الأربعاء 17 يوليو 2024

عبقرية تشكيل الأسطورة في عالم نوار


الدكتورة هبه الهواري

مقالات12-7-2024 | 21:12

هبه الهواري

يأتي معرض الفنان أحمد نوار الذي أقيم بقاعة ياسين في يونيو 2024 بعنوان العلم، كمعزوفة سلام الشهيد، التي تقيمها أوركسترا الموهبة التشكيلية الفذة كسلام للسلاح الذي ظل مرتبطاً به في كل مراحله الحياتية و هو الجندي المقاتل القناص أحمد نوار، تلك الموسيقى المقدسة التي تغلف أسطورته المشيدة التي تظل عبر الزمن تكريماً و تكريساً لمعنى الفداء والتضحية و تأسيساً لفكرة الخلق الجديد في سبيل حرية الأوطان، معاني إنسانية غير محدودة بشخوص أو أنظمة أو تحيزات بل هو الطواف بيقين كامل صوب الجمال الخالص العابر لحدود التقنيات والفنون فحين نتلقى لوحات ذلك المعرض تنمحي الحدود الفاصلة بين الموسيقى والفن التشكيلي، بين المعمار الهندسي و التصوير، بين الأرضي والسماوي، تنمحي الحدود بين التاريخي الواقعي والمقدس الأسطوري، حيث جماليات التصوير بلا ضفاف سوى تحقق الاكتمال المبهر لبلورة ساحرة من القدرات التشكيلية الفذة، و كما تتردد موسيقى النشيد الوطني وتحلق رموز النوتة الموسيقية في أنحاء المكان؛ تذكرت كلمات الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدة العلم:   
 تمليناك، حين أهل فوق الشاشة البيضاء  وجهك يلثم العلما
وترفعه يداك لكي يحلق في مدار الشمس حر الوجه مقتحما
ولكن كان هذا الوجه يظهر، ثم يستخفي
ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينين
ولم تعلن لنا الشاشة نعتا لك أو اسما
ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟
وأنت في لحظتك العظمى
تحولت إلى معنى، كمعنى الحب، معنى الخير، معنى النور، معنى القدرة الأسمى
يشيد نوار منذ بداياته أسطورة البطل الشهيد وهو العنصر المسيطر في الكثير من أعماله الفنية وتتطور تجليات الأسطورة مع تطور قدراته التشكيلية ونضج موهبته إذ أن الأسطورة كما يقول كلود ليفي شتراوس تتحول إلى كيان متجاوز للزمان والمكان يحلق فيما وراء الأحداث و يعلو فوقها وقدرته على تشكيل أسطورة الشهيد و صياغتها تحت تأثيرات ميثولوجية أو ربما صوفية تكشف لنا عن تصور نوار للوجود وسعيه المضني القلق نحو بلوغ الإشباع المتسامي للتحقق ومجابهة الفكرة المسيطرة عليه إزاء الأسطورة وبطلها المثالي.
في لوحته التي سماها "صعود الشهيد" 210سم × 210سم ،أكريليك على قماش توال، إنتاج عام 2013 ، حيث يبدو تفكيك المسطحات و الكائنات مصاحباً لتوزيع مناطق الظل و النور ، نشهد ساحات عامرة بالضوء والانعكاسات البازغة مناطق للوميض والتماع تلك اللجة الفاصلة التي صنعها نوار كبرزخ بين عالمي الأرض و السماء. يتردد عنصر الدائرة التي تشبه عجلات عربة المدفع التي تحمل جثمان الشهيد الملتف بالعلم المصري تلك الدائرة التي تبدو في أحيان كثيرة، وقد امتلكت حرية الطيران في فراغ اللوحة و غدت تبدو كنول النساج الذي يغزل خيوط الضوء.
إن حالات و تحورات العناصر اللونية في أعمال نوار لهي ظاهرة جديرة بالدراسة، امتلاك ناصية اللون ودقة ورهافة الأداء الوصول بالتدريجات الرمادية حتى تتشرب الأزرق النقي، ونشهد مناطق التماس  بين التكوينات العضوية والبناء الهندسي المحكم يشتد عزم الإيقاع والحركة الحرة للتكوين حتى ينهمر مع الضوء وينتهي هذا الهدير اللوني الهندسي العظيم بنقاط التقاء شديدة الدقة باستخدام ألوان العلم المصري. 
ذلك الاستغراق التام في تأمل مفهوم العلم المتحد بجثمان الشهيد المحمول على عربة المدفع، مقامات من الاتحاد الصوفي مع ذلك الكائن الجديد الذي يولد متحدياً فكرة الموت، تلك اللحظات المقدسة التي يبدأ فيها تحول الكائنات و ارتحالها الشفيف من شرنقة الوجود الأرضي المادي إلى عالم النور و الانسجام مع الحضرة العلوية.
يصور نوار تلك التحورات التي تجسد الميلاد الجديد تتقلب الوجوه الهندسية والعضوية والتشيؤ السابح في طبقات بلون السماوات وكأنها إفراد هندسي لبناء معماري عملاق نشهده وهو يتفتح وينطلق من قلبه الشهيد، تلك الرأس الهرمية التي تشبه منقار الطير (في الفنون التراثية وفي رموز الصوفية يرمز للروح بطير الحمام) الذي يولد من قلب النيران تتولد مساحات شفافة متماوجة نقية من قلب النعش والعلم حتى تصبح أجنحة مرفرفة في الملكوت. حيث تفقد كائنات نوار طبيعتها الأرضية و تستغرق في العزف الموسيقي لتحية العلم في العالم الجديد. إذ يتحقق السرد بصياغة عناصر غير تمثيلية تشخيصية بل محض نغمات تشكيلية هندسية خالصة، و ابتكار علاقات بينها.     وتتكون أفكار نوار وتتضح بحكمة بالغة دون صخب وتومض بدلالات جمالية  من خلال اختياره  للعناصر الهندسية في مسطحه ولطبيعة العلاقات بينها، في استخدام الموتيفة  Motif  الأيقونية للعلم والموضوع المتكرر Theme كما تتنامى هذه العلاقات في التفكير عند التأليف الموسيقي وهو ما يتردد في أكثر من لوحة بشكل متنوع مستخدماً رموز النوتة الموسيقية وسطورها إلى جوار موتيفاته الهندسية التراثية، يخلق نوار وجوداً مستقلاً بين عالمين من الإبداع الفني الموسيقي والتشكيلي حروف النوتة وأصوات النشيد وتكوينات المعمار الهندسي والصياغات اللونية التي تمس حافة التشخيص دون أن تقدمه بشكل مجاني، بل يقوم بعمليات عقلية معقدة للتعبير عن أسطورته دون الاستغراق في السرد أو التشخيص، بل هو يخلق أبطالاً جدد لتلك الأسطورة بلغة فريدة لم تكتب من قبل.
مع النمو التدريجي للصورة أمامنا؛ نتلقى تداعيات من الأفكار نراها و هي تتسلل بالتدريج إلى عقل المبدع أثناء صياغة تلك العناصر و عقولنا أثناء صوغ و قراءة الدلالات، حيث نلاحظ في أثناء عملية التلقي لهذا العزف الممتزج من الوحدات المكونة لأسطورته تلك العناصر المكونة للملحمة: البطل والعلم و عربة المدفع وألوان العلم و الترميز للروح بالكائن الطيري الشفيف، وتلك الهيئات المركبة تموج في بعضها البعض وتخفي جذورها التراثية حيناً وتبديها في أحيان، ونرى مفروكات وآثار أطباق نجمية وقد تشظت وتفككت.
 نقرأ لوحة الاقتحام ، 100سم × 100سم ألوان أكريليك على قماش توال. إنتاج عام 2009. حيث يبدو كيان بلون رصاصي رمادي معدني له أسنان كالقرش وعين صفراء أشعة ضوئية منصبة كنقاط تحديد الاستشعار عن بعد وكأنه ينظر للمشهد من عدسة سلاح القناص. كيان صاروخي أبيض، إيقاعات هندسية تتنامى بشكل تصاعدي من ركن باللون الأحمر ثم اللون الأسود و اللون الأبيض تنويعات على مجسم هرمي، ترديد للقوس برماديات متدرجة وكأنها صدى لصوت يتردد في الآفاق حتى يتلاشى. ترديد حركة رفرفة العلم في صفحة السماء المنبسطة في تدرجات الأزرق النقي الذي يستخدمه نوار.
من المهم أن نركز اهتمامنا أثناء تحليل إبداعات الفنان الكبير أحمد نوار أساليب تعبيره المتنوعة لأماكن التقاء العوالم المختلفة وتحولات عناصره في صور الوجود تحولات اللون وانطلاقاته. البناء الهندسي والحركة الإيقاعية النشطة التي تنتج موسيقى مبهجة عند ترديد نوار لعنصر المستطيل ثم يليه عنصر المثلث ثم يليه في طبقات متدرجة لعنصر شبه المنحرف، تلك التقاطعات المدهشة بين الهيئات المجسمة وتركيز الضوء عند المقاطع الجانبية لتلك الأبنية الموسيقية الملونة بالأحمر و الأسود و الأبيض. تلك الإيقاعات التبادلية النشطة ثم الانتقال برهافة ودقة وحساسية مدهشة إلى منطقة أخرى باستخدام شعاع ضوئي يمتد حتى يمس الجسم المظلم ثم يبدأ في اختراقه. مشهد كامل لعملية وجودية هائلة و صراع بين عالمي الأرض والسماء و ميلاد كون جديد في منطقة برزخية نورانية في وجود ثالث لفكرة الشهيد الحي. 
 في لوحة إرادة وطن 167سم × 167سم ألوان أكريليك على توال، إنتاج عام 2016. تبدو لنا الأهمية الكبرى التي يوليها أحمد نوار لكل عناصر اللوحة المربعة حتى إطار اللوحة و تلوينه وتشطيبه واستخدامه كأداة للتعبير، نرى مجسمات عضوية تشتبك مع شكل أسطواني كماسورة المدفع وفي عربة المدفع تبدو عجلاتها في دورانها تنبثق منها خيوط شعاعية تصنع اتجاهاً حركياً و يتدرج الشعاع في الطول حتى يوحي بوجود محور اتزان قطري يدور حوله الشكل بكامله.
كأنه شق عن قلب الأسطوانة الصماء فإذا هي عالم متحرك نشط مليء بالحياة و الفعل، حيث تنهمر المثلثات الحمراء حيث تتم عملية إعادة تكوين للشكل الهرمي و باستخدام شكل العلم ثلاثة أهرامات و تظهر السماء في الخلفية بين الأشكال المنهمرة برؤوس حمراء مدببة تتلاعب بمراكز الثقل في اللوحة وتصنع الموسيقى المتصاعدة والتكرارات التي تبني تكويناً كالوحدات الهندسية الإسلامية مثل المفروكة. حيث يعود نوار لتفكيك البنية الهندسية لمعماره الشاهق و كأنه يصنع انبساطاً للسطوح وفيما بينها تلتمع مسافات فارقة حادة وزوايا مضيئة تلمع كالبرق في مركز اللوحة حيث تبدأ المفروكة في الدوران، هدير الكتل العضوية المنفلتة من صرامة النظام التركيبي الدقيق الصفوف الرباعية والثمانية والتنويع بينها كمكونات النوتات الموسيقية.
الانتقال برشاقة مذهلة بين عالم العضوي و عالم الهندسي، يمارس نوار رحلة الكشف عن أسرار البنية الهندسية المحكمة تلك اللجة الضبابية التي تسبق عملية الكشف الاصطفاف والتناسق المذهل ثم منطقة الميلاد المتفجرة.
  تتضح هنا بقوة أفكار طرحها جاك لاكان عن كيفية تركيب المخيلة الإبداعية للفنان للصياغات الجمالية عن طريق إجراء عمليات التكثيف Condensation والإزاحة Displacement  (حيث تتضاغط وتتكثف صور كثيرة اختزنها اللاوعي من الواقع، وحيث تزيح صور بعينها صوراً أخرى وتحل مكانها)، لكي تخلق وتشحن الرموز الفنية بالدلالة باستخدام مفردات وتراكيب من عناصر منتقاة، وبذلك قال لاكان إن العمل الإبداعي يكتسب استقلالاً خاصاً به ،حيث تستقل اللوحة التشكيلية  نفسها عن لا وعي المبدع؛ بل يصبح لتلك اللوحة نفسها عالمها الخاص. فلا يمكننا تأويل النص التشكيلي لدى أحمد نوار  هنا بإسقاط وجهة نظر محددة ضيقة عليه ، بل هو ينفلت من كل الأطر و التفسيرات .فاللوحات ليست سوى تركيبة من الإشارات (الدوالSignifiers) التي لا يمكن لمس  ما تشير إليه بالتحديد في العالم الخارجي، بالرغم من استخدامه لعناصر محددة جداً في خلق أسطورته ومرتبطة في عقولنا بإشارات مثل ألوان العلم المصري، معزوفة سلام الشهيد، الشكل الهرمي و المربع و المثلث، سلاح القناص الذي ارتبط به نوار منذ كان جندياً في القوات المسلحة المصرية. 
تبدو لوحة "ميلاد النور "  167سم × 167سم ألوان أكريليك على توال ، إنتاج عام 2013. شكل مراوغ بين المربع و المفروكة الهندسية الإسلامية و المناطق التي تتوالد بين اللونين الأسود والأزرق مخلوق أسطوري بين هيئة الشهيد الملفوف بالعلم و هيئة الطير، لحظات انفلاق الحبوب و النواة و تحولات الروح و هي تتهيأ للخلود الحلقات تتفكك و تتخلى عن بنيتها الأرضية و تنطلق في سماوات مشربة بلون أسود يصبغ الزرقة بالحزن و الوقار.  ينساب اللون الأحمر من قلب الطائر الشهيد و تخف درجته و تتغير مراحل نصوعه حتى يتماهى مع اللون الأسود في ظلال يصنعها الجسد الطائر المنطلق من ثورة الشكل في خضم لحظات افتتاح الطيران انفراد الأجنحة والأقواس والريشات المتتاليات المتراصة في نظام تدريجي والجسم يدور مستمسكاً بالضوء كمثل الدرويش الدوار في منظور عين الطائر للمشهد.
يكتب الفنان الكبير أحمد نوار أسطورة البطل الشهيد وينصب العلم ليرفرف في سماوات خالدة تتجاوز التواريخ واللحظات لتظل منقوشة في ذاكرة الكون لحظة ميلاد المقاتل المصري  هي نفسها لحظة استشهاده  وخلوده. يصنع الفنان أحمد نوار تكويناً دورانياً حلزونياً من أسفل إلى أعلى حتى الوصول إلى النقاء الكامل والانفلات من الظلام الأرضي حيث التحرر من البنية الهندسية إلى التكوينات العضوية الطبيعية حيث تتكون مساحات محتشدة عند التلاقي والتماس والتحول بلطف ورهافة التكوين والتصميم دونما صخب يشعرنا بقوة الذات المبدعة التي تنفذ إلى العناصر و تصبغها بطابعها الفريد. حيث امتلاك ناصية الخامات و الأدوات والقدرة على الصياغة المتماسكة حتى أنك تعتقد أن تلك الكائنات التي بين يديه قد ولدت هكذا منذ البدء .تلك القدرة المدهشة على الإغلاق على أن يتوقف المبدع عن تطوير العمل الفني و يتخذ قرارا بكتابة كلمة النهاية. انتقاء البدايات والنهايات المنبثقة منها بلطف، قوة المثلث الخافت الصغير المتلاشي الذي ينطفئ بالتدريج في زرقة السماء التعامل بحكمة رقيقة مع البناء الهندسي. تطلق أعمال نوار لنا العنان في تناول جماليات التلقي النشط. 
 حيث نلمس وجود "ثغرات "أو"فجوات" في العمل الفني يتولى المتلقي  ملأها، ويتفاوت ملء المتلقين  لهذه الثغرات بطبيعة الحال. ويشبه مفهوم الثغرات كما ذكر  إيزر إلى حد كبير مفهوم "البقع غير المحددة" لدى رومان إنجاردن التي أوضحها في معرض قوله عن عملية قراءة الأعمال الفنية بوصفها تجسيداً لتلك الأعمال concretization أي أن العمل يواصل تأثيره الجمالي ويأتي نتيجة"لأفق توقعات" المتلقي بالنسبة للعمل الفني، وسوف تتخذ الأعمال الجديدة بعداً جمالياً أكثر قرباً أو ابتعاداً من أفق التوقعات، وفي بعض الحالات، يقيم العمل الفني  بعداً جمالياً يقصر تفهم العمل على فئة محدودة من المتلقين، ولكن على المدى الطويل قد تعمل هذه الأعمال على تغيير فعل التلقي عامة كما تغير القواعد الفنية في صميمها. لتؤسس جماليات جديدة أصيلة و متحررة من كل قيد.