الأربعاء 17 يوليو 2024

عقد للمرة الأولى عام 1932 مهرجان الموسيقى العربية.. حكايات بين الماضي والحاضر


د. أشرف عبدالرحمن

مقالات12-7-2024 | 20:08

د. أشرف عبدالرحمن

لم تكن المهرجانات الموسيقية فى مصر حديثة العهد، بل تمتد لما يقرب من مائة عام، حيث كان المؤتمر الأول فى تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق فى عام 1932، ويعد هو المؤتمر الأهم إلى الآن حيث حضره أشهر المؤلفين والباحثين الموسيقيين فى العالم، ليحضره أكثر من 65 شخصية موسيقية مهمة من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتركيا، وإسبانيا والمجر والنمسا وبريطانيا وتشيكوسلوفاكيا وسوريا ولبنان  كما حضرت أيضا العديد من الفرق الغنائية من تونس ولبنان والعراق والجزائر والمغرب. وكان من الشخصيات المهمة الذين حضروا هذا المؤتمر المؤرخ الموسيقي الألماني كورت زاكس، والمؤلف الموسيقي المجري بيلا بارتوك، رائد القومية فى القرن العشرين. وقد قام بتأسيس هذا المؤتمر العلمي الأول د. محمود الحفني كما ضم المؤتمر العديد من الحفلات والعروض الموسيقية التى تعد النواة الأولى لما يسمى بالمهرجانات الموسيقية فى العالم العربي، وقد استمر هذا المؤتمر لمدة سبعة أيام منذ افتتاحه فى  28 مارس عام  1932م وتحت رعاية الملك فؤاد الأول، والذى تعرف على د.محمود الحفني، أثناء إحدى زياراته إلى ألمانيا حيث كان الحفني يدرس الموسيقى هناك ليكون أول مصري بل وأول عربي يحصل على درجة الدكتوراه فى الموسيقى من ألمانيا وذلك عام 1931م، وقد اهتم الملك فؤاد الأول بحضور جلسات وحفل الختام للمؤتمر.

صدر عن هذا المؤتمر الأول للموسيقى العربية كتاب موسوعي ضخم تناول العديد من مقترحات وأبحاث وقرارات وتوصيات اللجان المتخصصة التي تناولت أهم القضايا المتعلقة بالموسيقى العربية، وقضايا موسيقية شائكة فى تلك الفترة، لنذكر منها هنا على سبيل المثال قضية دخول الآلات الغربية فى الموسيقى العربية وكان هذا التناول من خلال لجنة متخصصة تسمى لجنة (الآلات الموسيقية) وكانت هذه اللجنة برئاسة دكتور زاكس لينقسم أعضاء اللجنة إلى قسمين قسم يعارض إدخال تلك الآلات الغربية على الموسيقى العربية وخاصة الآلات الغربية الثابتة مبررا ذلك بأنها  تفقد الموسيقى الشرقية ما امتازت به من رقة وعذوبة بحكم طبيعة آلاتها الرقيقة الحساسة".. كما أن الآلات الثابتة مثل البيانو لا تحتوى على أرباع النغمات الموجودة فى الموسيقى العربية.
الغريب في الأمر أن فريق المعارضين لهذا الاستخدام هم من الغربيين يقودهم رئيس اللجنة كورت زاكس، بينما الفريق المؤيد لاستخدام البيانو والآلات الغربية هم من المصريين... فقد جاء محضر الجلسة السادسة بالمؤتمر التى انعقدت للجنة الآلات الساعة العاشرة صباح يوم السبت الثاني من أبريل عام 1932 -مثلما هو مدون بمحضر الجلسة- ليقف عضو اللجنة محمد فتحي أفندي ليلقي تقريرا مطولاً، وأبدى رأية مؤيداً وبقوة  واضحة في تنفيذ رأيه بنقاط محددة بيّن فيها أن استخدام الآلات الغربية ضرورة لتطوير الموسيقى العربية حسب رأيه. ومن بعض أقاويله بالجلسة أنه قال للضيوف الغربيين الرافضين لدخول الآلات الموسيقية الغربية للموسيقى العربية قائلاً: "إن تحذيركم إيانا استخدام الآلات الغربية في موسيقانا أشبه شيء عندي بتحذيركم إيانا استخدام الآلة الكاتبة في التعبير عن آرائنا الشرقية على اعتبار أنها تفقد الحروف العربيه جمال شكلها ورونقها فكأنها المقصود منها مجرد أشكال خاليه من المعنى "يجب ألا تحكموا على موسيقانا من طبيعه آلاتها التي وإن كنتم ترون مجاملة أنها آلات رقيقة حساسة ولكن هي في الواقع ضعيفه تقصر عن القيام بجميع الأغراض المطلوبه من الموسيقى.. فآلاتنا لا تزال كما كانت عليه منذ قرون عدة لا تصلح إلا لنوع واحد من التلحين الغنائي الشائع في الشرق فهي لم تكن في الواقع أداة صالحة إلا للتعبير عن عاطفة واحدة من نواحي العواطف البشرية المختلفة التي اختصت بها مع عظيم الأسف ألحاننا وهي عاطفه الحب والغرام لهذا طبعت آلاتنا بطابع الأنين والشكوى فإن قيدتم موسيقانا بأغلال هذه الآلات أو قصرتموها على ذلك الأسلوب الفرد من التلحين فإنما تقضون عليها بالفناء من حيث أردتم إحياءها.
وعلق أيضا محمد فتحي أفندي على التحذير من استخدام الآلات الثابتة مثل البيانو فى الموسيقى العربية  ليقول "ملخص الأسباب التي تسوق في رأيي استخدام بعض الآلات ذات الأصوات الثابته فيما يلي" :- 
  إن الموسيقى الشرقية في أشد الحاجة إلى إدخال أساليب جديدة في التلحين والتعبير الموسيقي بجانب أسلوبها الغنائية الحالية الذي لا يعبر إلا عن ناحية واحدة من نواحي الفن المختلفة.
 إن الحاجة قد تدعو في بعض الأحوال إلى استخدام آلات لا تكون عرضة للمؤثرات الجوية والطبيعية فلا تتأثر بها كيفما اشتد فعل هذه العوامل 
 إن هناك من الأغراض الموسيقية ما يتطلب نوعا خاصا من الموسيقى الحماسية التي تشتمل أصوات آلاتها على أوفر قسط من القوة والعظمة لا يتوفر في الآلات الوترية.
 إن هناك من الظروف والاعتبارات ما يستدعي استخدام آلات محمولة بوضع خاص تحقيقا للغاية يتعذر معها استعمال الآلات الوترية كما هي الحال في موسيقى الجيش أو الفرق الموسيقية الرحالة.
إن البيانو وهو رمز الآلات الثابتة خير أداة للتعليم كما أنه يساعد على إدخال أسلوب جديد في التأليف طالما حرمته الموسيقي الشرقية.
قام أحد أعضاء اللجنة وهو محمد زكي علي بك ليقول:  لست أدري ما الذي يدعونا إلى استعمال الآلات الغربية واتخاذ الأساليب الغربية في موسيقانا مع أننا سمعنا كثيرا ومرارًا من جميع حضرات من أعضاء المؤتمر الأجانب أن موسيقانا غنية بألحانها وأنغامها وأنها تستطيع أن تعبر عن كل وصف أو عاطفة وأنها موسيقى جديرة بالإعجاب والاحترام وكيف يجوز لمصري أو عربي أن يستبدل بهذه الموسيقى التي تنفذ إلى فؤاده ولبه موسيقى أخرى يشهد أصحابها أنها عاجزة عن أن تُجاري الموسيقى العربية في هذا المضمار إنما يجب علينا إزاء موسيقانا الاحتفاظ بها كما هي مع العمل على ترقيتها وإني فيما يتعلق بمسألة استعمال الآلات في الموسيقى العربية أعرض على لجنة المؤتمر الاقتراح الآتي وهو (يجب الابتعاد عن استعمال كل آله موسيقية يترتب على استعمالها تغيير في طابع الموسيقى العربية ومميزاتها).
هكذا كانت الحوارات والنقاشات بهذا العمق داخل المؤتمر الأول للموسيقى العربية ورغم نجاح المؤتمر إلا أنه لم يستمر، ولكن ظلت نتائج المؤتمر لها صداها على مدار سنوات كثيرة فكان من توصياته أيضا إنشاء مجلة موسيقية متخصصة فى الموسيقى لرفع الذائقة الموسيقية ورفع الثقافة الموسيقية لدى الفنانين ومحبي الموسيقى، وبالفعل قام د.محمود الحفني، بعمل هذه المجلة الموسيقة المتخصصة عام 1936 والتى استمرت لسنوات قليلة ولكنها توقفت أيضاً. 
حاول الدكتور محمود الحفني أن يستمر بالمهرجان ليصبح مهرجانا سنويًا، كما حاول أن تستمر المجلة الموسيقية أيضا ولكنه واجه ظروف وتحديات صعبة، لتحمل ابنته د. رتيبة الحفني على عاتقها استكمال تلك المسيرة وهذا الحلم لتقوم بإعادة المجلة الموسيقية مرة أخرى عام 1974 عقب وفاة والدها د. الحفني بعام وفاءً وتقديرا له وتحقيقا لحلمه، وظلت هذه المجلة لمدة خمس سنوات حتى 1979، وفى عام 1992 قامت د. رتيبة الحفني، بإعادة إحياء مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية إلى الوجود مرة أخرى بعد 60 عاماً من توقفه ليستمر طوال تلك السنوات الماضية حتى وصل الآن إلى دورته الـ 32.
ومنذ فترة إحياء وإعادة المهرجان فى عام 1992م، وقد كانت البدايات الأول تقوم على تحقيق أهداف موسيقية مهمة كان على رأسها إحياء تراث الموسيقى العربية، ولكن فى السنوات الأخيرة، أصبح المهرجان ما هو إلا حفلات موسيقية لكبار المطربين والمطربات على مستوى الوطن العربي، ليقومون بغناء أغانيهم الحديثة والخاصة بهم والبعد عن الأغاني التراثية، وذلك بغرض تحقيق نسبة كبيرة من الإقبال الجماهيري على تلك الحفلات، وهذا ليس مطلباً مرفوضاً ولكن يجب أن يكون هناك توازن بأن يتم تقديم تلك الأغاني الحديثة ليتم تقديم جرعة تراثية غنائية أيضا من هذا التراث الغنائي العربي الخالد الذى أصبح على وشك الاندثار، وقد نادينا مرارا وتكراراً من خلال التوصيات النهائية للمؤتمر العلمي كل عام بضرورة إحياء التراث وأن يكون لمهرجان الموسيقى العربية خصوصية تُميزه وتحقق الأهداف التى نشأ من أجلها منذ عام 1932، حيث كان لكاتب هذه الكلمات تجارب عديدة تم معايشتها بمؤتمر الموسيقي العربية على مدار ما يقرب من 15 عاماً بمهرجان الموسيقى العربية والمشاركات البحثية طوال تلك الفترات الماضية.
ينقسم مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية إلى اتجاهات مختلفة فهناك ما يعرف بالمهرجان وهو ما يتم تقديمه من حفلات موسيقية، وهناك ما يعرف بالمؤتمر الذي يناقش قضايا علمية موسيقية مهمة ليتم طرح محاورها للمناقشات بين الباحثين والموسيقيين على مستوى الوطن العربي، ليضم هذا المؤتمر أساتذة وعلماء فى الموسيقى العربية، وهنا تكتمل الصورة بين المهرجان الذى يقدم الشق العملي والفني بتلك الحفلات الموسيقية والغنائية وكذلك المؤتمر الذى يقدم الجانب العلمي والنظري والقواعد والدراسات، وطرح توصيات لتنفيذها، ولكن القضية هنا أيضا هو كيفية وآلية تطبيق تلك التوصيات على أرض الواقع ليتم الاستفادة منها.
ومن النقاط المهمة أيضا فى مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية إقامة مسابقات فنية فى الغناء والعزف والتأليف الموسيقية والتلحين الغنائي وذلك لاكتشاف المواهب الجديدة، ولكن القضية هنا أيضا ما مصير تلك المواهب التى تحصل على هذه الجوائز دون أن تسير فى درب الشهرة لتقدم إبداعاتها لعامة الجمهور؟ 
والحقيقة أن مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية من الأحداث السنوية المهمة فى مصر والذى يعكس قوة مصر الناعمة على مستوى الوطن العربي، ليجتمع الكثير من الفنانين العرب والفرق العربية، وكذلك يأتي جموع الباحثين فى الموسيقى العربية، فلم تكن الأمور يسيرة ولكن بالتأكيد هناك أيضا من العقبات والمعوقات التى تقف أمام أى إنجاز، حيث يزداد دور هذه المهرجانات لتصبح أكثر أهمية مما كانت عليه من قبل بل وأكثر احتياجاً إليها خاصة فى ظل ما نشاهده الآن من إسفاف فني.
يأتى بالتوازي لمهرجان الموسيقى العربية مهرجان الموسيقى والغناء بالقلعة، وهو مهرجان وحفلات فقط وليس به مؤتمر علمي، ويعد هذا المهرجان أهم مهرجان موسيقى على الإطلاق وذلك يرجع إلى أن سعر التذكرة بمبالغ زهيدة وضئيلة تكاد تكون بمبالغ رمزية، حيث يستضيف المهرجان كل عام نجوم كبار ليحقق المهرجان إقبالا كبيرا جدا من عامة الناس، حيث حقق المهرجان نجاحات كبيرة فى السنوات الأخيرة خاصة عندما بدأ بث الحفلات على الهواء من خلال بعض الشاشات التليفزيونية والمنصات الإلكترونية مما حقق نسبة مشاهدات كبيرة تتعدى الملايين، كما يُقدم المهرجان وسط أجواء القلعة التاريخية والتى تعطي جمالاً وتدعم الانتماء الوطني لدى الشباب تجاه تلك الأماكن الأثرية والتاريخية المصرية الخالدة. 
كل ما تحتاجه تلك المهرجانات الموسيقية هو وضع أهداف لتحقيقها حيث الموضوع لم يعد مجرد حفلة فنية لإمتاع المستمعين فقط، فليس من المنطقى أن تصبح تلك المهرجانات المهمة كحفلة خاصة لهؤلاء الفنانين الكبار، تلك الحفلات داخل المهرجان يجب أن تكون لها أهداف ثقافية وفنية وتراثية واضحة فليس الغرض منها الربح، وفى واقع الأمر هذا ما يقوم به مهرجان القلعة للموسيقى والغناء، حيث تفعيل دور تلك المؤتمرات العلمية والمهرجانات الغنائية هو السبيل الوحيد للارتقاء بالذوق العام ومحاربة تلك الموجة الجارفة من الغناء الهابط التى انتشرت طوال السنوات الماضية بسبب السوشيال ميديا، فلم تعد سياسة المنع مجدية بل ويصعب السيطرة على ما يعرض من محتوى، فالحل الوحيد هو تقديم فن جيد وهادف من خلال تلك المهرجانات.