السبت 7 سبتمبر 2024

جرجي زيدان.. دعوة مبكرة لمجانية التعليم

مقالات5-9-2024 | 21:14

اختار «جرجى زيدان» لنفسه طريقه الخاص في الحياة، حين قرر أن يهجر دراسة الطب، في قصر العينى، وقد جاء إلى مصر خصيصا لهذا الغرض، في القاهرة أدرك أن مستقبله بعيدا عن الطب وعلاج المرضى؛ واتجه إلى الحياة الثقافية والفكرية من أوسع أبوابها، كانت الطباعة والصحافة مجالا مبكراً عرف على نطاق واسع  فى زمن الخديو إسماعيل، ورغم انتكاس النهضة المصرية مع الاحتلال البريطاني سنة 1882؛ استردت الأمة المصرية عافيتها بسرعة وسعت بجدية إلى التحرر والاستقلال؛ وكانت الصحافة والثقافة أحد الأبواب الواسعة نحو النهوض الذى يقود إلى الاستقلال؛ وهكذا اتجه زيدان إلى هذا المجال بكل ما فيه من عنفوان وجهد وموهبة.

كان لبنانياً وكان مسيحيا، لكنه عاش في مصر وتعامل كمصرى؛ لم يعتبر نفسه غريبا ولا ضيفا ولا أنه أقام حيث فرصة العمل كما لم يعش بمنطق أنه موجود في بلد شقيق؛ لكنه تصرف وعاش كمصرى؛ في بعض كتاباته يمكن أن نقول بثقة أنه كان شديد الحب والإخلاص لهذا البلد والوعى بتاريخه ومكانته أفضل من كثيرين ولدوا به؛ ولأن اللغة العربية لغته والتاريخ العربى والإسلامي المكون الأساسي  في الثقافة العامة؛ لذا قرر أن ينشغل ويتخصص في التاريخ العربى والإسلامي؛ وقد عرضه ذلك لكثير من الاتهامات والشكوك على الجانبين؛ بعض المسيحيين؛ خاصة في لبنان تعاملوا على أنه غادر المسيحية وتحول إلى الإسلام؛ فيكتب تاريخ التمدن الإسلامي وروايات التاريخ الإسلامي؛ مما أثار عليه شكوك بعض الكتاب المسلمين، لم يستوعبوا أن يتخصص مسيحى من أبناء المنطقة في التاريخ الإسلامي..  تصوروا  أنه استهدف تشويه التاريخ؛ وأنه أقرب إلى المستشرقين ويتابعهم،  لم يكن زيدان استمرارا للمستشرقين كما فهم البعض؛ لكنه كان صاحب منطق واضح؛ عبر عنه في مقدمه موسوعته تاريخ التمدن الإسلامى– سنة 1902 - يقول زيدان "تاريخ الأمة الحقيقى هو تاريخ تمدنها وحضارتها لا تاريخ حروبها وفتوحها" هو هنا يوجه انتقادا لمدرسة في الاستشراق قررت اختصار تاريخ الإسلام والمسلمين في الغزوات والفتوحات فقط؛ وكذلك بعض المؤرخين العرب؛ توقفوا فقط عند تاريخ المغازى.. هو رأى التاريخ الحقيقى  تاريخ التمدن، والتحضر. ما يقال له الآن "تاريخ الحضارة"،؛ هذا الموقف عرضه للانتقاد؛ لكنه لم يعبأ واستمر في مسيرته.

في مجال الكتابة التاريخية؛ هناك منهج مريح وهو أن ينقل الكاتب والباحث من بعض المصادر والمراجع؛ أما إذا قرر أن يتعامل  بتدقيق وتحقق؛ ثم أن يدرس ويفكر فى ما هو مدون؛ هنا تبدأ الأزمات والشكوك وربما الاتهام والإدانة؛ حدث ذلك تقريبا مع كل من تعامل بروح نقدية مع بعض المرويات القديمة؛ سواء في التاريخ العربى والإسلامى أو التاريخ المصرى المعاصر؛ بل وتاريخ أي أمة وثقافة.. ولعل وعى زيدان بتلك الحقيقة هو ما جعله يواصل طريقه؛ ولم يتوقف كثيرا عند أولئك الذين واجهوه بالاتهام أوالشك.

المزايدة على "جرجى زيدان" في مجال التاريخ العربى والإسلامى؛ كانت لها بعض الأسباب وربما المنافسات الشخصية والخاصة؛ من ذلك الحملة التي شنها عليه بلدياته مؤسس مجلة "المنار" "محمد رشيد رضا" بسبب تناوله التاريخ الإسلامي.

وإذا كان هناك من زايد على زيدان أو شكك في تناوله للتاريخ وللحضارة الإسلامية؛ فلا يمكن لأحد أن يزايد على وعيه بالروح ودفاعه عن الوطنية المصرية؛ بل أقول وطنيته المصرية؛ كان يطلق عليه "المصرى موطنا" والحق أنه منذ جاء إلى مصر وعاش بها؛ اعتبر نفسه مصريا وعاش على هذا الأساس..  كتاباته عن قضية الاستقلال الوطنى في افتتاحيات ومقالات الهلال؛ عديدة ومكثفة وتستحق هذه المقالات دراسة مستقلة؛ وكان رأيه أننا سنحصل على الاستقلال حتما؛ لكن يجب أن نستعد لتلك اللحظة وذلك بالتوسع في التعليم وإنشاء كلية جامعة؛ وهو بالمناسبة كان من أوائل الذين طالبوا بتأسيس جامعة حديثة؛ كان ذلك ضمن المهام التي حددها فى العدد الأول من "الهلال" سبتمبر 1892؛ وهو بذلك كان في صف المدرسة التى رأت ضرورة بناء مؤسسات وطنية كى تقود الاستقلال وكان على رأس هذه المدرسة آنذاك أحمد لطفى السيد ومدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية.

 اللافت أن نجد مقالا مبكرا لجرجى زيدان في "الهلال" يدعو فيه إلى مجانية التعليم في العام السادس عشر للهلال (سنة 1908) ينشر زيدان مقالا بعنوان "التعليم الإلزامي والتعليم المجانى" وهنا لابد من التوقف بعض الشيء.

يتصور بعضنا أن "مجانية التعليم" كانت مطلبا للمصريين بعد الحرب العالمية الثانية؛ مع صيحة د. طه حسين "التعليم حق كالماء والهواء"؛ الواقع أن المطلب قديم جدا يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، ذلك أن التعليم في مصر طوال التاريخ كان مجانيا، قبل التعليم الحديث كان التعليم في الأزهر وغيره من الجوامع في مصر، مثل جامع السلطان حسن والمؤيد شيخ، ليس مجانيا فقط، بل كان الطالب يمنح جراية وربما بعض الملابس في مناسبات معينة من الأوقاف المخصصة لكل مسجد، وهناك بعض أوقاف كان أصحابها يوقفونها على طلاب التعلم فقط بكل مسجد، طبعا في المقدمة كان الأزهر الشريف.

وفى زمن محمد على حين اتجه إلى التعليم الحديث، كان مجانيا كذلك، وكانت تصرف بعض المنح للطلاب في مناسبات معينة، وكانت بعض المدارس، الدراسة فيها داخلية، ومن ثم يتوفر للتلميذ الإقامة والغذاء على نفقة المدرسة.. إلى أن تم احتلال مصر سنة 1882، وهنا اعتبر لورد كرومر أن ما تنفقه الحكومة المصرية على التعليم، نوع من التبذير والسفه وإهدار المال العام، بما ضاعف من فاتورة الديون، لذا تم تحجيم التعليم وجعله بمصروفات عالية لا تتحملها الأسرة البسيطة  ومن البداية كان هناك رفض عام لذلك التوجه، لكن التعليم الدينى (الأزهرى) ظل محتفظا بطابعه، الجمعيات الخيرية والأهلية راحت تؤسس مدارس جديدة، بمصاريف رمزية أو مجانية، بعض المدارس كانت تابعة للأوقاف، كانت الدراسة بها مجانية، ولكنها كانت لأبناء العاملين في الأوقاف أولا، وأبناء بعض الموظفين في الدواوين الحكومية، لكن عموم الناس لم يكن لديهم مدارس مجانية، ومن هنا انتشرت الأمية.

لم يجعل الإنجليز التعليم بالمصاريف المرتفعة فقط، لكنهم جعلوه كذلك باللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية، لم يكن هناك باللغة العربية سوى مادة اللغة العربية والدين، أما بقية المواد فهى بالإنجليزية، وكان الهدف هنا تغيير ثقافة وهوية الأمة.. كان ذلك توجه "دنلوب"، وقد قاومت النخب المصرية ذلك التوجه.

وما يحسب لسعد زغلول حين كان "ناظر المعارف" أي وزير التعليم، أنه نجح في جعل التعليم باللغة العربية في المدارس، باختصار كان التعليم قد أصبح في صلب القضية الوطنية، من هنا تأتى دعوة جورجى زيدان لإنشاء جامعة مصرية، الهدف أن تعد كوادر تصلح لإدارة البلاد مع الاستقلال وكذلك مقاله الذى نتوقف عنده حول إلزامية التعليم ومجانيته.

يؤكد زيدان التعليم هو "أساس كل ما يتطلبه المصريون من الرقى السياسى أو الإدارى أو الاجتماعى أو الاقتصادى" وهو لذلك يركز على ضرورة تعميم التعليم، ويراهن على الأغنياء المصريين أن يقيموا مدارس وكليات من أموالهم، كما فعل الأثرياء في العديد من البلدان الغربية مثل أمريكا وبريطانيا وغيرها.. ويبدى دهشته من أن كثير من الأغنياء ينفقون بسخاء على تأسيس الأحزاب والشركات وبعض الأعمال التي يتصورون أنها تعود عليهم بالنفع السياسى المباشر.. في حين لا ينفقون في سبيل التعليم، الذى هو أجدى للأمة ولهم أيضا .. في كل الأحوال، سواء تحرك الأثرياء أو لم يتحركوا لا غنى عن دور الحكومة في مجال التعليم، والبداية هي "التعليم الإلزامى" وعنده أنه الطريق الذى سارت عليه "سائر الأمم المتمدنة".

التعليم إلزامى في معظم الدول الأوروبية وقد عاد ذلك بالنفع العظيم عليها، الأمية تراجعت ثم اختفت بفضل التعليم الإلزامى  في بريطانيا كانت سنة 1843 تبلغ 32بالمائة للرجال، 49بالمائة بين النساء، صارت سنة 1908 تساوى 1بالمائة للرجال و2بالمائة بين النساء، وهكذا الحال في عدد كبير من البلدان.

يمكن للحكومة أن تسن قانونا او تضع تشريعا بجعل التعليم إلزامى؛ ويكون ولى الأمر مجبرا بحكم القانون على التقديم لابنه في المدرسة.. هنا يظهر السؤال الكبير.. من يتحمل النفقات والمصاريف؛ الإجابة عنده مباشرة هي "المجانية" يقول زيدان الحكومة التي تسن قانون التعليم الإلزامى يجب عليها أن تنشئ المدارس المجانية فتنفق في التعليم كما تنفق في سائر الأسباب العائدة إلى صيانة الوطن وإعلان شأنه.

على هذا النحو يمضى جرجى زيدان، ويقدم نماذج مما تقوم به الدول الغنية والكبرى؛ بل وكذلك بعض الدول الصغرى من الانفاق على تعليم أبناء الفقراء.. عنده يمكن للأغنياء أن ينفقوا على تعليم أبنائهم؛ لكن الغالبية من الفقراء لا يملكون؛ حتى لو أرادوا واستجابوا لإلزامية التعليم.. هذه الأفكار تبدو عادية جداً الآن؛ تقوم بها الحكومة والأهالى معاً؛ لكن في مطلع القرن العشرين؛ لم يكن الأمر كذلك.

على هذا النحو كانت مقالات جرجى زيدان؛ يتناول الكثير من القضايا الوطنية والاجتماعية؛ ينتقد الحكومات حينما ويمتدحها حينا؛ لكنه في النهاية كتب من موقع الانسان والمواطن المصرى؛ يدافع عن الفقراء ويشعر آلامهم؛ يدرك المخاطر المحيطة بالوطن ويتناولها بالتفصيل.

والحق أن "جرجى زيدان" عومل من معظم الباحثين والنقاد؛ والقراء كذلك من زاوية واحدة؛ هي كتبه وأعماله الأدبية والتاريخية التي صدرت؛ وتم تجاهل مقالاته الوطنية والاجتماعية خاصة، اعتبرت حدثا يوميا؛ أو شهريا؛ يمضى مع اليوم أو الشهر؛ ثم تذهب إلى أضابير الأرشيف؛ ليس هو وحده؛ لكن كبار الكتاب نسيت مقالاتهم؛ رغم أن هذه المقالات يمكن أن تفوق كما في الأهمية الكثير من الكتب؛ ليس جرجى زيدان وحده في ذلك؛ أمامنا طه حسين والعقاد ولطفى السيد وعشرات آخرين؛ تم تجاهل مقالاتهم وما تحمله  من أفكار ودعوات جريئة للإصلاح بعد وفاة جرجى زيدان قامت دار الهلال بجمع بعض هذه المقالات وصدرت في كتاب "مختارات جرجى زيدان"؛ ومن العنوان واضح أنها مقالات منتقاه وليست كل المقالات؛ طبع الكتاب مرة ثم اختفى تماما؛ لا يذكره الباحثون ولا يهتم به الناشرون كما أنه لا يرد كثيرا في قوائم أعمال جرجى زيدان؛ وأتمنى على الدار العريقة "دار الهلال" أن تعيد طباعة هذا الكتاب وتقديمه للقارئ المعاصر.

جرجى زيدان قيمة ثقافية وتاريخية كبرى وهو كذلك رمز وطنى من طراز رفيع.