الأحد 16 فبراير 2025

مقالات

لغتنا أصل هويتنا

  • 26-10-2024 | 14:40
طباعة

في بداية دراستي الجامعية وعند دخولي بهو كلية اللغة العربية لأول مرة وقعت عيناي على لافتة وضعت في مكان بارز كتب عليها، «إن الأمة التي فقدت لغتها كالفتاة التي فقدت عرضها»، وكان فهمي لهذه العبارة آنذاك ينحصر في استعمال العامة في المعاملات اليومية للعامية ولم أعلم أن الأمر يتخطى هذا.

حالة من الهرج تجتاح أحاديث وكتابات الكثيرين، ألفاظ ومفردات من لغات أجنبية دست في لغتنا وكأن مخاضها تعسر في إيجاد ألفاظ تعبر عن مقصود الأفكار وما يكن في النفوس من خواطر، وما يرد على العقول من واقع وخيال.

بديهي أن اللغة ماعون ثقافة وفكر الشعوب وهي مكون رئيسي من مكونات الهوية وأهم سمات المجتمع وذاكرة تاريخه، فلم تندثر لغة مجتمع إلا زال هذا المجتمع وغربت شمسه من الوجود ودفن في القبر المجاور للغته كمن قطع لسانه وسبق صاحبه إلى مثواه الأخير.

إذن فاللغة جذر أصيل من جذور الهوية وهي للهوية كاليد للفم وكالماء للنبات، قضية أمن قومي، قضية وجود ولا وجود والاستهانة بها علامة تراجع وتأخر وتفريط في حضارة وتاريخ الأمة بل ومستقبلها.

الانبهار باللغات الأجنبية، خاصة الأوروبية من صور التفريط في اللغة الأم في حالتنا نحن العرب، فالمقصود من تعلم وإتقان اللغات الأوروبية كالإنجليزية و الفرنسية وغيرهما هو الانفتاح على ثقافات وعلوم كونية تفيد الأمة وتضيف إليها وتقوي وجودها وليس العكس، أقصد بالانبهار هنا استخدام مفردات ومصطلحات أجنبية وتجنيب بدائلها العربية بدعوى العولمة والانفتاح، وقد سلك هذا المسلك كثير من المتحدثين العرب في الشأن العام و السياسة والرياضة و غيرها غير مدركين أنهم بذلك عطلوا لغتهم وأصبحوا تابعين و أسرى اللغات التي تشدقوا بالنطق بألفاظها، وحسنا فعلت بعض دول العالم عندما منعوا المتحدثين باسم حكوماتهم من التحدث بغير لغاتهم في المحافل الرسمية، أولى بذلك أبناء لغة الضاد أصحاب اللسان العربي المبين الذي نزل به الوحي من السماء مخلدا وجود لغتنا العربية أبد الآبدين.

وقد يوَلّد هذا الانبهار باللغات الأجنبية الاحتقار والتهميش للغتنا ويعتبر بعض المنبهرين أن إدخال ألفاظ دخيلة في أحاديثهم وكتاباتهم تحضر ومواكبة للوقت الآني ورقي تفرضه حالة التقارب بين المجتمعات بفضل التقدم التكنولوجي، والأمر عكس ذلك تمامًا فقد وطئت أقدامهم أرضا غير أرضهم وصاروا لاجئين في أرض لغة لا ينتسبون إليها.

حالة أخرى وجدت في مجتمعنا العربي تنذر بخطر كبير، وهي تعمق كثير من الشباب في استخدام  مصطلحات أجنبية حتى أنهم نسوا أو لم يعرفوا معاني هذه المصطلحات بالعربية وهذا هو التغريب الذي حذر منه علماؤنا مرارًا وتقطيع للجذور ومحو لأثر أمة قال شاعر من أبنائها:

 وسعت كتاب الله لفظا وغاية

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدر كامن 

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.

لا أقل من صحوة تدق ناقوس الخطر بين أفراد مجتمعنا، ينذرهم أن ازدهار لغة شعب هو مؤشر سيادة وامتداد هذا الشعب، فكم من لغات اندثرت ومرضت وتعطلت بيد أبنائها وبات ضياع شعبها ونسيانه أمرًا حتميًا، فاللغة هي الموحد الأهم للأمة وضياعها أو ضعفها ـ أي اللغة ـ هو بداية لانقسام هذه الأمة تؤدي إلى فرقة المجتمع.

إن اللغة العربية تحتضن أكثر من عشرين دولة هي لسانها النابض الحافظ لتراثها والمدون لتاريخها، وهي أهم عامل مشترك بين أفرادها على اختلاف ألوانهم وعاداتهم ووضعهم على الخريطة، مظلة واحدة تجمعهم من شتات عصف بأمم استخفت بأهمية اللغة في وحدة المجتمعات.

إن الاهتمام بتبسيط أساليب تعليم اللغة العربية واجب وطني لأهميته في بث روح الانتماء لهذه اللغة درة تاج اللغات عبر العصور، هذا الانتماء الذي يجعل الجيل الحالي فخورًا بلغته ومتمسكًا بها و يصبح حاجزًا لتزاحم اللغات الأجنبية مع اللغة العربية في عقول و ألسنة أبنائها مما يخفف من أزمة الهوية التي يتعرض لها هذا الجيل الذي يعاني انفصامًا لغويًا إثر تعرضه لهذا التزاحم الذي وصل حد العراك، فإذا أدرك هذا الجيل وزن لغته وثقلها في ميزان اللغات نجا من هذا العراك متفاخرًا بلسان نزل به القرآن الكريم، ونظم به امرؤ القيس والمتنبي و أحمد شوقي وغيرهم شعرًا، و كتب به ابن المقفع والقاضي الفاضل والجاحظ وغيرهم نثرًا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة