الخميس 24 يوليو 2025

مقالات

ثورة الـ 30 من يونيو.. عودة للذات وانحياز للمستقبل

  • 28-6-2025 | 12:52
طباعة

من المعروف أن الثورات التي وقعت على مر التاريخ كانت ثورات تقليدية، قليل منها تبنى أيديولوجيات متأثرة بفلسفة التنوير، حملت في طياتها تنوعا هائلا في أسبابها ودوافعها ونتائجها، وبل ومدى تأثيرها وقدرتها على الاستمرار، ومقدار ما حققته من أهداف وإنجازات.

لماذا الثورة؟

تنشأ الثورات عندما يسود اعتقاد بأن نظام الحكم القائم لم يعد قابلا للإصلاح، وغير قادر على حل أزمات الدولة، وتتكون نخبة قادرة على استقطاب كتلة جماهيرية متنامية؛ لخلق حركة وطنية تعمل على إسقاط هذا النظام وإحداث تغيير في مؤسسات الدولة والمبادئ التي كانت تقوم عليها؛ وإقامة نظام ثوري جديد. وهنا تبدأ معادلة التغيير الثوري تتحقق بفعل حيوية الحراك الجماهيري من جهة. وبطبيعة تعامل السلطة المتهاوية مع هذا الحراك وممارساتها ضده من جهة أخرى. وعندما تنجح الثورة، تبدأ في إحداث تغييرات جوهرية دائمة بالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتبدأ في تطهير البلاد من القوى المضادة لها سواء النشطة منها، أو المحتملة، والقضاء على فلول النظام السابق، خاصة التي تناوئ استقرارها باستخدام العنف والإرهاب؛ لتقويض أركانها وإفشال نظامها في البقاء. مثلما فشل النظام الثوري بالصين، عام 1911م، وظلت الصين في حالة صراع داخلي، لم يتوقف حتى نجح الحزب الشيوعي في السيطرة على البلاد عام 1949م، وكذلك فشل النظام الثوري في روسيا القيصرية، عام 1905م، جعل روسيا في حالة فوضى داخلية مستمرة، حتى نجح البلاشفة في السيطرة على البلاد والإطاحة بالنظام القيصري، عام 2017م. وهو أمر يؤكد أن معظم الثورات التي حدثت في العالم لم تكن مجرد عملية واحدة، بقدر ما كانت عدة عمليات متتابعة.

ذاكرة الثورات

وللثورات ذاكرة مفعمة بالديناميكية والتفاصيل المتنوعة في إسقاط الأنظمة والإطاحة بالعروش، بالتزامن مع اندلاع الثورات المناهضة للاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) فقد أطاحت ثورة 23 يوليو بالنظام الملكي في مصر، عام 1952م، وكانت ملهمة بدورها التحرري وبعدها الوطني، لثورات وطنية أخرى في كل من اليمن والعراق والسودان، ومساندة لثورة التحرير الجزائرية التي تعد الأكثر عنفاً بين الثورات المناهضة للاستعمار الفرنسي (1962-1966م) كما كانت ملهمة لثورات أو محاولات ثورية في كل من كينيا وتنزانيا وزيمبابوي ضد الاستعمار البريطانية، وفي غينيا بيساو وأنغولا وموزامبيق ضد الاستعمار البرتغالي.

تحتفظ ذاكرة الثورات أيضا بتفاصيل زوال كثير من الملكيات التقليدية وإعلان النظام الجمهوري بديلا عنها، مثل الإطاحة بالنظام الملكي الأفغاني، عام 1973م، وإسقاط النظام الإمبراطوري الأثيوبي، عام 1974م، ومحاولات غير مجدية للتغيير الثوري في إريتريا وإقليم تجراي، والإطاحة بعرش الامبراطور الإيراني، عام 1979م، ناهيك عن الثورات التي أدت إلى انهيار الأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا، المجر، ألمانيا الشرقية، بلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، عام 1989م، بوصفها كانت جزءا من انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه في 26 ديسمبر 1991م.

فوضى الربيع العربي

 اجتاحت بعض الدول العربية المنتقاة حركة احتجاج ضخمة متفاقمة، في خريف 2010م، كانت بمثابة فوضى جيوسياسية واسعة تستهدف في ظاهرها إسقاط أنظمة هذه الدول وإحداث تغيير جذري فيها، وفي باطنها دفع هذه الدول إلى الصراع الداخلي الذي يقضي على الدولة وينهي بقائها بالفشل. وكانت مصر إحدى هذه الدول.

لقد كانت مصر تواجه، بفعل جملة من العوامل؛ وضعا اجتماعيا وسياسيا معقدا - تبلورت معالمه ومؤشراته، طوال العقد الأخير من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك - تفاقم معه اليأس الاجتماعي والإحباط السياسي، على نحو دفع الشباب سواء القادم من أسفل السلم الاجتماعي أو من أعلاه، إلى الاحتجاج والمطالبة بالعيش والحرية والكرامة الاجتماعية. وهي المطالب التي اجتذبت بدورها القوى النقابية والحزبية والنخب السياسية المهمشة، ثم ما لبثت جماعات الإسلام السياسي الأكثر تنظيما وتنسيقا أن دُفعت إلى الانضمام إليها؛ لتبدأ أحداث ما يسمى الربيع العربي، الذي لم تُبنى عمدًا ووعيًا من قِبل هذه الجماهير المحتجة، نظرا لأن سردياته السياسية والاجتماعية كانت تنساب عبر شبكات التواصل الاجتماعي بين هذه الجماهير؛ لبناء أهداف ‹الربيع› الزائفة ورفع سقف المطالب. ومن أشهر هذه السرديات: ‹جمعة الغضب› و‹جمعة الرحيل› والتي تطورت بشكل مدروس إلى العمل على النيل من أركان الدولة ذاتها واستهداف أجهزتها الأمنية وقواتها المسلحة سلطتها القضائية، مؤسستها الإعلامية والدينية الإسلامية والمسيحية. ولكن بأدوات غير تقليدية، أهمها شبكات التواصل الاجتماعي بعض الفضائيات الناطقة بالعربية، ونشر عمليات قطع الطرق والخطف وإشعال الحرائق.

والحق، أن الاستخدام المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي وجعلها أداة مشتركة غير خاضعة لرقابة الحكومة؛ لتعبئة قطاعات كبيرة من الجماهير المغرر بها وتحريضها ليس ضد النظام، بل ضد الدولة نفسها. وكان ذلك يُعد نوعا جديدا من الحروب، التي تسمى حروب الجيل الرابع، التي استخدمت فيها التكنولوجيا في طمس الفروق بين الحرب والسلام، وبين العسكريين والمدنيين، وتحول فيها الهدف من القضاء على الدولة إلى شل حركتها ودفع سكانها إلى الصراع المستمر والتآكل الذاتي. وذلك عبر السيطرة على المعلومات واستخدام المدروس منها عبر شبكات التواصل لتحقيق ذلك، ناهيك عن الاستحواذ على عملية صنع القرار واتخاذ الإجراءات داخل دورة صنع القرار في هذه الدولة.

الصحوة الوطنية

الملفت للنظر أن الجماهير المصرية أدركت بفطنتها في ذلك الوقت أنها ليس أمام ثورة كما هُيئ لها، بقدر ما أنها باتت أمام عملية استدراج للانتحار القومي ودفع البلاد إلى مربع الاستهداف المدمر. ومن هنا تبلورت فكرة ثورة 30 يونيو لاسترداد الذات والإمساك بالوطن. ولكن بوعي شعبي ومنطق وطني فريد. خاصة بعد أن أيقن الشعب المصري كله أنه اُستدرج إلى فخ الثيوقراطية، بعد أن انطلت عليه شعاراته الزائفة. ولكنه سرعان ما اكتشف أن جماعة الإخوان ينوون فرض سلطتهم المطلقة على الدولة ويزمعون السيطرة الدائمة عليها، باسم شرعية صناديق الاقتراع التي زعموها. على الرغم من أنهم عجزوا عن تحقيق مطالب الشعب التي خرج من أجلها.

ومن ثم، لم تتردد جموع الشعب على اختلاف أعمارها وتنوع انتماءاتها، للخروج إلى شوارع مدن الحضر وأزقة قرى الريف عن بكرة أبيها للمطالبة بإسقاط الرئيس الإخواني وجماعته. وعلى الرغم من أن هذه المطالبة كانت بمثابة انتحار سياسي، أو مغامرة محفوفة بالمخاطر وإهدار الدماء في ذلك الوقت؛ بسبب تهديدات جماعة الإخوان الإرهابية المستمرة. إلا أن عزيمة الشعب وإرادته تزداد يوما بعد الآخر على الإطاحة بهذه الجماعة التي وصلت إلى السلطة في غفلة من الزمن. كأنها اعتراف شعبي بخطأ، أو إن شئت قل خطيئة فتح المجال أمام جماعات الإسلام السياسي للوصول إلى حكم مصر، ولابد من الرجوع عنه وإصلاح ما أسفر عنه، مهما كانت المخاطر والتضحيات.

ال٣٠ من يونيو

لقد وجد الشعب المصري، في أقل من ثلاث سنوات، أنه أصبح داخل دائرة عدم استقرار، ولكن لم تمض سنة واحدة على تولي محمد مرسي الحكم، حتى انتفض الشعب المصري ضده بعد أن أيقن أنه غير جدير بحكم دولة في حجم مصر ومكانتها، وانتفض ضد جماعته التي أرادت استلاب الوطن وتزييف ذاته وتغيير هويته. لقد أثبت الشعب بهذه الانتفاضة التاريخية أمام العالم أجمع أنه بحق هو المناضل والبطل، وأنه استدعي قواته المسلحة لمساندته في هذه المهمة الوطنية والتخلص من تلك الملمة الإخوانية، وأنشده الوطن في حماية مصر ممن أرادوا استلابها.

لقد كان الشعب المصري متيقنا بيقظة أبنائه وهمة أفراده، من قدرة جيشه على تحمل المسئولية وتجشم المشاق، ومواجهة التحديات ومناوأة دفع مصر إلى دائرة الفوضى والدمار. وأن هذا الجيش سوف يسارع لتلبية النداء وتحقيق للشعب إرادته. وهو الأمر الذي حدث في الثلاثين من يونيو، بزعامة عبد الفتاح السيسي، ليصبح ذلك اليوم وسام على صدر الوطن، ومعبرا عن التمازج والتلاحم بين جيش مصر وشعبها، وتجسيدا لقوة الإرادة والعزيمة على الانحياز للوطن والانتصار له.

وهنا أصبح لزاما على التاريخ أن يكتب بكل إجلال وتقدير أن مصر انحازت، شعبا وجيشا إلى الحداثة، وأنها قادرة على تحقيق أهدافها وأمانيها، مهما كانت التضحيات. وأنه إذا كان الجيش قد استدعى الشعب لمساندته في ملحمة السادس من أكتوبر 1973م، وقدم الشعب لمصر أعز أبنائه جندا مقاتلا، حتى توج الله هاماتنا بأكاليل النصر، واستقبل طلائع النصر العائدة من جبهات القتال بالورود وأهازيج النصر والزغاريد المشحونة بدموع الفرحة والألم. فإن الشعب قد استدعى الجيش في يونيو 2013م، ليرد له ذاته ويعيد إليه وطنه. ولما لا وكل أبناء مصر جنود، وكل جنودها فداء للوطن.

إن مصر التي تحتفي اليوم بثورة الثلاثين من يونيو، سوف تظل حفية بأبطالها وشهدائها على مر التاريخ. حتى يستلهم أبناؤها، جيلا بعد جيل، العبرة والدرس في حماية الوطن ودرء الغريم عنه، حتى وإن توشح بالتدين الزائف. وأن تتمثل هذه الأجيال البطولات وتعتز بالانتصارات، وتظل على العهد وفية لمصر، لا تفتر لها عزيمة، ولا تخبوا فيها همة، متمسكة بالعلم والعمل والطموح والأمل، في بناء مستقبل مشرق زاهر، مهما كانت الظروف ومهما كانت التضحيات.

وها هي مصر تنطلق اليوم، بسواعد أبنائها، جيشا وشعبا، نحو المستقبل، تبني المدن، وتشق الطرق وتمد الجسور، وتشيد المصانع وتستصلح الأراضي وتوسع الرقعة الزراعية، وتقيم المدارس والجامعات والمستشفيات، والمساجد والكنائس؛ وتطلق المبادرات المختلفة لضمان صحة المصريين والحياة الكريمة لهم، وتجري تطويرا شاملا لبنيتها برا وبحر وجوا؛ كي تنتقل إلى عصر جديد عنوانه الجمهورية الجديدة التي تسودها العدالة والسماحة والتسامح والوسطية، ويعمها العلم والعمل والرغبة في بناء المستقبل لكل مصري ومصرية يعيشون على أرضها أو يجوبون العالم سيعا للرزق أو بحثا عن العلم.

جاءت ثورة 30 يونيو لاسترداد الذات والإمساك بالوطن، بوعي شعبي ومنطق وطني فريد، بعد أن أيقن الشعب المصري أنه اُستدرج إلى فخ الثيوقراطية

لم تمض سنة واحدة على تولي محمد مرسي الحكم، حتى انتفض الشعب المصري ضده بعد أن أيقن أنه غير جدير بحكم دولة في حجم مصر ومكانتها

تجري مصر اليوم تطويرا شاملا لبنيتها برا وبحر وجوا؛ لتنتقل إلى عصر جديد عنوانه الجمهورية الجديدة التي تسودها العدالة والسماحة والتسامح والوسطية

أخبار الساعة

الاكثر قراءة