جاءت رياح القرارات الاقتصادية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بما لا تشتهي نفسه، ولا يقر عينه، حيث جاءت نتائجها على عكس ما هو متوقع تمامًا، إذ أدت إلى انخفاض حاد في قيمة الدولار ليصل إلى أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات، مما يجعل العالم يفقد الثقة فيه ويدفع نحو تلاشي الهيمنة الدولارية.
ويرى خبراء، أن قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاقتصادية تدفع نحو فقدان العالم الثقة في الدولار، ما يفتح الطريق أمام إنهاء الهيمنة الدولارية على الاقتصاد العالمي، بيد أنهم أكدوا أن ذلك لن يحدث بين عشية وضحاها، بل يحتاج الأمر إلى سنوات، فضلًا عن توافر الإرادة السياسية لذلك.
وأوضح الخبراء، في أحاديث منفصلة لـ"دار الهلال"، أن معيار جدوى قرارات الرئيس الأمريكي، هو النتائج المحققة على أرض الواقع، وبما أن لها تداعيات سلبية، فإنها تعتبر قرارات غير مدروسة.
فقد الثقة في الدولار
وقال الدكتور كريم العمدة، الخبير الاقتصادي، إن الدولار الأمريكي يعتبر من قبل المستثمرين وأسواق المال والمضاربين "ملاذًا آمنًا" مثل الذهب، وذلك بالأخص في الدول النامية والدول التي تعد عملاتها غير مستقرة، حيث يضعون مدخراتهم وقت الأزمات.
وأوضح الدكتور كريم العمدة، في حديث لـ"دار الهلال"، أن هذا الاعتماد على الدولار الأمريكي يأتي مصحوبًا بأن الولايات المتحدة صاحبة أقوى اقتصاد في العالم، ولديها قاعدة تكنولوجية كبيرة.
وأضاف أنه بعد قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي أحدثت هزة في أسواق المال والاقتصاد العالمي، ما أسفر عن فقدان العالم الثقة بشكل تدريجي في الاقتصاد الأمريكي، وذلك في مقابل القرارات التي يأخذها دونالد ترامب ثم يعود عنها.
وأكد أن قرارات الرئيس الأمريكي جعلت العالم أمام حالة "غريبة" و"عجيبة"، وبشكل طبيعي أدى هذا إلى فقدان الثقة في الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يتضح بعد قيام المستثمرين -لأول مرة- بالتخلي عن السندات الأمريكية، مقابل اللجوء إلى عملات أخرى ذات ثقل، مثل "الفرنك" السويسري و"الين" الياباني.
كذلك تم اللجوء إلى الذهب، كما يضيف الخبير الاقتصادي، الذي أوضح أن هذا يفسر الارتفاع الكبير الذي لحق بأسعاره، حيث إن الناس بدأت تتخلى عن الدولار مقابل شراء الذهب.
وفي حديثه، يلفت إلى أن الصين -التي يُصعد معها دونالد ترامب- ليست بالدولة الصغيرة، حيث إنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومن أكبر المستثمرين في السندات الأمريكية، التي بدأت تتخلص منها بشكل تدريجي، بدلًا من أن تحدث أزمة، كما أنها في ذات الوقت توقفت عن شراء السندات.
وبناءً عليه، انخفض مؤشر الدولار بنسبة تسعة بالمائة مقابل عملات أخرى، وهذا سينعكس على سعر الدولار محليًا، حسب "العمدة"، الذي أكد أن قرارات الرئيس الأمريكي في هذا السياق "غير سليمة"، حيث إنها لا تخرج بهذا الشكل، ودفعت إلى فقدان الثقة في الدولار، والتوجه نحو ملاذات أخرى.
وعند سؤاله: "هل يدفع ذلك نحو إنهاء الهيمنة الدولارية؟"، أجاب بأن انكسار الهيمنة الدولارية لن تدفع إليه الولايات المتحدة بمفردها، بل سيكون مرتبطًا بتصرف الدول الأخرى في أوروبا وآسيا، بما فيها الصين: هل سيستمر تعاملهم بالدولار أم سيلجأون إلى عملاتهم المحلية؟، معربًا عن اعتقاده أن الهيمنة الدولارية ستستمر لسنوات، ولكنها ستنخفض بشكل تدريجي.
هل القرارات الأمريكية سليمة؟
من جانبه، يعزي الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، انخفاض قيمة الدولار إلى أن العالم في حالة ركود، وما دام هناك ركود، فلا يوجد طلب على المنتج، وهو ما يعني في النهاية انخفاض سعر الدولار.
وعن قرارات الرئيس الأمريكي الاقتصادية، يضيف الدكتور رشاد عبده، في حديث لـ"دار الهلال"، أن من وجهة نظر دونالد ترامب، قراراته عظيمة، وستجلب إيرادات للبلاد، وفي المقابل، هناك آراء أخرى تؤكد أن من شأن هذه القرارات أن تحدث تضخمًا في المجتمع، جراء رفع الأسعار بسبب تبادل فرض التعريفات الجمركية بين الدول.
"وهذا بسبب أنه كما يرغب الرئيس الأمريكي في الحصول على إيرادات لبلاده بسبب التعريفات الجمركية، فإن الدول الأخرى التي فرضت عليها هذه التعريفات ستفكر بنفس منظوره"، وفقًا له.
وأوضح أن الفاصل بين وجهات النظر تجاه قرارات الرئيس الأمريكي الاقتصادية هو النتائج، مبيّنًا أنه طالما ظهرت لها نتائج سلبية مثل رفع نسبة التضخم، فهذا يعني أن القرارات كانت سلبية وغير مدروسة وخاطئة.
هل انتهى زمن الدولار؟
ويمتلك الدكتور مدحت الشريف، استشاري الاقتصاد السياسي وسياسات الأمن القومي، ووكيل اللجنة الاقتصادية في البرلمان السابق، وجهة نظر مختلفة في هذا السياق، حيث يؤكد أن انخفاض قيمة الدولار بشكل عام هو أحد أهداف الرئيس الأمريكي، حتى يكون لديه سلعة منافسة على مستوى العالم.
ويلفت الدكتور مدحت الشريف، في حديث لـ"دار الهلال"، إلى أن الصين، بمجرد أن بدأ الرئيس الأمريكي شن حربه التجارية عبر فرض الرسوم الجمركية، قام البنك المركزي فيها بإعطاء تعليمات للبنوك في البلاد بخفض قيمة "اليوان".
وعليه، فإن خفض قيمة الدولار هو أحد أهداف الرئيس دونالد ترامب، وقد تحدث عن ذلك في برنامجه الانتخابي، حيث قال إنه سيركز على محورين أساسيين، هما: استخدام سلاح التعريفات الجمركية لمواجهة عجز الميزان التجاري، وخفض قيمة الدولار، حسب ما يذكره "الشريف".
وحول ما إذا كانت الدول ستثق في العملة الأمريكية بعد قرارات "ترامب"، يؤكد الخبير الاقتصادي، أن الدولار هو العملة الأساسية في العالم، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا، وما زالت الولايات المتحدة تحافظ على استمرار عملتها.
وفي السياق، يشير إلى أن الرئيس دونالد ترامب قد أطلق قبل فترة ليست بالبعيدة تحذيراته لدول مجموعة "البريكس" من محاولة الاستغناء عن الدولار والتعامل بعملة أخرى، مسلطًا الضوء على أن المسؤولين الصينيين كانوا قد هددوا بإصدار عملة جديدة تتعامل بها بعض دول "البريكس" بشكل عام أو الدول الآسيوية.
وفي اعتقاده، أن دول العالم لا تستطيع أن تستغني عن الدولار في ظل الظروف الحالية، حيث إنه العملة الأساسية التي يتم بها التبادل التجاري على مستوى العالم، موضحًا أن الدول الأوروبية حين أصدرت "اليورو" كان لها القدرة على أخذ جزء من عرش الدولار، لكن ذلك لم يحدث، حيث إنها أخذت جزءًا على استحياء في إطار التبادل التجاري البيني مع الدول الأخرى.
أما عن مسألة انكسار هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي على المدى البعيد، فيوضح "الشريف"، أن هذا الموضوع مرتبط بقدرة الولايات المتحدة على فرض إرادتها السياسية على الكثير من دول العالم، حيث إن معظم دول العالم في الوقت الحالي تتمنى الخروج من تحت سيطرة الدولار بشكل أو بآخر، حيث إن بعض الإجراءات التي اتخذتها "واشنطن" على مدى العشر سنوات الماضية، تحديدًا منذ ولاية دونالد ترامب الأولى، أثرت على كثير من اقتصاديات العالم، خاصة الأسواق الناشئة.
وبالفعل، فإن دول العالم ترغب في الخروج من عباءة الدولار، كما يوضح الخبير الاقتصادي، الذي أشار إلى أنها لا تستطيع ذلك، حيث إن الإرادة الأمريكية تفرض على الجميع، وذلك من خلال أدوات عديدة، منها الاتفاقيات القائمة مع حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين، وكذلك القوة العسكرية، بالإضافة إلى سيطرتها على المؤسسات المالية العالمية.
وفي هذا الإطار، أكد أن أي دولة في العالم تتمنى أن تتعامل بالعملة الوطنية الخاصة بها، بل هي طفرة لها لا يمكن أن تتكرر، لكن في ظل الظروف الحالية، أغلب الدول لا تستطيع أن تفعل ذلك، حيث إن القوة العالمية، مثل الصين وروسيا، تفعل ذلك على نطاق محدود فقط.
وبخصوص جدوى قرارات "ترامب" الاقتصادية، يضيف مدحت الشريف، أن من الناحية النظرية هي أفضل له، حيث إنه يحاول من خلالها تقليل عجز الميزان التجاري، لكن فعليًا، حققت صدمات غير مأمونة العواقب، بما فيها انخفاض أسعار الأسهم في البورصات لأكبر سبع شركات في العالم بحوالي 2.5 تريليون دولار من قيمة أسهمها، وذلك بخلاف انخفاض أسهم الكثير من الشركات الأمريكية، وهذا بطبيعة الحال له آثار سلبية.
وأشار إلى أن الرئيس الأمريكي أطلق هذه الحملة من التعريفات الجمركية، وفي النهاية فإن المفاوضات هي من ستحكم، بحيث يحقق نسبة من المكاسب، ولذا، هو أجل فرضها 90 يومًا على الدول التي طالتها، ما عدا الصين، للتفاوض، لكن إلى الآن لم يبدأ تفاوض بشكل مباشر، حيث إن المحادثات الحالية في إطار جس النبض.
وأكد في ختام حديثه، أن الرئيس الأمريكي مُجبر على التفاوض مع الصين، لأنها قوة اقتصادية عظمى لا يمكن تجاهلها، فهو لا يستطيع مواجهتها بشكل منفرد حتى لو انضمت إليه أوروبا.