في أروقة التاريخ وإشراقة الحضارة، تتلألأ صور «نساء الإسلام» كنجومٍ سطعت في سماء الإيمان والعطاء، خلدهن إيمانهن و مواقفهن القوية دفاعًا عن ديننا الحنيف ينشدون ثواب الآخرة والهدى للبشرية كلها فتركن أثرًا كبيرًا محفوظًا في ذاكرتنا ووجداننا وهدى وبوصلة لنا في الطريق.
ومع بوابة «دار الهلال» في أيام شهر رمضان الكريم لعام 1446 هجريًا نقدم كل يوم حلقة من سلسلة «نساء في الإسلام» لتأخذنا إلى عمق النفوس، حيث تتجسد شجاعة المرأة وعزمها في مواجهة تقلبات الزمان، في كل حلقةٍ، نكتشف حكاياتٍ نسجت بخيوط العزيمة والإيمان، رسمت بمسحاتٍ من النور ملامح الحضارة الإسلامية هنا، يتلاقى الجمال الروحي مع القوة الإنسانية، وتنبثق من رحم التحديات أروع معاني التضحية والكرامة، لتكون المرأة ركيزة لا غنى عنها في بناء حضارتنا وإرثها العريق.
ولقاءنا في اليوم الحادي عشر من رمضان 1446 هجريًا الموافق 11 مارس 2025 ميلاديًا مع الصحابية الجليلة.. أم المؤمنين السيدة رملة بنت أبي سفيان «أم حبيبة» رضي الله عنها.
زوجات النبي.. أمهات المؤمنين
السيدة «أم حبيبة » إحدى أمهات المؤمنين، حيث يُطلق على زوجات الرسول كذلك تكريمًا لشأنهنَّ وإعلاءً لقدرهنَّ.
السيدة «أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، كان أبوها سيد بني أمية، وأحد سادات مكة، وأمُّها صفية بنت أبي العاص بن أمية ، وهي من بنات عمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أقرب نسائه إليه نسبًا ، وكانت من السابقين الأولين في الدخول إلى الإسلام.
وُلِدَت «أم حبيبة» قبل الإسلام، وتزوَّجت من عبيد الله بن جحش الأسدي، وهو ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب، وولدت له بنتًا وهي حبيبة فكانت تكنَّى بها ، ثم أسلمت السيدة «رملة» هي وزوجها، وحسن إسلامها وقوي إيمانها.
وعاشت «أم حبيبة» مع زوجها تلك التجربة القاسية التي لاقاها المؤمنون في بدايات الدعوة في مكة، وعاشت المعاناة المريرة والأحداث القاسية، ولم يكن هناك مخرجٍ من هذا الحال سوى هجرة الأوطان، وترك الديار إلى أرضٍ تسمح لهم بحريَّة العبادة، ووقع الاختيار على أرض الحبشة، فهاجرت «أم حبيبة» وزوجها وبنتها مع مجموعة من المسلمين إلى الحبشة؛ فرارًا بدينهم من أذى قريش، ليظفروا بالأمن والأمان، ثم بعد فترة، أثناء هجرته للحبشة ارتد زوجها عبيد الله عن الإسلام، ومات هناك.
صبرٌ وثباتٌ في وجه التحديات
حزنت السيدة « أم حبيبة» لما يحدث لها حزنًا كبيرًا، حيث كانت في بلاد غريبة وحيدة لا زوج لها، ولا أهل معها غير ابنتها، فلمَّا علم رسول الله ما حدث لها، وما أصابها من حزن وكرب أحبَّ أن يجبر خاطرها، فأرسل النبي محمد، رسولًا إلى النجاشي ــ ملك الحبشة ــ وهو عمر بن أمية الضمري، يطلب منه أن يزوج السيدة «أم حبيبة» إلى رسول الله، وأن يسمح للمسلمين المهاجرين بالعودة إلى المدينة المنورة، ففرحت السيدة «أم حبيبة » فرحًا شديدًا بطلب رسول الله بالزواج منها، ووافقت، ثم وكَّلت خالد بن سعيد بن العاص بن عبد شمس لإتمام عقد الزواج، وأقام النجاشي وليمة جمع فيها المسلمين هناك احتفالًا بهذا الزواج المبارك، ثم أمر النجاشي بتجهيز سفينتين محملتين بالهدايا، وأمرهما بحمل المسلمين المهاجرين ونقلهم إلى المدينة المنورة، فعادت السيدة «أم حبيبة » إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقبل أن يصل جيش المسلمين إلى مكة في فتح مكة أسلم أبوها.. أبو سفيان بن حرب.
من قصر أبي سفيان إلي بيت النبوة
تزوج رسول الله «أم حبيبة» في السنة السادسة للهجرة ويقال السابعة ، وكان عمرها يومئذ ستة وثلاثون سنة، فظلت معه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته محبَّة له، تتذكَّر دومًا كيف عطف عليها وقت محنتها، وكانت راضية مطمئنة في حياتها.
عرفت السيدة «أم حبيبة» بالذكاء والفطنة، والفصاحة والبلاغة، وكانت فوق ذلك من الصابرات المجاهدات، ويظهر جهادها وصبرها من خلال هجرتها إلى الحبشة مع زوجها تاركة أهلها وقومها، ثم صبرها على الإسلام عندما ارتدَّ زوجها ثم مات بعد ذلك، فصارت وحيدة لا زوج لها ولا أهل، وهي في حياة الغربة .
«أم حبيبة».. عالمةٌ عاملة
وعرفت عن السيدة «أم حبيبة» رضي الله عنها أنها كانت عالمةٌ عاملة؛ فقد روت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتب المحدثين بضعة وستين حديثًا ،ولها بصمات أخرى عديدة في التاريخ الإسلامي من بينها محاولتها مساعدة الصحابي الجليل والخليفة الثالث عثمان بن عفان ابن خالها، عندما حوصر من قبل المتمردون، و لكنهم منعوها وحالوا دون ذلك.
نور الإيمان يغلب ظلام الجاهلية
يذكر أن للسيدة «أم حبيبة» موقف مع والدها أبي سفيان وقفة براءٍ من الشرك وأهله، فإنه لَمَّا قدم المدينة راغبًا في تمديد الهدنة، دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته دونه، فاستنكر والدها ذلك وقال: يا بنيَّة، أرغبتِ بهذا الفراش عنّي؟ أم رغبتِ بي عنه؟، فأجابته إجابة المعتزِّ بدينه المفتخر بإيمانه: بل هو فراش رسول الله فقال: «يا بُنَيَّة، لقد أصابك بعدي شر».
وبعدما وفاة رسول الله «صلى الله عليه وسلم عاشت السيدة رملة «أم حبيبة» في حجرتها حزينة لفراقه رسول الله ،وحجَّت السيدة «أم حبيبة» مع أمهات المؤمنين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وتوفِّيت السيدة «أم حبيبة» رضي الله عنها سنة 44 للهجرة، وكانت قد بلغت من العمر اثنان وسبعون سنة، ودُفنت بالبقيع في المدينة المنورة، بعد حياة حافلة بالصبر في سبيل الله، رحم الله السيدة أم حبيبة ورضي عنها وأرضاه.