان للدكتور طه حسين في كتابه ذاك آراءٌ كثيرةٌ أخرى، جديرةٌ بالنظر والتأمل، ولو كنا طبَّقناها منذ دعا إليها لتغير حالُنا كثيرًا، ولعل من أهمها دعوته إلى القراءة الحرة التي كان يُعرِضُ عنها التلاميذ والمعلمون على حدٍّ سواء. تلك القراءة السمحة التي لا تتقيد بمنهاج الدرس وبَرنامَجِه، ولا تقتصر على الكتب المقررة والمذكرات التي يُمليها المعلمون. هذه القراءة الحرة هي نصف التعليم العام، ولعلها أن تكون أكثرَ من نصفه، ولعلها أن تفيد المتعلمين أكثر مما تفيدهم الدروسُ والكتبُ التي يُكرَهون على قراءتها إكراهًا. ذلك لأن الإنسانَ ينتفع بما يُقبِلُ عليه عن رغبةٍ ومَيلٍ، أكثرَ جدًّا مما ينتفع بما يقبل عليه عن إكراه وقسر. ويرى الرجلُ أن دروس المعلمين في المدرسة التي تستحق هذا الاسم، يجب أن تكون إرشادًا لا تلقينًا، ودَفْعًا إلى استكشاف الحقائق واستنباطها، لا فرضًا لهذه الحقائق على عقول الصبية والشباب.

ولن يستطيعَ المعلمُ أن يرشد التلميذ، وينمِّي فيه ملَكةَ البحث والحاجة إلى الاستطلاع، ويُقَوِّمَ ما يعرض له من الخطأ في هذا كله إذا كان مضطرًّا إلى أن يُعِدَّ التلميذَ للنجاح في الامتحان. ومن آرائه المهمة أيضًا أنه لا يكفي أن تتعاون الدولةُ والشعبُ على تعليم أبناء الشعبِ وتثقيفهم وتخريجهم في المعاهد والمدارس ومنحهم الدرجات والإجازات، وتهيئتهم لاستقبال الحياة واحتمال أثقالِها؛ بل لابدَّ من أن تتعاون الدولة والشعب على أشياءَ أخرى، ليست أقلَّ خطرًا ولا أهون شأنًا من أمور التعليم.

لابد من أن تتعاون الدولة والشعب على تمكين المثقفين من أن ينتجوا فيضيفوا إلى الثقافة ويجددوها، ويشاركوا في تنمية الثروة الإنسانية من العلم والفلسفة ومن الأدب والفن. وفي تمكين الإنسانية من الانتفاع بما تنتجه المعرفة في الحياة العملية اليومية. ولابدَّ من أن يتعاون الشعب والدولة على نشر أعظمِ حظٍّ ممكنٍ من الثقافة في طبقات الشعب، على أن تكون هذه الثقافة التي تُنشَرُ في طبقات الشعبِ واسعةً عميقةً منوَّعةً، بحيث تتحقق الصلة العقلية والقلبية بين صفوة الشعب الممتازين وبين غيرهم من الطبقات التي تصرفُها الحياةُ اليوميةُ عن الفراغ للمعرفة.

سأل الدكتور طه حسين في آخر كتابه: أتوجَد ثقافةٌ مصرية؟ وما عسى أن تكون؟ وقد أجاب عن ذلك السؤال بأن الثقافة المصرية، مهما تكن ضعيفة، ومهما تكن ناقصة، ومهما تكن محتاجة إلى التقوية والتنمية والإصلاح، فهي موجودة، ما في ذلك، وما ينبغي أن يكون في ذلك، شك.

هي موجودةٌ متميزة بخصالِها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرِها من الثقافات. وأول هذه الصفات المميِّزة لثقافتنا المصرية أنها تقوم على وَحدتنا الوطنية وتتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية القديمةٍ أيضًا. تتصل بوجودنا المصري في حاضره وماضيه.

ومن حيث إنها تصوِّرُ آمالَنا ومُثُلَنا العُليا في الحياة، فهي تتصل بمستقبلنا أيضًا، بل هي تدفعنا إلى هذا المستقبلِ دفعًا. وكان العلامة أبو فهر، محمود محمد شاكر، من أكبر الكُتاب الذين عرضوا لقضية الثقافة بعد طه حسين، ووقف في آرائه كلها على الضفة الأخرى، وقد أجمل في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، وهو في أصله مقدمة صدَّر بها كتابه عن "المتنبي"، ثلاث قضايا جِد خطيرة، في لغة رصينة، وأسلوبٍ بليغ، وصراحة عاليةٍ، وهي: الاستشراق والتبشير والاستعمار، وبين هذه المحاور الثلاثة، وقبلها أو بعدها، تناثرت آراء أخرى، مقصودة أو تأتي عرَضًا، عن المنهج والتذوق الأدبي، والثقافة والعلم والنحو، وفساد الحياة الأدبية، والصدام المروِّع بين الإسلام والكاثوليكية، أو المسيحية الغربية إن شئت.

كانت الغاية من هذه الرسالة كما أرادها مؤلفها، أن تكون بيانًا من ناصحٍ أمينٍ لما يراه من فسادٍ وبيلٍ، أخذ علينا حياتنا الأدبية من أقطارها، واستظهارًا للعلل الخبيثة المنتجة لهذا الفساد، في محاولةٍ دءوبٍ لاستنقاذ أمةٍ يراها هو وقد جرى تفريغها الثقافي على يد المستشرقين والمستعمرين من أبناء الثقافة الغربية الحاقدة على الإسلام وأهلِه، وعلى يد الحاطبين في حبالهم من أبناء هذه الأمة على تعاقب الأجيال.

وقد ساق الشيخ شاكر في رسالته تعريفًا للثقافة تغيَّا فيه تحقيق عدة أمورٍ؛ لعل أهمها إثبات السلطان المطلق للدين على ثقافة أهله، وإثبات أن الدين هو المحرك الفاعل في الصراع بين الأمم  بل هو الفاعل في حركة التاريخ البشري كلِّه، وإثبات التداخل غير القابل للفصل بين الدين واللغة في كل ثقافة، وتزييف القول بوجود "ثقافة عالمية" يشترك فيها جميع البشر ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومللهم ونِحَلِهم وأجناسهم وأوطانهم، وأخيرًا، وليس آخرًا طبعًا، وجوبُ التمييز بين "الثقافة" و"العلم"، أي "العلوم البحتة"؛ إذ الأولى متعددة بتعدد الملل والنِّحَل، والثاني مَشاعٌ بين خلق الله جميعًا.

كان للشيخ شاكر، ولا يزالُ له، مريدوه المعجبون به، حدَّ الافتتان، يشايعونه في كلِّ رأي يقول به، ويؤيدونه في كل حكم ينتهي إليه. قلة من الكتاب والدارسين هم الذين ناقشوا رسالته في شجاعةٍ وموضوعية، ولم يمنعهم إعجابهم به وإجلالهم له أن يخالفوه في بعض ما ذهب إليه، وكان في مقدمتهم أستاذنا الدكتور سعد مصلوح، حيث ذكر في مقال له بمجلة العربي (أبريل 1988) أن من أظهر قسَمات الرسالة تضييق المؤلف لمجال العلاقة بين الثقافة العربية وثقافة الغرب المعاصرة، حتى حصرها في قضية الاستشراق والمستشرقين، ومن ثَمَّ وصل نسَبَها بقضية الاستعمار والتبشير، ثم إنه استصحبَ مرارة تجربته الأولى مع قضية الشعر الجاهلي، ليصل بها في النهاية إلى تعميمٍ لا مسوغَ له باعتبار قضية "الأصالة والمعاصرة" تشدقًا بالأوهام وتغريرًا بالعقول.

ومجالُ العلاقة بين الثقافتين عندي، وعند كثيرين، أرحبُ وأعقَدُ من أن تُحصر بين أسوار الاستشراق؛ إذ هي تتناول سائر ما أنتجه الفكر الغربي من نتاجٍ في ميادينِ الدراسات النفسية والاجتماعية والإنسانية والأدبية والعلوم البحتة. ولا أحسب أن الفصل الحاسم الذي أراده المؤلف بين "الثقافة" و"العلم" يمكن أن يثبت في هذا المجال؛ فالعقلية المبدعةُ كلٌّ مركَّب، وجسمٌ متناسق التركيب، معقد العلاقات متعددة الوظائف. ثم يختم الدكتور سعد مصلوح مقاله مؤكدًا أن قضية المواجهة بين ثقافتنا وثقافة الغرب حقٌّ وليست من أوهام الخيال.

وثقافتنا مطالَبةٌ بتجديد نفسِها، وبمواجهةٍ عاقلةٍ رصينةٍ لمتغيرات كثيرة لم تكن من قبل، وبدفاعٍ رشيدٍ عن كينونتها وشخصيتها المتميزة، وبدورٍ فاعلٍ في تشكيل الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولكن صلاح آخر هذا الأمر لا يكون إلا كما صلح به أوله؛ ألا هو الحوار الذكي والانفتاح المنضبط على ثقافات البشر، من موقع الثقة بالنفس، والوعي بالخصوصية وتحديد المعيار الضابط لما نأخذ وما ندع، وبالتمثل الصحيح لأي زادٍ ثقافيٍّ غريبٍ، حتى يستحيل في جسد الأمة ذكاءً ونماءً وعنفوانًا، وأحسب أن هذا هو الدرس الذي لقننا إياه أسلافنا العظامُ ليجعلوه لنا تذكرةً وتعيَه أذُنٌ واعية.

وقد انتهى أستاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي إلى قريبٍ من هذه الآراء في مقال له بمجلة الهلال (ديسمبر 1987) قال في آخره وهو يناقش رأي الشيخ شاكر في فساد الحياة الأدبية: إن فساد الحياة الأدبية يا عالِمَنا الجليلَ، وهي فاسدةٌ حتى النخاع، يعود إلى أسبابٍ كثيرة، ليس من بينها التبشير أو الاستعمار أو الاستشراق؛ وإنما تعود في أساسِها إلى أن حياتنا نفسَها فاسدة، والأدب صدى لها، ولا يستقيم الظلُّ والعودُ أعوج، ومحالٌ أن يمشي كل شيءٍ في حياتنا في غير طريقه الصالح، ثم نتطلب هذا في الحياة الأدبية، رغم كل ما يقال عن الطليعة الموجهة، والصفوة المختارة، وهراء كثير يُصِمُّ الآذان.

وينتهي بنا هذا الكلام إلى الثقافة التي ننشدها في هذه الأيام، وقد تعقدت الأمور واشتبكت بطريقة غير مسبوقة؛ وثار حولنا ضجيج صاخبٌ من الأفكار يناقش "الثقافة العربية وعصر المعلومات"، كما عنون الدكتور نبيل على أحدَ كتبه الضخمة، ويتناول ما يسمى بالثقافة الثالثة The Third Culture كما وصفها جون بروكمان في كتابٍ له يحمل العنوان نفسَه. وهي ليست -كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر- تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من هاتين الثقافتين؛ ولكنها القنطرة التي تُجَسِّرُ الفجوة التي تعوق التواصل بين الثقافتين الأدبية والعلمية، ولا يعجز أحدٌ عن عبورها إذا أراد.

وأذكر أن الأستاذ العقاد هو أول من تحدث عن هذه الفكرة من كُتَّابنا المعاصرين، حين عرَضَ في مقال له بمجلة الأزهر (أبريل 1960) لمحاضرات الأستاذ سنو Snow عما سماه (الثقافتين) The Two Cultures، وقال في خاتمته إن الكاتب مصيبٌ من الجانب الذي ينظر إليه، وهو جانب (الإنسان الغربي) وارث العلم والأدب في البلاد الأوروبية أو الأمريكية من القرون الأولى بعد الميلاد؛ فقد عاش هذا الإنسانُ على الدوام في مَيدانين متقابلين من عالم الثقافة: مَيدان الروح ومَيدان الجسد، أو مَيدان ملكوت السماوات ومَيدان ملكوت الأرض، وكان الانفصالُ بين المَيدانين بعيدَ الأمَد، يكاد ينتهي إلى عالَمين متناقضين؛ أحدهما ملعونٌ منبوذٌ هو هذا العالم المشهود، والآخر مقدَّسٌ مطلوبٌ ولكنه غائبٌ وراء الحواسِّ، بل وراء العقول التي تتصرف في الأمور الدنيوية.

وهذا يَضَعُنا على أوَّلِ الطريق إلى ثقافتنا الجديدة: أن نكُونَ أنفسَنا لا غيرَنا، وأن نعتز بما لدينا دون زَهْوٍ أو ادعاء، ونأخذَ من الآخرين أفضل ما لديهم دون عجزٍ أو تهاون، وأن نعيشَ عصرنا ولا ننسلخَ من ماضينا، ولْنتذكر دائمًا أن الحضاراتِ كلَّها تتبادلُ الأخذَ والعطاء؛ أمَّا الذين لا يأخذون ولا يعطون فهم الموتى وحدَهم.