لأكثر من ألف عام احتفلت أمتنا بالمولد النبوي، حتى بات سمة أساسية من كل عصر، ومن زمن إلى زمن وعهد إلى عهد، أخذ الاحتفال طابعًا خاص، بداية من الدولة الفاطمية، وصولًا إلى عهد الملك قايتباي الذي احتفل بصورة لم يسبق إليها سابق، ولم يلحقه فيها لاحق، انتهاءً إلى زمننًا المعاصر، حيث أخذ الاحتفال طابع خاص تُثار حوله العديد من الشبهات، التي تحذر المؤسسات الدينية بدورها منها.
الاحتفال بالمولد النبوي قديمًا
تشير المصادر التاريخية إلى أن أول من احتفل بالمولد النبوي كان الفاطميون، وتحديدًا في عهد المعز لدين الله، وسار على ذلك من بعده أولاده وأحفاده، وبرزت مظاهر الاحتفال في توزيع الأموال وإقامة الزينة وقراءة القرآن وذكر الله والصلاة على رسول الله، وكانت تسير المواكب الفخمة يلتف حولها الجند والفرسان بأعلامهم وطبولهم وأبواقهم، يتقدم ذلك كل قضاة الدولة ودعاتها وأهل الرأي فيها.
ومع مجئ الإيوبيين، احتفل بالمولد الملك المظفر كوكبوري، بشكل يضرب له الأمثال لما فيه من الحفاوة والعطاء، فكان يصل إليه كل عام خلق كثير من الفقهاء والعلماء والصوفية والوعاظ والشعراء، وكان يحتفل بالمولد سنة في الثامن من ربيع، وسنة في ثاني عشر وذلك للاختلاف الواقع فيه، فكان قبل المولد يخر الأبقار والإبل ويزفها بالقبول حتى يأتي الميدان ثم ينحرونها.
وفي زمن المماليك، أهمل الاحتفال بالمولد، وذلك لما كان يحيط بالأمة من مخاطر الحملات الصليبية والمغول، لكن ظل العصر شاهد على الاحتفال بالمولد، لاسيما عهد الظاهر برقوق، فكانت تزين القاهرة لهذه المناسبة، وتبذل النفقات الواسعة التي تعم الناس جميعًا.
وكان عهد الملك قايتباى زاهيًا فيما يتعلق بذلك، إذ احتفل بالمولد بصورة لم يسبق إليها سابق، ولم يلحقه فيها لاحق، حيث صنع لهذه المناسبة سرداق عظيم أنفق فيه أكثر من ستة وثلاثين ألف دينار.
وما أن انتهى عصر المماليك، وجاء العثمانيون، أمر السلطان سليم الأول، بإقامة الاحتفال بالمولد، وإجراء الزينات على ما جرت به العادة، وبسبب النوازل التي نزلت بالمصريين إبان ذلك، لم يقم له الناس القيام المعتاد، وكان من عادة أهل مصر في أيام المولد وغيرها من المواسم أن يطبخ الأرز باللبن، ويملؤون من ذلك قصاعًا كثيرة ويفرقون منها على مايعرفون من المحتاجين.
وفي تلك الأثناء، كان يجتمع رجال الحكومة، وزعماء الانكشارية، وغيرهم من وجوه الأمة ورؤس التجار، وكانت تمد لكل من حضر الأسمطة الحافلة بألوان المطاعم، وبعد الانتهاء من المطاعم يصطفون على الأرائك والكراسي، وهناك يقوم أهل الطرق بذكر الله.
المولد في أيام الحملة الفرنسية
بعد أن رأى نابليون بونابرت أن الأمر استتب له، أخذ يفكر فيما يغطي سخط الشعب المصري عليه، فرأى أن من الوسائل التي تؤدي إلى ذلك أن يأمر بالاحتفال بذكرى المولد النبوي، طمعًا في أن يدخل هذا الاحتفال والمشاركة فيه، السرور على نفوس المصريين.
ووفقًا لما أوردته المصادر التاريخية، فقد سأل ساري عسكر نابليون لماذا لم يقام الاحتفال بالمولد على نفس ما درج عليه المصريون، فاعتذر الشيخ خليل البكري بحجة تعطل الأعمال وتوقف الأحوال، إلا أن الأول أصر على إقامة الاحتفال بالمولد، حتى أن عسكر الفرنس قد ضربوا الطبول والمدافع يوم المولد.
الاحتفال بالمولد في زمن محمد علي
وقد وصف العالم الإنجليزي "إدوارد وليم لين" الاحتفال بالمولد في زمن محمد علي، وذلك أثناء زيارته إلى القاهرة، حيث قال:"في أول ربيع الأول، الشهر الثالث من شهور السنة الهجرية، يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأنًا: الجزء الجنوبي الغربي لذلك الفضاء الواسع المعروف ببركة الأزبكية، وهو فضاء يكاد ينقلب كله في موسم الفيضان إلى بركة، وفي هذه الحالة يكون الاحتفال على حفافي البركة، ولقد كان الحال كذلك لعدة سنين مضت، لكن جفاف البركة فى هذه السنة، وفى موعد المولد، جعلها الساحة اللائقة بالاحتفال".
وتابع:"في هذه الساحة أقيمت صيوانات كثيرة، جلها للدراويش وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر، ما دام الاحتفال بالمولد، وبين هذه الصيوانات ينصب "صاري" يثبت بالحبال، ويعلق فيه من القناديل اثنا عشر، أو أكثر، وحول هذا الصاري تقوم حلقة ذكر، وهي تتكون عادة من نحو خمسين أو ستين درويشًا".
وعلى مقربة من حلقة الذكر ينصب "القائم"، وهو مكون من أربعة صواري في خط مستقيم ، بين كل اثنين منها مدى بضع ياردات، وقد شدت بينها، ثم إلى الأرض تحتها، حبال عدة، علقت بها القناديل الكثيرة، في أوضاع مختلفة، وأشكال منوعة، يراها الرائي في شبه أزهار، وفي صور آساد، وفى هيئات أخرى متناسقة، ومنها ما ترسم به كلمات كاسم الله، أو اسم النبي، أو كلمة التوحيد، أو غير ذلك من الكلمات المأثورة، وقد تكون مجرد أشكال للزينة، وفقًا لما ذكره "إدوارد وليم لين".
الاحتفال المعاصر بالمولد
في هذه الأيام، يأخذ الاحتفال بالمولد أشكالًا مختلفة يصحب بعضها التجاوزات، التي تحذر منها المؤسسات الدينية، لكن عمومًا يعد أكل الحلوى كالسمسمية والحمصية والجوزية والبسيمة والفولية والملبن المحشو بالمكسرات، جزءً أساسيًا من الاحتفال بالمولد.
وحول التجاوزات المنتشرة كالقصائد الشركية والرقص والغناء والموسيقى في المولد النبوي، قالت دار الإفتاء المصرية، إن هناك فرق بين حكم الاحتفال وبين طريقة الاحتفال وسلوك المحتفلين، وهذا فرق عظيم ومسألة دقيقة يجب التنبه لها.
أما حكم الاحتفال فهو جائز شرعًا بدليل القرآن والسُّنة وعمل المسلمين سلفًا وخلفًا، وأما طريقة الاحتفال وسلوك المحتفلين فهو أمر يختلف من شخص لآخر، فما وافق من ذلك مبادئ الشرع الشريف فلا حرج فيه وما خالف منه في ذلك فلا نجيزه، بل نقول بحُرمته، وفق دار الإفتاء.
وأضافت:"وإذا عرفت ذلك، فلا ينبغي سحبُ حكم ما خالف الشرع من سلوك المحتفلين على حكم الاحتفال بذاته، وهذا خلط عظيم أوقع الناس في عنت ولبس خطير".
وينبغي أن يُعلم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أغلق باب الشرك والضلالة على الأمة وذلك بقوله: «إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي -أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- علَى ضلالةٍ» أخرجه الترمذي، بحسب الإفتاء.