روسيا والشرق العربى تاريخ قديم من العلاقات والحوار؛ لعل أقدم أشكاله العلاقات التجارية التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع الميلادى؛ فثمة علاقات تجارية ربطت دولة روسيا القديمة بعصور الخلافات العربية، وكانت مواد التجارة آنذاك هي الفراء والعسل والحرير الذى كان يباع للشرق العربى مقابل عملات فضية عربية وجدت آثارها في أنحاء متفرقة من روسيا، وقد كانت حركة التجارة القديمة بين روسيا والشرق العربى –حسب إشارة المستشرق الكبير كراتشكوفسكى– هي أحد المنافذ التي عبرت من خلالها كلمات عربية إلى اللغة الروسية والتي كان في عدادها بعض مصطلحات الطب العربي.
ثمة عوامل وقنوات عدة أسهمت في تشكيل المعرفة المتبادلة بين روسيا والشرق العربى، والتي كانت بمثابة خطوة تمهيدية مهمة على طريق تأسيس المثاقفة والحوار بين الثقافتين العربية والروسية.
ويعتبر موقع روسيا الجغرافى بين الشرق والغرب أحد العوامل التي أسهمت في تعرف روسيا على حياة الشرق وعاداته، بالإضافة إلى عامل آخر مهم؛ فقد اعتنقت روسيا المسيحية عن الكنيسة الشرقية، مما أسهم في التواصل مع الثقافة الشرقية٠ فضلا عن وجود شعوب شرقية في عداد روسيا.
وتعتبر كتابات الحجاج والرحالة الروس الممتده على مدار عشرات السنين من أهم القنوات التي تعرفت من خلالها روسيا على التراث الروحى والحضارى للشرق العربى؛ ومن هذه الكتابات المبكرة سلسلة قصص "فلاديمير" الملحمية التي ورد بها معلومات عن رحلات الحجاج الروس إلى فلسطين، والتي بدأت في روسيا منذ الربع الأخير من القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر.
جدير بالذكر الإشارة إلى واحدة من الرحلات المبكرة المهمة: "رحلة رئيس الدير دانيال من الأرض الروسية" (القرن الثاني عشر)، حيث ورد بها ذكر للأماكن المقدسة في فلسطين، وبعض المدن العربية والأنهار والجبال.
كذلك تعتبر كتابات الرحالة من المصادر المهمة التي عرفت بالحياة والواقع الاجتماعى في البلاد العربية، وقد لاقت كتابات الرحالة المستقاة من التجربة الحية والمعايشة على الطبيعة نجاحا كبيرا لدى القارئ الروسى، وقد كان من بين الرحالة أدباء، وشعراء، ودبلوماسيين، ومن بين الكتابات المبكرة للرحالة الجديرة بالاهتمام "رحلة عبر ثلاثة بحار" لأفاناسي نيكيتين (القرن الخامس عشر)، حيث ورد بها معلومات عن بعض البلدان العربية، وعاداتها، وعن الإسلام.
وهناك العديد من الرحلات المهمة الأخرى التي قام بها الرحالة الروس، ولاقت كتاباتهم عنها نجاحا كبيرا، منها رحلة فاسيلى بارسكى إلى القدس، والأردن، ومصر، ولبنان، وسوريا (١٧٠١-١٧٤٧)، ورحلة الأديب الرحالة فيودر إمين إلى الأماكن المقدسة وبلدان الشرق الأوسط (١٧٦٦-١٧٧٦)، ورحلة الأديب الدبلوماسي أندرى مورافيوف إلى مصر وفلسطين (١٨٠٦-١٨٧٤)، وغيرها من الرحلات.
وتعد الترجمات من أهم القنوات التي أسهمت في ترسيخ المعرفة المتبادلة بين روسيا والشرق العربى٠ وتتبوأ ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الروسية أهمية كبيرة في التعريف بالتراث الروحى للشرق العربي. وقد ظهرت أول ترجمة للقرآن إلى اللغة الروسية في عهد بطرس الأول (١٧١٦) وقد أنجزت الترجمة من خلال الترجمة الفرنسية للمستشرق أندريه ديوري. وقد تُرجم القرآن بعد ذلك عدة مرات إلى الروسية، بداية عبر ترجمات وسيطة، ثم مع تطور المعرفة باللغة العربية والدراسات العربية في روسيا، تمت ترجمته مباشرة عن الأصل العربى.
ومن المهم الإشارة إلى ترجمة القرآن التي قام بها الكاتب والشاعر والمترجم م.فيريوفكين (١٧٩٠) والتي أصبحت مصدرا للشاعر الكبير بوشكين في مجموعة قصائده "قبسات من القرآن".
كذلك تكتسب أهمية خاصة ترجمات "ألف ليلة وليلة" التي ظهرت أول ترجمة لها في روسيا في القرن الثامن عشر (١٧٦٣-١٧٧١)، وقد لقيت هذه الترجمة نجاحا كبيرا يشهد عليه إعادة طباعتها أربع مرات متوالية خلال أربعون عاما، وقد حظيت ترجمة "ألف ليلة وليلة" على عناية واهتمام كبيرين بين القراء والأدباء في روسيا، وكانت مصدرا للاستلهام بالنسبة للعديد من الكتاب والشعراء الروس، ولا سيما في فترة تطور الحركة الرومانسية في روسيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كذلك تمت ترجمة العديد من النصوص المختارة من الشعر العربى القديم إلى اللغة الروسية-خاصة- في فترة النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد كان لترجمات الشعر العربى ولا سيما شعر الغزل أهميته الكبيرة في ظهور تيارات شعرية في الأدب الروسى في عشرينيات القرن التاسع عشر تحاكى قصائد الغزل العربية.
ويكتسب الدور الذى قام به الاستشراق العلمى الروسى أهمية كبيرة في التعريف بثقافة الشرق العربى وتراثه الروحى، وفى الترجمة لآثاره الثقافية.
ويعود الاهتمام بدراسة العربية في روسيا إلى بدايات القرن الثامن عشر؛ ففي عام ١٧١٦ وبموجب مرسوم أصدره بطرس الأول تم اختيار خمسة شبان لتعلم اللغات التركية والعربية والفارسية، وتم إيفادهم إلى إيران لهذا الغرض.
كذلك تم تأسيس متحف للحضارة الشرقية ضم مجموعة من المخطوطات العربية والفارسية والتركية، وقد صار هذا المتحف نواة للمتحف الأسيوى الذى لعب دورا كبيرا في الدراسات الاستشراقية فيما بعد.
وقد اتخذت حركة الاستشراق مجالا واسعا مع بداية القرن التاسع عشر بعد أن صدر في عام ١٨٠٤ ميثاق الجامعات، وإثر صدور الميثاق بدأت تتأسس تباعا أقسام للغة العربية في مدن روسيا المختلفة.
وقد تطور الاستشراق (الاستعراب) في روسيا على امتداد الفترة من القرن التاسع وحتى يومنا هذا، وقدم العديد من الترجمات للتراث الثقافي العربى، والأدب الحديث، فضلا عن الدراسات المتخصصة، والأطروحات العلمية في شتى مجالات المعرفة الخاصة بالشرق العربى: اللغة، الأدب، التاريخ، الجغرافيا، الاقتصاد وغيرها من مجالات المعرفة.
وتعتبر التأثيرات الأدبية بين الثقافتين الروسية والعربية من أهم حلقات التفاعل والمثاقفة بينهما.
وقد سبق أن قدمنا للقارئ العربى أول دراسة علمية تتناول بالتفصيل هذا الموضوع الكبير في كتابنا: "مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسى" (الطبعة الأولى ١٩٩١، عالم المعرفة، الكويت).
ترتبط المحاولات الأولى لاستلهام العناصر الشرقية والإسلامية في الأدب الروسي ببداية القرن الثامن عشر. وذلك في العمل الشعري ل ج. ر. ديرجافين "رؤية مرزا"، الذى انعكست به بعض الموتيفات الإسلامية، وقد تأثر العديد من الشعراء والأدباء الروس بحضارة الشرق العربي وتراثه الروحى -وخاصة- في فترة القرن التاسع عشر وبداية العشرين٠ وسنشير على عجالة إلى بعضها والتي سبق تناولنا لها بالتفصيل.
ويعتبر الشاعر الروسي الكبير أ.بوشكين واحدا من أهم الأدباء الذين اهتموا اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وبثقافة الشرق العربى. وكما أشرنا، تعرف بوشكين على القرآن من خلال ترجمة م.فيريوفكين. وقد استلهم بوشكين عن معانى القرآن الكريم، مجموعة قصائده التي تحمل العنوان "قبسات من القرآن" (تسع قصائد). وقد أشار بوشكين إلى أسباب اهتمامه باستلهام معانى القرآن الكريم موضحا أن: "الكثير من القيم الأخلاقية موجزة في القرآن في قوة وشاعرية".
وتعكس قصيدة "الرسول" اهتمام بوشكين بشخصية الرسول عليه السلام وتأثره بها، كما يتضح تأثر بوشكين بمفردات الحضارة العربية والإسلامية في مؤلفات له منها "نافورة بختشى سراى" و"روسلان ولودميلا"، وغيرها والتي تعكس اهتمامه الكبير، وتأثره بالأثر الأدبى العربي الشهير "ألف ليلة وليلة"، كما يتضح أيضا تأثره بالشعر العربى في بعض قصائده، ولا سيما قصائد الغزل.
وقد انعكست التأثيرات الإسلامية والعربية أيضًا في أعمال الشاعر الكبير م٠ليرمونتوف في بعض أعمال له: "الرسول"، "ثلاث نخلات"، "غصن فلسطين"، "الجدل" وغيرها.
ويعتبر الكاتب الشهير ل. تولستوي من أكثر الأدباء الروس اهتمامًا بالتراث الروحى والثقافى للشرق العربى، وبشخصية النبي محمد (ص) وتعاليمه، وبالأدب العربي. جدير بالإشارة تواصل تولستوي مع شخصيات من الشرق العربي، ومن بينهم الإمام محمد عبده (1849-1905)، حيث جرت بينهما عدة مراسلات.
درس تولستوي اللغة العربية لمدة عامين وتعرف على القرآن الكريم، وكان يكن احترامًا كبيرًا للأدب العربي والفولكلور، وخاصةً لرائعة الأدب العربى "ألف ليلة وليلة"، التي تعرّف عليها في طفولته. وقد انعكس اهتمام تولستوى بـ"ألف ليلة وليلة"، والفلكلور العربى في بعض قصصه التي كتبت للأطفال. كما يظهر تأثر تولستوى بالأمثال العربية والأقوال والحِكم المقتبسة عن القرآن وعن أحاديث الرسول عليه السلام في مؤلفاته التي كتبها في الفترة المتأخرة من حياته مثل "تعاليم للحياة لكل يوم" و"طريق الحياة"، والتي كان تولستوى يعدها بمثابة وصيته للأجيال.
أبدى تولستوي اهتمامًا خاصا بشخصية النبي محمد، وكتب مقدمة لكتاب "أحاديث محمد"، حيث قدم للقارئ بعض أقوال الرسول.
كذلك تأثر الشاعر والأديب المعروف إيفان بونين، الحائز على جائزة نوبل للآداب بالتراث الروحى والحضارى للبلاد العربية، وقد زار بونين عدة دول عربية منها مصر، سوريا، فلسطين، الجزائر، وتونس. وبوحى انطباعاته عن زياراته ومعرفته بالثقافة العربية كتب العديد من القصائد والاستطلاعات الأدبية مثل: حجر الكعبة الأسود"، "إمرؤ القيس"، "البدوي"، "القاهرة"، "زينب"، "مقبرة في الصخر"، "إبراهيم"، "ليلة القدر"، "رع-أوزيريس"، "معبد الشمس"، "الكوثر"، "علامات الطريق"، "أحفاد الرسول"، وغيرها من القصائد والاستطلاعات.
وقد نالت الحضارة المصرية القديمة اهتماما خاصا وكان لها تأثير على العديد من الأدباء والشعراء الروس، ولا سيما إدباء الحداثة الذين تطور إنتاجهم في تسعينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ومنهم إيفان بونين، فاليرى بريوسف، كوزمين، بالمونت وغيرهم.
أما على الصعيد العربى فقد بدأ ظهور الترجمات من الروسية إلى العربية في القرن التاسع عشر. أنجزت الترجمات المبكرة في نهاية القرن التاسع عشر عن الأصل الروسى مباشرة، ويرجع الفضل في ذلك إلى خريجى مدارس الإرساليات التابعة للجمعية الفلسطينية التي أسهمت في تكوين أول دارسين للغة الروسية، ومن أهمهم سليم قبعين، خليل بيداس، حيث قاما بترجمة أعمال ل أ.بوشكين، ن.جوجول، إ.تورجنيف، ل.تولستوي، أ.تشيخوف، م.جوركى، تلى ذلك ظهور ترجمات أنجزت من خلال لغات وسيطة، أسهم في تقديمها أدباء ومثقفون من محبى الأدب الروسى من أمثال عصام الدين حفنى، محمد السباعى، سلامه موسى وغيرهم.
وقد ازدهرت الترجمات الأدبية من الروسية إلى العربية -على نحو خاص- في مصر في الستينيات من القرن العشرين مع تطور العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الاتحاد السوفييتي السابق ومصر في تلك الفترة، ومع تكوين كوادر المترجمين الذين درسوا في الاتحاد السوفييتى السابق.
وقد كان لتأثير الكتاب الروس: بوشكين، جوجول، دوستويفسكي، تولستوي، تشيخوف، وجوركى أهمية كبيرة بالنسبة لطريق تطور الأدب العربى.
حظيت أعمال ل.تولستوي على مكانة كبيرة في الحياة الروحية والثقافية للشرق العربي، وقد تعرّف القارئ العربي على أعمال تولستوي منذ نهاية القرن التاسع عشر من خلال الترجمات. وقد كان ولايزال لتراث تولستوي وفكره تأثير كبير على الأدباء العرب. ولا تزال أعماله العظيمة، وخاصة رواياته الخالدة "الحرب والسلام"، "آنا كارينينا"، و"البعث" تمثل نماذج للفن الروائى الواقعى بالنسبة للأدب العربي. وقد امتد تأثير روايات تولستوى إلى فن السينما العربية، ولعل خير شاهد على تأثير تولستوى على السينما فيلم "نهر الحب" المستوحى من رواية "آنا كارينينا" لتولستوي.
كذلك كان لأعمال ف.دوستويفسكي أهمية كبيرة بالنسبة لتطور الرواية العربية. فقد حظيت رواياته بتقدير كبير، وتأثير على العديد من الكتاب؛ وقد أشار إليه أديبنا الكبير عباس العقاد بوصفه "أعظم كتاب العالم".
كذلك كان لمكسيم جوركى، أديب الواقعية الاشتراكية تأثير كبير على صف كامل من الكتاب العرب الذين ارتبط إنتاجهم بتيار الواقعية الاشتراكية. فقد قدمت أعمال جوركى المشبعة بالروح الثورية دعما للكتاب العرب الذين ارتبط طريقهم بحركات التحرر. وكان لتأثير جوركى على بعض الكتاب العرب أهمية في تدعيم عناصر الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي.
كذلك حظيت بالاهتمام أعمال تشيخوف، وكان لها تأثيرها على بعض كتاب القصة القصيرة من أجيال مختلفة. وقد أشار محمود تيمور، أحد رواد القصة القصيرة في مصر، إلى تأثير تشيخوف عليه وعلى أعضاء المدرسة الحديثة.
كما كان لتشيخوف أيضا تأثيره على المسرح المصري. ومن بواكير مسرحيات تشيخوف التي قدمت على المسرح المصرى مسرحية "الدب" التي ترجمها وقدمها زكى طليمات في عام ١٩٤٤، وأعدّ عنها مسرحية من فصل واحد بعنوان «الجلف».
وقد نما الاهتمام بإنتاج تشيخوف المسرحى في مصر بشكل كبير في ستينيات القرن العشرين، بالتوازى مع التطور العام للمسرح المصري. وقد أطلق على عام 1963 في المسرح في مصر«عام تشيخوف». فى تلك الفترة أصبح مسرح أنطون تشيخوف، بصدقه وبساطته، وحبه للإنسان وإيمانه بالمستقبل المشرق، نموذجًا للعديد من المسرحيين. لذلك ليس من المستغرب أن العديد من المسارح والمخرجين اتجهوا إلى مسرحيات تشيخوف خلال تلك الفترة.
و مازال الحوار الثقافي الروسي-العربي مستمرا، وقد تم الاحتفاء فى عام ٢٠٢٢ في كل من مصر وروسيا بعام التعاون الإنسانى بين مصر وروسيا.