الأربعاء 8 يناير 2025

مقالات

عرس الكتاب العربي


  • 5-1-2025 | 10:57

كرمة سامي

طباعة
  • كرمة سامي

ألفية القاهرة بدايته، وجماهيريته السنوية سر سرمديته. انتقل من فكرة للفنان التشكيلي عبدالسلام الشريف (١٩١١-١٩٩٧) إلى قرار يصدره وزير الثقافة ثروت عكاشة (١٩٢١-٢٠١٢) إلى خطة تنفذها رئيس هيئة الكتاب سَهير القلماوي (١٩١١-١٩٩٧). 

مشروع مشترك لثلاثة من عمالقة الثقافة المصرية والعربية يستمر تأثير أعمالهم على واقعنا الثقافي حتى اليوم، فماذا ننتظر منه سوى أن يكون ميلادا جديدا ليس للقاهرة فقط وإنما لأمّتنا العربية من المحيط إلى الخليج؟ ولم لا والكتاب هو لأمّتنا خير جليس في الزمان، وخير رفيق في رحلة العمر؟ وإن كنا ضللنا الطريق بما تبثه شوارد أمم تتربص بنا، وتقدم لنا زائف معرفة تحكمه إرادة واهنة واهية أداتها طرف سبابة تدمن التمرير لأسفل صفحة إلكترونية لا نهاية لها، فهذا الزحام المعلوماتي خيوط عنكبوتية مصيرها إلى زوال.

لاحظ أن الفكرة الوليدة نمت وتحولت إلى مشروع عملاق في فترة وجيزة في سياق فترة ما بعد النكسة، تتحدى في اكتمالها وتطورها المتنامي ما صدر لنا من مزاعم دولة جريحة ونظام منهار! هي مصر التي بدأت إعادة بناء جيشها في العاشر من يونيو في نفس عام النكسة، وهي التي أنتجت عام 1968 فيلم "القضية68" قصة لطفي الخولي وإخراج صلاح أبو سيف، وفيلم "قنديل أم هاشم" عن قصة يحيى حقي وسيناريو وحوار صبري موسى وإخراج كمال عطية، و"الرجل الذي فقد ظله" قصة فتحي غانم وسيناريو وحوار علي الزرقاني وإخراج كمال الشيخ.

ثم عام 1969 الذي ولدت فيه فكرة معرض للكتاب في بلدنا أنتجت مصر "شيء من الخوف" قصة ثروت أباظة وسيناريو صبري عزت وحوار عبد الرحمن الأبنودي وإخراج حسين كمال، و"ميرامار" قصة نجيب محفوظ وسيناريو وحوار ممدوح الليثي وإخراج كمال الشيخ. إنها مصر التي عبر التاريخ تداوي جرحها بالثقافة.

معرض الكتاب الذي بدأ في الجزيرة، ثم انتقل إلى أرض المعارض بصلاح سالم ليستقر حاليا في مركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس هو العرس السنوي للكتاب العربي.. بدأ رقيقا راقيا كالحلم على أرض جزيرة في أحضان نيلنا العظيم، وشكل لأبناء جيلي طفولتهم وذكرياتهم في القراءة وإيمانهم القوي بالمعرفة وارتباط كل فعل بنشوء الفكرة وارتقائها مع التقدم في العمر الجميل. 

معرض الكتاب هو العيد الذي كانت تنتظره أسرتي وتدخر استعدادا له. يؤرخ لي حكايتي مع الكتاب وتشوقي لزيارة أجنحة دار الهلال ودار المعارف ومؤسسة روزاليوسف وهيئة الكتاب ومؤسسة الأهرام، ودار الفتى العربي.

كل جناح وكل ناشر يرمز لموقف في حياتي وتطور ما في عقليتي، واهتمامات نمت داخلها شخصيتي من طفلة في رياض الأطفال تكاد تفك رموز الأحرف العربية المتشابكة لتأنس بصحبة ميكي وبطوط إلى أستاذة جامعية تقرأ بحكم التخصص لهارولد پيتر وآرنولد وسكر والأعمال النقدية لمارتين إسلين وكير إلام وديڤيد ديتشيز ورينيه ويليك وغيرهم. 

أعود بالذاكرة إلى عودتي الغانمة من المعرض أحمل النفائس من ثمار المطابع مثل قصص ليو تولستوي للأطفال مترجمة إلى الإنجليزية والعربية، وحكايات ماما سلوى (حجازي)، والمكتبة الخضراء، ومجلدات السندباد لمحمد سعيد العريان، وفي مرحلة تالية أزجال بيرم التونسي الكاملة، ثم أعمال يوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وترجمات الهلال، وبديع فؤاد حداد، وأعمال أنطون تشيخوف ومكسيم جوركي الكاملة.. إلى أن اكتملت غابتي المسحورة بكل بهائها وألق خضرتها ولم تتوقف على التوسع في المساحة.

كان للكتاب المترجم في مكتبة أسرتي مكانة مميزة، وفي بداية التسعينيات بدأت كتب المشروع القومي للترجمة، مشروع العبقري جابر عصفور، تظهر على أرفف مكتبتنا، ثم بعد منتصف الألفينات ظهرت إصدارات المركز القومي للترجمة النفيسة التي حرص والدي بالطبع على اقتنائها وكنت أستعيرها منه حسب اهتماماتي.

والآن افتخر بالعمل بالمركز إلى جانب فريق متميز من العاملين الفدائيين بوزارة الثقافة الذين لم يبخلوا في التعاون معي على حل مشكلات كتب المركز التي كانت عالقة في المطابع، ونتشارك الفرحة لظهور كل كتاب في موعده أو كثيرا قبل الموعد المحدد لظهوره مع الناشر. بهذا انتقلت من مقعد المتفرج إلى عامل في الكواليس حيث المتعة الحقيقية في صناعة الثقافة.

مع اقتراب موعد افتتاح معرض الكتاب يتحول المركز إلى خلية نحل، وفور الافتتاح يصبح المركز غرفة عمليات نترقب فيها مدى استقبال قراء الكتب المترجمة الأعزاء وإقبالهم عليها. متعة حقيقية أن تتابع مؤشرات النجاح لكل كتاب ونسب المبيعات، ونتواصل مع زملائنا في جناح المركز بالمعرض لمقارنة توقعاتنا لكل كتاب جديد باستقبال القراء له.

على أرفف جناح المركز القومي للترجمة هذا العام العشرات من الكتب الجديدة، حصاد عام كامل من العمل المتواصل. ترجمات من لغات متنوعة ومجالات معرفية شتى.. يتصدر الحصاد تجربة يخوضها المركز للمرة الأولى بصدور عمل بثلاث لغات هي العربية والإنجليزية، الفرنسية: "الحب والحرب في عيون طفل" جزء مختار من رواية "سَرابيوم" للكاتب محمود عرفات، ترجمته إلى الإنجليزية ندى حجازي، ومراجعة سمر عبدالسلام، وترجمته إلى الفرنسية بشاير علام ومراجعة نجوى حسن. سَرابيوم هي مسقط رأس الكاتب التي اختارها مسرحا لحكاية طفل شاهد عيان على الثغرة وما رآه بعينيه من همجية الكيان الصهيوني، ونبل واستبسال رجال الصاعقة المصرية والمعركة التي كانت ثم أسفرت عن النصر للجيش وللشعب.

كتاب "أنت والكون" للعالم ستيفين هوكينج (بالاشتراك مع ابنته لوسي هوكينج) ترجمة وسيم عبدالحليم، دعوة من المؤلف وابنته للتعاون كي "نجعل المستقبل مكانا جديرا بهذه الرحلة." وبفضل الصور التوضيحية للفنان شين لي فهو رحلة ناعمة شكلا ومضمونا "عبر الزمن" يستقبلها بمحبة القراء من كل الأجيال وليس الأطفال فحسب.

من كنوز/هدايا المركز القومي للترجمة لقرائه فى هذا المعرض كتاب "عالم مرتضى الزبيدي (١٧٣٢-١٧٩١): حياته وشبكة علاقاته ومؤلفاته" تأليف ستيفان رايخموت أستاذ الدراسات الشرقية والإسلامية بجامعة بوخوم بألمانيا، وترجمة محمد صبري الدالي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان. إلى جانب سيرة الزبيدي يقدم الكتاب أهم مصنفين له: "تاج العروس في شرح جواهر القاموس" وشرحه على كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي.

من الثقافة البولندية ترجمت لنا أجنيشكا بيوتروفسكا وهالة كمال كتاب "موجز تاريخ الأدب البولندي" للمؤرخ الأدبي والأستاذ الجامعي يان تومكوفسكي، وهو مرجع يعرِف بمراحل الأدب البولندي المختلفة بداية من الأدب البولندي القديم مرورا بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين، ويمهد لدراسات مقارنة مستقبلية بين الثقافتين العربية والبولندية، ويختمه المؤلف بتقديم أدب المستقبل الذي يُعنى بوصف "التجربة الفريدة والفردية التي لم يعد يهتم بها أحد إلا القليل من الناس".

وماذا لو تحققت "نهضة إفريقيا الزراعية"؟ وانتقلت من "بؤس التناقض إلى بأس التعاضد"؟ كتاب صدر حديثا عن المركز القومي للترجمة ترجمة أسامة رسلان، يقدم طرحا "نحو منظومات إقليمية تشمل القارة كلها تحقيقا للاكتفاء واستدرارا للموارد". ويتميز الكتاب إلى جانب جدية موضوعه وأهميته أن الفارق الزمني بين صدور طبعته الأصلية وطبعته العربية طفيف ولهذا فإن ما يقدمه مؤلف الكتاب أيوديلي أودوسولا، الحاصل على دكتوراه في الاقتصاد، من أرقام وإحصاءات يؤيد بها دراسته، يمكنها أن تكون سببا في تحقق رسالة المؤلف الذي يعمل كذلك ممثلا مقيما لبرنامج الأمم المتحدة في جنوب إفريقيا، وكذلك مديرا لمركز قطاع التمويل في إفريقيا التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 

"الغرب اللاتيني كما رآه العرب-المسلمون: تقصي نشأة أوروبا في العصور الوسطى"، تأليف دانييل ج. كونيج، أستاذ الدراسات العابرة للثقافات في سياق العولمة بجامعة هايدلبرغ بألمانيا، وترجمة آمال علي مظهر ومراجعة محمد صبري الدالي، يندرج ضمن محاولة تصحيح صورة العرب عند الغرب والعكس. وقع اختيار المؤلف على موضوع دراسته رغبة منه في المزج بين خبرته في مجاليّ التأريخ والاستعراب لتفسير تاريخ أوروبا من منظور خارجي "أبطاله"، العلماء العرب المسلمون وكيف تناولوا الغرب في كتاباتهم ووجوده الإنساني من وجهة نظرهم المحايدة حينا والشخصية حينا آخر. سيظل مجال هذا الكتاب، وفق وصف المؤلف، أحد أهم "المشاهد المعرفية" التي تستحث محاولات الترجمة من العربية وإليها ربما بحثا عن رأب الصدع بين ثنائية القطبية الثقافية أو لتعميق الهوة بينهما.

عندما تكون القائمة طويلة ومتنوعة تحفز القارئ على اقتحام مجالات لم يعتدها، يصعب الاختيار بينها في عرض موضوعاتها، ويكون من الإجحاف تناول بعضها وتجاهل غيرها! السبيل الوحيد لإنصاف فكر المولفين وجهد المترجمين أن يستعد زائر جناح المركز القومي للترجمة للقيام بجولة متأنية فاحصة في جناح المركز بالمعرض ليكتشف بنفسه ما يناسبه من بين هذه الكنوز المعرفية التي ترجمت عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والبولندية، والفارسية، والصينية، والسواحلية.

عبر عام كامل ثري بعشرات الإصدارات كان من بين موضوعاتها: المسلمون في أمريكا، والذاكرة الاجتماعية، ومسالك المحسنين، والنظرية السردية، والعدالة على كوكبنا، ومصر في أواخر العصور الوسطى، وصعود الفراعنة وسقوطهم، وبورتريهات البطالمة، وعلم النفس العصبي الاجتماعي، وكيف يتعلم مخ ذوي الاحتياجات الخاصة، والمتفرد: رؤية مختلفة للتوحد، وتعليم الموسيقى للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، والتقييم النفسي المعرفي للأشخاص الصم المكفوفين ولاديا، والدوي الإعلامي وكيف تنشر الأخبار عبر شبكات التواصل، والمياه الافتراضية: مبحث في الخطر المداهم لأعز موارد كوكبنا، وسيكولوجية الصراع الاجتماعي والعدوان، والتنوير، والفلسفة الطبية، والأسطورة البدوية في كتابات رحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وسيكولوچيا الإرهاب، والحداثة والشمولية في الفاشية الإيطالية، وقرن الدماء: الحروب العشرون التي غيرت العالم، وسياسة روسيا الخارجية: نظم متغيرة ومصالح دائمة، والإمبراطورية الروسية والجزيرة العربية والخليج، وإسلام الشارع: الدين في الأدب العربي الحديث، وغيرها، وغيرها، من كنوز الفكر والمعرفة الصادرة حديثا عن المركز القومي للترجمة.

فيض من المعارف والثقافات يتاح بين يدي القارئ الجاد للاختيار من بين دراسات في مجالات معرفية متباينة ودراسات بينية وإبداع من بقاع مختلفة تعبر كل منها عن حالة خاصة وزاوية متفردة تقف دليلا على ثراء التجربة الإنسانية والسعي البشري نحو التطور السلوكي والارتقاء المعرفي، وتضيف إلى رصيد المركز القومي للترجمة الذي أسسه جابر عصفور في أكتوبر 2006 ليكون منارة لثقافة الترجمة من العربية وإليها، وأداة معرفية لا غنى عنها لأي أمة لا تخشى الحوار مع الآخر.

الاكثر قراءة