فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها على الصعيد العالمي، عقب انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب عملتها التي أصبحت تهمين على الاقتصاد الدولي، وهي الدولار، كنتيجة لمؤتمر "بريتون وودز"، قبل نحو ثمانين عامًا.
مؤتمر بريتون وودز
في خضم الحرب العالمية الثانية، تحديدًا في يوليو عام 1944، استضافت الولايات المتحدة الأمريكية، وفودًا من 44 دولة فيما عُرف بـ "مؤتمر بريتون وودز"، وذلك بغرض صياغة نظام اقتصادي جديد لفترة ما بعد الحرب.
ونجحت الولايات المتحدة، في إقناع الوفود بالمؤتمر بأن يكون الدولار الأمريكي، العملة الوسيطة بين الدول الأطراف، هذا بالإضافة إلى أن يصبح العملة الوحيدة التي يمكن تحويلها إلى ذهب، أما العملات الأخرى فيمكن تحويلها إلى دولار، بحيث يمكن تحويلها إلى ذهب لو أرادت الدول ذلك.
وفي سبيل ذلك، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية، أنها لن تقوم بطباعة أي دولار، إلا بضمان وجود ما يوازيه من الذهب، ونظرًا لأنها كانت تمتلك ثلثي احتياطي الذهب الموجود بالعالم، وافقت الدول على ذلك.
ومن هنا، أصبح الدولار المحور الأساسي للنظام النقد الدولي، ونقطة الإرتكاز في استقرار أسعار الصرف، واكتسب وصف "العملة الصعبة"، وبات العالم كله أفرادًا ودولًا يثق بالدولار باعتباره عملة للتداول.
وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد حولت نصرها العسكري في الحرب العالمية الثانية إلى نصر إقتصادي، وحقق الدولار منزلة لم تكن تتوقعها واشنطن ولاتتمناها، ونتيجة لذلك تحول ثقل ومركز الإقتصاد العالمي من بريطانيا إليها.
الانقلاب الأمريكي
وبالفعل، عمل "معيار الذهب"، ولكن مع تسارع نمو الاقتصادين الألماني والياباني، وتأثر الميزانية الفيدرالية الأمريكية بالمتطلبات المالية الباهظة للحرب في فيتنام، أغرقت الدولارات الأمريكية الأسواق العالمية، وبدأت دول كثيرة تطالب بالذهب مقابل حيازاتها من الدولار، ما جعل واشنطن عرضة لخسارة كامل احتياطياتها من الذهب.
وأصبح ذلك جليًا في عام 1971، عندما زاد عدد الدول المطالبة باستبدال مئات الملايين من الدولارات بالذهب، وعلى إثر ذلك اتخذت الولايات المتحدة سلسلة من التدابير الاقتصادية، جاء في مقدمتها إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب فيما عرف باسم "صدمة نيكسون".
وبذلك تكون الولايات المتحدة انقلبت على ما صاغته بيداها فيما يشبه عملية "نصب" جرت بشكل إحترافي. أو بشكل أدق "عملية تلاعب تجارية" فرضتها عوامل القوة والضعف في الميزان السياسي والتجاري، بحسب مراقبين.. وهكذا يتبين كيف وضعت واشنطن النظام المالي العالمي كله تحت قيد الدولار، الذي بات يُسيطر اليوم على 80 بالمائة من التجارة العالمية، و66 بالمائة من المدفوعات عبر نظام التحويلات الدولية "سويفت"، و57 بالمائة من احتياطات صندوق النقد الدولي.
هل تستمر الهيمنة الدولارية؟
بيدا أن الولايات المتحدة بعد نحو 53 عامًا من "صدمة نيكسون" تستشعر أن البساط يسحب من تحت أقدامها شيئًا فشئ، إذ يعتزم الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب، فرض تعريفات جمركية ضخمة تصل إلى 100 بالمائة على الدول، التي تحاول التجارة خارج النظام المالي القائم على الدولار، بهدف حماية مكانته كعملة احتياط عالمية، هذا في حال عودته إلى البيت الأبيض.
ويقصد "ترامب" بقراره هذا الدول غير المتعاونة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب ما أوضحه الدكتور سمير رؤوف، الخبير الاقتصادي، الذي أشار إلى أنه بعيدًا عن هيمنة الدولار يوجد "البترودولار" المرتبط بالتسعير البترولي، ما يجعله العملة الأكبر والأشهر على المستوى العالمي، والمقبولة في أي مكان.
وأوضح "رؤوف" في حديثه لـ"دار الهلال"، أن من شروط العملة عندما تعطيها لأي شخص يقبلها، وهذا ما يتسم به "الدولار" فهي عملة لا يرفضها أحد، على عكس بعض العملات الأخرى، التي لا تلقى نفس الرواج الذي يحظى به، مشيرًا في السياق ذاته إلى أن امتلاك الاتحاد الأوروبي عمله كـ"اليورو" يجعلها منافسًا قويًا لـ"الدولار"، غير أنهم حلفاء لـ"واشنطن".
أما بالنسبة لـ الدول التي على خلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية كبعض الدول داخل تكتل "بريكس" هذا ما يثير القلق الأمريكي، وفقًا لما ذكره الخبير الاقتصادي، مشيرًا إلى العملة الورقية التي كشف عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة "بريكس" الأخيرة الرامية إلى ربط الدول الأعضاء بعملة موحدة تتعامل بها البنوك المركزية، ما يُسهم في تحرير الاقتصاديات الصغرى والناشئة، وبالتبعية سيحدث ذلك بورصات بين تلك الدول قادرة على التعامل بعملات غير الدولار، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى ما يُعرف بـ"حرب عملات".
وفي رأيه أن تلك الخطوة لن تحد من الهيمنة الدولارية بشكل في كبير، لأنك في الأخير سوف تعود إلى تسعير الدولار، لكنها سوف تخفض تكلفة دول "بريكس" في عملية الاستيراد والتصدير.
في غضون ذلك، يؤكد السفير جمال بيومي، أمين عام اتحاد المستثمرين العرب، أنه على الصعيد العالمي فإن الدولار يأخد وضعًا أكبر من حجمه، أما فيما يتعلق بانكسار الهيمنة الدولارية، فهو يرى أننا "لا ناقة لنا ولا جمل" في هذا الأمر.
وأضاف "بيومي" في حديثه لـ"دار الهلال"، أنه حتى لو استخدمنا الجنيه المصري لن يقبله أحد منك إلا حين يكون عندك ما يستطيع أن يشتريه به، مستشهدًا بأن مصر عقدت في ستينيات القرن الماضي نظام يسمى بـ"التجارة والدفع"، حيث كان يقوم على المقايضة دون استخدام العملة، بمعنى "أنك تمتلك شيء تقايض به أم لا".
أما فيما يتعلق بالدولار، يوضح أنه وفقًا لـ"حقوق السحب الخاصة" التي يحتفظ بها صندق النقد الدولي فإنه يشكل 42 بالمائة منها، يليه اليورو بنسبة 24 بالمائة، ثم الجنيه الاستراليني، والـ"يوان" الصيني، والـ"ين" الياباني، بنسبة 11 بالمائة تقريبًا.
وأردف أنه على الرغم من تقييم الصندوق بأن الدولار يشكل 42 بالمائة من "عملات السحب الخاصة، إلا أنه عمليًا، يشكل أكثر من 80 بالمائة من المعاملات الدولية، موضحًا أنه عملة تعامل تجارى على مستوى العالم.
وأعقب قائلًا:" أكبر حائز لـ الدولار ويحافظ على قيمته الصين، لأنه عندما تعلوا قيمة الدولار مقابل انخفاض قيمة الـ "يوان" الصيني ستصدر بشكل أكبر، وهذا ما تحرص عليه أكثر من أي شئ آخر".
وفي تقدير بيومي، أنه لا توجد أي مصلحة لـ الدولة المصرية في انكسار الهيمنة الدولارية أو صعود عملة بديلة لها، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد من أكبر الشركاء التجاريين والسياسيين لـ مصر.