أحبَّ المصريون منذ أقدم العصور الاحتفالات والنزهات، وذلك لأسباب عدة منها البيئة الزراعية والمحاصيل المتنوعة، فضلًا عن قوة الوازع الديني لدى الشعب المصري من وقت مبكر.
واحتفالات المصريين منها الديني ومنها الشعبي، ومنها أعياد الميلاد ومنها موالد الأولياء والصالحين في المسيحية والإسلام، وكل هذه الاحتفالات الكثيرة والدائمة تكشف عن جوهر مهم في الشخصية المصرية يتمثل في أن روحه هي روح الإنسان الذي يقاوم كل شيء بالضحك والفرح والمحبة، ويحوِّل أيامه إلى مناسبات ولياليه إلى أغنيات وسمر وينتظر الغد متفائلًا.
تنبض مصر دومًا بالحياة، في عادات سكانها وأعيادهم واحتفالاتهم بالمناسبات المختلفة، وفي مواكب الزفاف وطقوسه، والأمسيات في المقاهي، وفي حلقات الذِّكر والدروايش، وفي رقص الغوازي وغناء العوالم، وفي المطاعم والمسارح، وفي الشوارع التي قدَّر علي مبارك في خططه عددها في القاهرة وحدها بقرابة 1290 شارعًا، وفي الأحياء التي تتجاور فيها علامات الثراء والفقر ويتصالح فيها المقيمون والوافدون.
**تأثير النيل
كانت مصر وما زالت قائمة على النيل الذي يهب لها الحياة، والزراعة، وتنبت على مجاريه وخلجانه وترعِه الأشجار اليانعة، والفواكه الجميلة، والمناظر البهيجة، وبسبب فيضانه السنوي كانت تتكون الكثير من البحيرات في مناطق واسعة من مصر من جنوبها إلى شمالها، ولا سيما القاهرة. وبسبب هذه الطبيعة الغنّاء، والأوضاع الاقتصادية الجيدة، عُرف عن المصريين في عصرهم الوسيط حُبُّ التنزّه، والإقبال على الحياة عمومًا.
انهماك المصريين في الحياة وزينتها إلى هذا الحد الذي وصفه المؤرخون قبل سبعة قرون كان عائدًا إلى استقرار أوضاعهم السياسية والاقتصادية، واعتمادهم على النيل الذي كان يمدّهم بالأمن والطمأنينة والرخاء، فضلًا عن متنزهات وحدائق غنّاء كانت وما زالت على طول مجراه.
ومن هنا، ظهرت في القاهرة آنذاك عدة متنزهات، وبعض بُحيرات أو بِرك كما سماها المصريون، وعلى شواطئها كان الناس يقضون أمتع أوقاتهم، وأجمل أسمارهم، ومن أشهرها بِركة قارون، وبِركة الحبش (عين الصيرة)، وبِركة الشقّاف (قرب ميدان التحرير اليوم)، وبِركة الأزبكية، وتأتي بِركة الفيل التي تُعَدُّ واحدة من أقدم وأجمل بِرك أو بحيرات القاهرة القديمة والتي كانت أيضًا من أشهر متنزهات وحدائق أهل مصر لمدة قرون متطاولة.
الشاهد أن المصريين القدماء لم يتوقفوا يومًا في السنة عن الاحتفال، مما يكشف عن روحٍ محبة للحياة، وساعية للبهجة. ولا شك أن الأعياد في مصر القديمة وقد سجّلتها الرسومات في المعابد والنقوش في المقابر قدَّمت جانبًا مهمًا من حياة المصريين وعاداتهم وطبائعهم.
**أعياد المصريين القدماء
في تقرير مهم كتبه المفتش الأثري محمود محمد مندراوي، يستعرض عددًا من الأعياد والاحتفالات في مصر القديمة، حيث قسَّمها إلى عدد من الأقسام، ومنها:
1-أعياد رسمية:
كانت تقام في أنحاء مصر كلها ويحتفل بها الملك مع الشعب ويخرج على شعبه ويوزع الهدايا والعطايا لأفراد شعبه وتقام فيها حفلات الرقص والغناء وغيره من مظاهر الاحتفال في ذلك الوقت. ومن أهم هذه الأعياد عيد توحيد الوجهين القبلي والبحري، الذي بدأه الملك مينا، ثم أصبح عيدًا رسميًا لمصر يقام كل عام.
2- أعياد محلية
وتكون هذه الأعياد خاصة بإقليم أو مدينة معينة تحتفل فيه بحدث معين يخص الإقليم أو المدينة فقط، وهو الأمر الذى ما زلنا نحتفل به في وقتنا الراهن، وإن كانت المناسبات قد تغيرت فقد صرنا نعتمد على فعاليات حديثة وقعت فى التاريخ المعاصر.
3-أعياد خاصة:
وهي أعياد شعبية تتعلق بفئة معينة أو طائفة حرفية أو مناسبة معينة خاصة بمجموعة أو مكان معين وتقتصر على الفئة فقط دون باقي سكان المدينة أو الإقليم، مثل أن يحتفل الصيادون بصيدهم والنجارون بموسم عملهم والفلاحون بموعد حصادهم.
4-أعياد دينية:
والأعياد الدينية في مصر القديمة كثيرة، وعادةً ما تكون خاصة بالآلهة أو بافتتاح معبد، ومنها:
أ- عيد الإله مين :
ويقام هذا العيد في الشهر الأول من فصل الحصاد لارتباط هذا الإله بصفة الخصوبة، وفى أثناء العيد يطلق الملك مجموعة من الطيور في اتجاه الشرق، والجنوب، والغرب والشمال كرمز لتجديد قوته.
ب- عيد «الأوبت»
وهو عيد انتقال آمون من معبده في الكرنك إلى معبده في الأقصر، وقد عُرِف هذا العيد من خلال مناظر معبد الأقصر التي ترجع إلى عهد الملك توت عنخ آمون وحور محب، و من خلاله كان الإله آمون ينتقل من الكرنك إلى الأقصر ثم يعود إلى الكرنك، وتبدأ الاحتفالات من معبد الكرنك حيث يُقدِّم الملك القرابين (لحوم، زهور، فاكهة، طيور، لبن، عطور )، كما يقوم بالتبخير ورش الماء أمام قارب آمون الذى يطلق عليه (وسر حات) وأمام قاربي «موت» و «خنسو».
ج- عيد اللقاء الجميل:
وهو العيد الذي كانت تتجه فيه الإلهة حتحور من معبد دندرة كل عام لتمضي 15 يومًا في معبد إدفو مع زوجها حورس، وكانت هذه الرحلة مناسبة سعيدة يشترك فيها الشعب، وكانت حتحور تترك معبدها قبل 5 أيام من اكتمال القمر وعلى حافة النهر تُقدَّم لها القرابين.
د- عيد السنة الجديدة :
يبدأ هذا العيد في الليلة التي تسبق السنة الجديدة، حيث يتوجه مجموعة من كبار الكهنة يقودهم كبير الكهنة الذي يحل محل الملك في أداء الطقوس، وهم أربعة كهنة أساسيين في المعبد والكاهن المرتبط بدندرة، والذي يطلق عليه عازف الموسيقى.
هـ - عيد آمون في الوادي:
في هذا العيد يتوجه الملك بعد أن يرتدي ثيابه الفاخرة للبحث عن آمون في معبده، وذلك لدعوته لزيارة (وادي الأموات) في غرب طيبة، وكان عبور النهر يتم في مركب تقودها الآلهة، وكان هذا العيد يستمر 11 يومًا في فترة حكم تحتمس الثالث و24 يومًا أثناء الأسرة 29 و27 يومًا أثناء حكم رمسيس الثالث.
وقد ذكرت لنا لوحة بالرمو أعياد الآلهة مثل عيد حورس - سكر - مين -أنوبيس - سشات ومن خلال قوائم الأعياد الموجودة في معابد كوم امبو - إدفو -إسنا- دندرة نستطيع تتبع أعياد بعض من الآلهة مثل حتحور وسخمت.
5-أعياد زراعية:
وبما أن مصر دولة زراعية من الطراز الأول انتشرت فيها الأعياد الزراعية مثل عيد وفاء النيل وعيد الحصاد وعيد حرث الأرض.
تبدأ أول الأعياد الزراعية مع مجيء الفيضان، الذي عُزي إلى دموع الإلهة «إيزيس» على زوجها «أوزيريس» إله الزراعة والخضرة والبعث والذي صار في أواخر العصر الفرعوني المسيطر على فيضان النيل، ولذلك فقد كان هذا اليوم أحد أعياد الإلهة «إيزيس».
ثم يأتــي بعد ذلك عيد وفاء النيل، حيث يرتفع الفيضان ارتفاعًا ملائمًا، فلا يسبب عطش الأرض ولا غرقها، حيث تعم الفرحة كل البلاد ويخرج الشعب كله للاحتفال بهذا الحدث قاصدًا المعابد للإلهة المحلية بصفة عامة وإله فيضان النيل بصفة خاصة، ينشد الأناشيد عن فضل مياه الفيضان وإله فيضان النيل.
يقول كتاب «النيل في عهد الفراعنة والعرب» لأنطوان زكري: «الذي لا شك فيه أن كل الاحتفالات الخاصة بالمهرجانات التي تقام لفيضان النيل سنويًا كانت بمنزلة فريضة دينية يحترمها الناس كاحترام النيل، وكانت تقام الزينات المعتادة للأعياد العامة».
ومن الأعياد أيضًا عيد رأس السنة الزراعية، وهو عيد رأس السنة القبطية أو عيد «النيروز»، وكان بمنزلة عيد قومي في مصر، واستمر الاحتفال به حتى العصور الوسطى.
كان الاحتفال يكسر كل الأعراف والمحاذير، وتُعطَّل فيه الأعمال وتُغلَقُ الأسواق، ويرشُّ الناس بعضهم بالماء في الشوارع، وكذلك يتقاذفون البيض، وكان فلاحو شبرا يعتمدون في سداد ما عليهم للدولة من مبيعات الخمور في هذا اليوم وحده، وعلى ساحل النهر كان المحتفلون ينصبون خيامهم حتى تملأ ضفَّة النيل، فكانت تلك الخيام السبب وراء تسمية شبرا إلى اليوم بـ«شبرا الخيمة».
وحتى عندما أبطل الأمير برقوق الاحتفال بالنيروز قبل توليه السلطنة، كان القرار خاصًا بالاحتفالات الصاخبة في الشوارع وتعطيل الأسواق، فأصبح الاحتفال مقتصرًا على الخلجان والبِرك ونحوها من أماكن التنزه.
ومن الأعياد أيضًا كان عيد الانقلاب الربيعي، وهو عيد شم النسيم حاليًا، وكان عيدًا للموسيقى والرقص وأكل السمك المملح والوز الأبيض والبصل الأخضر.
وشم النسيم هو أقدم احتفال شعبي عرفه التاريخ بداية من قدماء المصريين منذ ما يقرب من خمسة الآف عام، وترجع تسمية «شم النسيم» بهذا الاسم إلى الكلمة الفرعونية «شمو»، وهي كلمة هيروغليفية قديمة تعني عيد الخلق أو بعث الحياة. كان المصريون القدماء يعتقدون أن ذلك اليوم يرمز إلى بدء خلق العالم وبعث الحياة، وقد تعرَّض الاسم للتحريف على مرِّ العصور، وأضيفت إليه كلمة «النسيم» لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج إلى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة.
أما عيد الانقلاب الشتوي فكان يشبه عيد الغطاس في زمننا الراهن وكان يأتي بمناسبة حرث الأرض ونثر البذور.
وكان لدى المصري القديم أعيادٌ مرتبطة بمناسبات محددة أهمها انتهاء بناء المقبرة الملكية، فنصوص ومناظر الدولة القديمة تُصوِّر لنا الأعياد التي كان الملوك يقيمونها بمناسبة انتهائهم من بناء أهراماتهم، فنجد الناس يرقصون وينشدون الأغاني ويقيمون الموائد والكل سعيد بانتهاء هذا المشروع القومي الذي التف حوله كل المصريين.
7-احتفالات النصر
كذلك احتفل المصريون بأعياد انتصاراتهم على أعدائهم، وقد ترك لنا كبار قادة الجيوش في عصر بداية الأسرة الثامنة عشرة مناظر ونصوصًا على جدران مقابرهم تُصوِّر لنا كيف أنهم احتفلوا بذكرى انتصارهم الحاسم على الهكسوس وما تم في أعيادهم من توزيع للهدايا والنياشين عليهم من قبل الملك، وكذلك العطايا التي منحت لهم سواء من الأراضي الزراعية أو من الماشية وغيرها.
**عيدا الفطر والأضحى
ومن الاحتفالات الدينية التي يحتفل بها المصريون عيدا الفطر والأضحى.
وتبدأ مظاهر الاحتفال في مصر بعيد الفطر في آخر 10 أيام من شهر رمضان، بالإقبال الكبير على شراء الملابس الجديدة التي تعد جزءًا أساسيًا من استقبال الأعياد، وتشهد الشوارع المصرية زحامًا شديدًا في ظل وجود أغلب الأسر خارج المنازل لشراء مستلزمات العيد وبخاصة ملابس الأطفال. كما تتجمع ربات البيوت في الأسبوع الأخير من رمضان لإعداد كعك والبسكويت للعيد والحلويات. ويعتقد كثيرون أن الكعك بدأ في مصر مع بداية العصر الفاطمي، ولكن الحقيقة التاريخية تؤكد أنه بدأ قبل ذلك بكثير خلال عصور الأسرات المصرية القديمة.
تشهد ليلة الوقفة سهرات شبابية وعائلية وتجمعات كبيرة في البيوت والمقاهي والكافيهات، حيث يسهرون للصباح قبل التوجه لأداء صلاة العيد في الساحات، حاملين معهم الهدايا لتوزيعها على بعضهم البعض بعد الصلاة، وبعد انتهاء الصلاة تبدأ حفلة الكعك والشاي بالحليب وبعدها يبدأ المصريون في الخروج إلى المتنزهات والحدائق ودور السينما والزيارات العائلية. و تعد «العيدية» واحدة من أهم طقوس وعادات الاحتفال بالعيد في مصر وأكثرها انتشارًا، ومن المعتاد أن تكون نقود العيدية جديدة لإدخال الفرحة على نفوس الأطفال .
الأمر نفسه يتكرر بصورة أو بأخرى في عيد الأضحى المبارك، كجزء من حرص المصريين على ممارسة الحياة بروح الفرح والمرح.