الثلاثاء 7 يناير 2025

مقالات

فاروق شوشة رائد الإعلام الثقافي

  • 5-1-2025 | 10:49
طباعة

 جاء من مصب النيل يسعى متحسسًا خطاه إلى بنت المعز قاصدا كلية دار العلوم، كي يصقل موهبته في نظم الشعر بدراسة اللغة التي قرأ في مكتبة أبيه لكبار أدبائها، فاطلع على جميل نثرها وشعرها وألقاه بصوته العذب فزاده جمالًا إلى جماله وجذب إليه جمهورًا دخل عالم الاستمتاع بالشعر عن طريق هذا الصوت الرخيم عبر الأثير.

فاروق شوشة ذلك الدرعمي الذي ولد في قرية الشعراء بمحافظة دمياط في ثلاثينيات القرن العشرين وحصل فيها على تعليمه الثانوي، ثم انتقل إلى القاهرة طالبًا بكلية دار العلوم ليتخرج فيها عام 1956م بتفوق شهد به أساتذته العظام المحاضرون في قاعات هذا الصرح العظيم آنذاك.

راود فاروق شوشة حلم الالتحاق بالإذاعة المصرية، فتحقق له ما أراد حيث التحق بها عام 1958 ومنذ ذلك الحين اتخذ جانب الترويج للإعلام الثقافي والدفاع عن اللغة العربية من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "لغتنا الجميلة"، ونجح في تعريف جمهور عريض بكثير من الشعراء العرب قديما وحديثا، كذلك ناقش من خلال هذا البرنامج العديد من القضايا المهمة، مما كان له أثر كبير على هذا الجيل الذي تابع سماع هذا البرنامج لعقود، وكان لهم بمثابة مكتبة ضخمة تحوي كثيرًا من درر العربية تُقدم إليهم بصوت عذب رائق يحبب إلى من يسمعه ويأخذه عاليًا في سماء الثقافة والقراءة والتذوق.

فتح فاروق شوشة منافذ وسبلًا للقراء والمثقفين فهو أحد أهم ملامح الخريطة الثقافية في مصر والوطن العربي، فقد عرفه جمهوره شاعرًا وإذاعيًا ومثقفًا ومعجمياً ورائدًا للإعلام الثقافي من خلال دواوينه الشعرية التي بدأها بديوان "إلى مسافرة" عام 1966، واختتمها بديوان "قصائدي التي تصحبني" الذي صدر عام 2014، حيث وصل إنتاجه الشعري إلى ما يزيد على عشرين ديوانًا، عبر فيها عن هموم الوطن والإنسانية، وانحاز فيها لتجسيد عبقرية اللغة العربية في الوصف والتعبير، ومن منجزاته الثقافية التليفزيونية برنامجه "الأمسية الثقافية"، الذي أذيعت أولى حلقاته عام 1977، واستمر ما يقرب من 30 عامًا، عرّف الجمهور خلالها على الكثير من الكتّاب والشعراء والأكاديميين والمثقفين، ناقش معهم قضايا أدبية وفكرية واجتماعية وعلمية معاصرة، وألقى عليهم قصائد شعرية لم يكن لهذا الجمهور أن يطلع عليها بسهولة إلا من خلال الشاشة التي هي أسهل وسيلة لديهم آنذاك.

أما عن العمل الأكاديمي فقد عمل شوشة أستاذًا للإلقاء والتذوق الأدبي بمعهد الإذاعة والتليفزيون وأستاذًا لنفس المادتين بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، وأستاذًا للأدب العربي القديم والحديث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فترك علامة في طلابه ظهرت في كتبهم وفي إنتاجهم الإذاعي والتليفزيوني.

انتخب في عام 1999 عضوا بمجمع اللغة العربية، ثم أمينًا عامًا للمجمع عام 2005، ظهر وأثبت خلال هذه الفترة أنه لغوي واسع المعرفة ومعجمي أصيل النسب بلغة العرب، يملك حافظة شعرية استثنائية اكتسبها ونماها مدى عمره تشمل عصور الشعر العربي كلها تقريباً، فلقي استحسانا من أعضاء المجمع وخبرائه، وترك بصمة ظهرت في عمله بلجنة "تحديث المعجم الوسيط".

انسابت كل خبراته المتعددة في فروع اللغة العربية ووصلت إلى المستمعين والمشاهدين في دقة وبساطة ويسر، ففتح أبوابًا وشرايين وروافد عديدة أمام المثقفين بل والعامة، نهلوا منها وبحثوا عن قراءة ما استعذبته آذانهم من عيون الأدب العربي قديمه وحديثه، وعن كتب لم يصل خبرها إلا إلى المتخصصين والمترددين على دور النشر والمكتبات، فحدث انتشار لهذه المؤلفات فاق سرعة الضوء، وعمت روح ثقافية كان أهم أسبابها ذلك المثقف الغيور الذي أحدث تغييرًا ملحوظًا ومهمًا في الخريطة الثقافية للوطن العربي.

انضم إلى جيش الدفاع عن اللغة العربية كثير من مستمعي برنامج "لغتنا الجميلة" وغيره من البرامج التي جعلها فاروق شوشة منصات للصد عن هذه اللغة، فكلما زاد عدد جمهور هذه البرامج زاد جنود الدفاع عن اللغة والهوية، وكان لذلك عظيم الأثر في إعادة إحياء مجد اللغة في نفوس أهلها، وصد هجمات كانت قد تعرضت لها ممن يغفلون قيمتها ومكانتها، حتى أنه في كثير من أحاديثه هاجم الإعلاميين الذين تظهر على ألسنتهم أخطاء لغوية، واعتبر أن ذلك من الكبائر التي لا تليق بمن يستمع إليهم الملايين من المشاهدين والمستمعين، واستبعد أن تكون هناك مؤامرة قد حيكت ضد هذه اللغة، فقال في ذلك "أعتقد أننا نحن الذين تخلفنا، ونحن الذين أهملنا لغتنا العربية ونزلنا بمستوى التعليم إلى الحضيض، وإذا كان هناك متآمرون فهم نحن"، هذا الموقف وغيره من المواقف في الدفاع عن اللغة، التي لازمته طيلة حياته جعلت منه حارسًا وأمينًا ومدافعًا غيورًا عن اللغة العربية حتى حط رحاله ورحل عن دنيانا في 14 أكتوبر من عام 2016، وهو في سن الثمانين.

استحق فاروق شوشة جوائز عديدة على إنتاجه وتأثيره في الثقافة والمثقفين فحصل على جائزة الدولة في الشعر عام 1986، جائزة كفافيس العالمية عام 1991، جائزة محمد حسن الفقي عام 1994، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1997، كما حصل على أعلى وسام يمنح للأدباء في مصر وهو جائزة النيل عام 2016.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة