الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

الذكاء الاصطناعي مترجمًا.. مسارات الاستسلام والتعاون

  • 9-11-2024 | 15:25
طباعة

منذ عام 1956 وأول ظهور لدراسة نظرية تتحدث عن الذكاء الاصطناعي والحديث لا ينتهي عن هذا المبدأ وتلك التقنية وما يمكن أن تساهم به في حياة البشر والمجتمعات في جميع المجالات، هذا الحديث الذي بدا بين المتخصصين ثم انتقل إلى العامة وخاصة خلال السنتين الماضيتين بعد ظهور تطبيق شات جي بي تي ChatGPT وانتشاره بسرعة مهولة بعد إتاحته للاستخدام المجاني لكل مستخدمي شبكة الإنترنت والذين يتجاوز عددهم حاجز الخمسة مليارات مستخدم.

هذا التطبيق يندرج تحت فئة النماذج اللغوية الكبيرة Large language Models (LLM’s) وهي باختصار عبارة عن برامج ذكاء اصطناعي قادرة على فهم وتوليد نصوص جديدة شبيهة بالنصوص السابقة من خلال التدريب على كمية هائلة من البيانات والقدرة على الوصول إليها طوال الوقت، هذا التوليد يتم من خلال أساليب معالجة تساعدها على تحليل وتقييم ما هو موجود وفهم العلاقات المعقدة بين الكلمات والتعابير ومن ثم تستطيع إنتاج نص جديد.

ولا يتوقف الأمر عند إنتاج- أو توليد نصوص جديدة فقط بل يشمل أيضا التلخيص والرد على الأسئلة والترجمة بين اللغات المختلفة، يتم ذلك بسرعة كبيرة وبدقة تتحسن مع الوقت ومع التدريب وتعتمد على دقة البرنامج وحجم البيانات -أو النصوص- المتاحة له، كما تعتمد أيضا على درجة أخرى من التخصصية في التعامل مع نصوص في مجالات محددة مثل المجال الاقتصادي أو السياسي أو الطبي... إلخ.

تلك التقنية تعرف أيضا بالذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence على اعتبار ما يتم توليده من نصوص جديدة -أو تبدو كذلك- وهذه التقنية لا تقتصر على النصوص المكتوبة بل تشمل أيضا الوسائط المتعددة الأخرى كالصور الثابتة والمقاطع الصوتية والمصورة، حيث تعمل بنفس الأسلوب لتوليد وسائط جديدة أيضا.

ولأن المجال متسع فإن المقال سيركز على استخدامات الذكاء الاصطناعي في الترجمة النصية والصوتية ويطرح تساؤلات حول مدى دقة وفاعلية تلك التقنية وهل سيتغير المستقبل بالفعل فتتحول كل الترجمات إلى نصوص وأصوات مولدة من تلك البرامج ويتم الاستغناء عن العنصر البشرى من مترجمين وخبراء وهل ستؤثر تلك التقنية على تعلم الإنسان للغات أخرى وهل ستصل إلى مرحلة يتم فيها التوقف عن الاستعانة بالمترجمين وتعلم اللغات الأخرى تماما أم لا.

أولا الترجمة:

يوجد عدة تصنيفات للترجمة لعل من أهمها التصنيف طبقا للنوع أو للوسيط، فبالنسبة للنوع نجد الترجمة التحريرية- المكتوبة، وتشمل الترجمة الأدبية والتقنية والترجمة الشفهية وتشمل الترجمة الفورية والتتبعية، أما التصنيف بالنسبة لنوع الوسيط فنجد الترجمة النصية والصوتية ويتم اختيار النوع المناسب بناء على عوامل عدة منها طبيعة النص والغرض من الترجمة والجمهور المستهدف والميزانية والوقت المتاح، هذا بالإضافة إلى اختيار الشخص المناسب للقيام بالترجمة والذى يحتاج إلى التمتع بالكثير من الخبرات والمعارف وحسن التصرف في المواقف المختلفة خاصة في حالة الترجمة الفورية Interpretation والتي تحتاج إلى الكثير من المهارة والدقة والسرعة والكياسة مقارنة بالترجمة المكتوبة Translation.

وللترجمة شهادات اعتماد تمنح للمترجم ليصبح معتمدًا ويستطيع أن يقوم بأعمال الترجمة أو المراجعة واعتماد الترجمة ويمكن تقديمها للجهات الرسمية وتعتبر الجمعية الأمريكية للمترجمين (ATA) American Translators Association هي أكبر وأهم جهة مهنية للمترجمين التحريريين والفوريين تضم في عضويتها 8500 عضو في أكثر من 100 دولة وتأسست عام 1959 لهذا الغرض ولا تعترف الكثير من الجهات الكبيرة بالمترجمين غير الحاصلين على هذه الشهادة وفى أحيان أخرى تقوم بعض الجهات الكبيرة كالأمم المتحدة بعقد اختبارات إجازة داخلية لديها بغض النظر عن حصول المترجم على شهادة معتمدة.

تلك الجمعية هي الأشهر ولكن يوجد أكثر من سبعين جمعية وجهة تمنح تلك الشهادات حول العالم وفى اللغات المختلفة ويكون نطاق تأثيرها أو الاعتراف بها محلى أو إقليمي أو على المستوى الدولي وهي لا تشترط أن يكون المتقدم لها من خريجي كليات الآداب واللغات والترجمة لاجتياز الاختبارات والإجازة.

ثانيا التكنولوجيا:

بدأت التكنولوجيا في قول كلمتها أربعينيات القرن الماضي حينما اقترح عالم الرياضيات الأمريكي الشهير وارن بيفر إمكانية قيام الحاسب بترجمة النصوص المكتوبة وكان ذلك في عدة رسائل وأوراق بحثية قام بها في الفترة من عام 1947 وحتى 1949 واستمرت التجارب العملية في الخمسينيات والستينيات ولكنها اصطدمت بتعقيد اللغات وضعف إمكانات الحواسب ومع نهاية الثمانينيات تحسنت العمليات الإحصائية المستخدمة في الترجمة الالية نوعا ما واستمرت في التحسن حتى وصلنا إلى الألفية الثالثة وإلى عصر الذكاء الاصطناعي الحالي ولعل من أكثر الأمثلة  على  برامج تحويل الصوت إلى نص مكتوب والمعروفة بال Speech Recognition والتي تطورت تطورا كبيرا من مجرد التعرف على الكلمة وكتابتها إلى التعرف على السياق والمعنى المطلوب وصياغته ولعل أكثر الأمثلة إيضاحًا لذلك من العبارة الإنجليزية التي تقول Mr. Wright has the right to write with his right hand والتي يتشابه فيها نطق الكلمة والتي تأتى مرة اسم لشخص ومرتين كاسم ومرة كفعل حيث استطاع التطبيق التمييز بينهم والتوصل إلى الكتابة الصحيحة والتي تعنى أن السيد رايت له الحق في الكتابة بيده اليمنى.

ولعل أشهر أدوات الترجمة الحالية ما تقدمة شركة جوجل Google من أدوات تسمح بالترجمة بين اللغات المختلفة والترجمة الفورية هذا بالإضافة إلى العديد من التطبيقات الأخرى التي يمكن تحميلها على الهواتف الذكية واستخدامها بصورة سهلة وبسيطة سواء للمتخصصين أو للسياح ورجال الاعمال الذين يتطلب الامر تواجدهم في بيئات تتحدث وتكتب بلغة لا يفهمونها وفي اغلب الأحوال فإن الحاسب الآلي أو الهاتف المحمول يجب أن يبقى متصلا بشبكة الانترنت طوال الوقت للحصول على الترجمة المناسبة من خلال التطبيق وقاعدة البيانات المخزنة على السحابة Cloud الخاصة بذلك.

ثالثا الدقة:

إشكاليات دقة الترجمة كثيرة ومتعددة، حتى بين المترجمين المختلفين من البشر، فهذا أكثر خبرة وأكثر علما في المجال وذاك أقل وهو ما يجعل الكثير من جلسات السمر للمترجمين تمتلئ بالكثير من النوادر المضحكة حول مواقف محرجة أو ترجمات هزلية ولذلك فإنه عندما يأتي الأمر إلى وجود آلة صماء تحمل تطبيقا مدعوما بتقنية الذكاء الاصطناعي للقيام بالمهمة، فإن الأمر يأخذ أبعادا أخرى منها ما هو متعلق بالقدرة على ترجمة وفهم "السياق" والإبقاء على المعنى وخاصة عند استخدام الكنايات والمحسنات اللفظية أو أن الموضوع شديد التخصص ويحتاج إلى مصطلحات خاصة  أو في حالة الترجمة الفورية Real Time  وخاصة عندما يستخدم المتحدث لغة غير لغته الأم مثل أن يتكلم شخصا من دول الشرق الأقصى الإنجليزية أو الفرنسية.

ربما يكون الأمر أقل وطأة في حالة ترجمة النصوص ولكن وفى جميع الأحوال فإن بزوغ التقنيات وانتشارها بات يهدد العاملين في هذا المجال ويضيفهم إلى قائمة الوظائف المهددة حاليا وفى المستقبل من قلة أو انعدام الطلب عليهم حيث يتم استبدال البشر بالبرمجيات التي تحقق مستويات أعلى من السرعة وأقل في التكلفة من مثيلاتها من البشر وهي قضية كبيرة تتشارك فيها الكثير من الوظائف المهددة بالفعل.

فهل هذا يعنى الاستسلام التام للآلات والتقنيات تحت وقع إغراء السرعة وخفض التكلفة وهل يمكن للبشر وللمؤسسات تجاهل تلك التقنيات تماما والعمل بالأساليب التقليدية القديمة؟، والحقيقة أن كلا الاتجاهين غير واقعيين على الأقل حتى الآن فلا يمكن الخضوع والاستسلام للتكنولوجيا بالكلية ولا يمكن تجاهلها تمامًا أيضًا.

صيغة توافقية

إذا فان الحل يكمن في منطقة ما في المنتصف، نجد فيها صيغة توافقية مناسب، ليس للحفاظ على الوظائف البشرية بالأساس ولكن لأنه وفى أي تطبيق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي فان وجود البشر ما يزال في غاية الأهمية، فعلى سبيل المثال يستخدم المترجمون الفوريون برامج تحويل الكلمات إلى نصوص لمعاونتهم أثناء قيامهم بالترجمة الفورية، كما يستعين الكثير منهم بتطبيقات لترجمة النصوص ثم يقومون بمراجعه ما انتجته تلك التطبيقات فيما يعرف بال Post Editing وهوما يوفر الكثير من الوقت وللتدليل على ذلك فان كتابا يتكون من 800 صفحة في أحد الموضوعات شديدة التخصص والممتلئ بالعديد من الجداول الرياضية والرسوم البيانية والمصطلحات العلمية قد يحتاج إلى ستة اشهر وربما إلى عام أو أكثر ليقوم مجموعة من المترجمين المتخصصين بالانتهاء منه ولكن ومع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي كمعاون قام هذا الفريق بالانتهاء من ترجمة هذا الكتاب الضخم في عشرة أسابيع والمدهش أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد انتهى من ترجمة الكتاب في اثنى عشر ساعة واستغرق فريق المترجمين باقي العشرة أسابيع في المراجعة والتعديل على ما انتجه البرنامج.

ختام

مع انتشار تطبيقات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي والمستخدمة في كافة اشكال الترجمة وصولا إلى القدرة على دبلجة الأفلام بلغات متعددة ومع ازدياد سرعة ودقة تلك التطبيقات نجد أن الصيغة التوافقية المثلى هي التعاون والمعاونة، أي أن يقوم البشر من المترجمين بالاستعانة بتلك التقنيات ولكن من المهم اعتمادها من قبل المتخصصين من الأشخاص والهيئات قبل الاستخدام والانتشار وأن يعمل المترجمون للارتقاء بمستوياتهم ليظلوا متفوقين ويظل لهم أهمية واحتياج وقدرة على مراجعة وتصحيح وإقرار ما تنتجه تلك التطبيقات.

هذا على مستوى المهنة، أما على مستوى المستخدمين العاديين فان المجالات والآفاق التي تتيحها تلك التطبيقات غير محدودة، فبإمكانهم السفر إلى بلدان لا يعرفون لغتها أو يقرؤون من الإصدارات الدورية أو الأعمال الأدبية لكتاب وأدباء ما كان يمكن لهم أن يتعرفوا على ما يقدمونه من فنون إلا من خلال انتظارهم لمؤسسات الترجمة ولدور النشر أن تهتم بهذه الرواية أو هذا العمل وأن ينتظروا شهورا وربما سنوات حتى يستطيعون الاستمتاع بهذه الأعمال ولا يعنى ذلك أيضا أن يستغنى بها المستخدمون نهائيًا فقد تصاب تلك التطبيقات أو الشبكات ببعض الأعطال أو يكون الاعتماد الكلى عليها حاجزًا أمام بعضهم لتعلم لغة أخرى أو بعض كلمات منها على أقل تقدير.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة