الأحد 5 اكتوبر 2025

مقالات

النصر وتفجر ينابيع الإبداع في القصة والرواية


  • 5-10-2025 | 12:34

أيمن رجب طاهر

طباعة
  • أيمن رجب طاهر

لا شك أن حرب أكتوبر كانت انتصارًا لا عسكريًا فحسب، بل نفسيًا للإنسان العربي والمقاتل المصري على نفسه وأوهامه وما صُنع من أساطير حول الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، بعد أيام اليأس الحالكة بنكسة يونيو 67، فعبرت القوات المسلحة المصرية العائق المائي، وتجاوزت خط بارليف المنيع، وقد قيل وقتها إن القنابل الذرية لا يمكنها هدمه، وتسلقت الساتر الترابي الهائل في حرب تميزت بالسرعة والدهاء والمفاجأة. انعكس ذلك على الأدب المصري بشكل شديد الوضوح، وكشفت الحرب عن المعدن الحقيقي للمقاتل المصري، وعائلته التي عانت التقتير وشظف العيش من أجل إعداد البلاد للحرب، منتظرين فرصة مواتية للثأر من عدو اغتصب الأرض وخلف شهداء روت دماؤهم الرمال. هذه الانتصارات الملهمة لقرائح الكُتّاب والمبدعين أفسحت المدى الواسع للإبداع وأفرزت العديد من الأعمال الإبداعية الخالدة، وقد كُتبت عن حرب أكتوبر أعمالٌ أدبية، قصةً وروايةً، حققت نوعًا من الوفاء لهذا النصر بمقدار كبير.

وفي الذكرى الثانية والخمسين لانتصار أكتوبر العظيم نتناول بعضًا من الأعمال الإبداعية التي عكست وقائع النصر المجيد.

فإذا كانت رواية الرفاعي الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الأعمال الكاملة 1993، وعن دار الشروق في طبعة تالية، هي الرواية المَعْلَم للكاتب الكبير جمال الغيطاني في تناولها بطولات العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي، مؤسس وقائد المجموعة 39 قتال، المجموعة الاستثنائية في تاريخ العسكرية المصرية، والتي تحكي عن الرفاعي ورفاقه، وتشبه حكاية أبطال قاموا بملحمة كبرى غيرت تاريخ المنطقة، والتي قُدّر للمؤلف جمال الغيطاني أن يقترب منها ويعايش أفرادها وأعمالهم القتالية عن قرب بوصفه مراسلًا حربيًا على الجبهة،

فإن قصة حكايات الغريب بالمجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم، طبعة مكتبة الأسرة 2000م، تحمل بين طياتها دلالات رمزية تناولت المواطن المصري البسيط الأسطى عبد الرحمن محمود، سائق سيارة نقل فورد موديل 1956م، ولهذا التاريخ دلالة رمزية في الذاكرة الجمعية للمصريين، بوصفه نضالًا عظيمًا تحمله الشعب المصري جراء العدوان الثلاثي، والذي خرجت منه مصر منتصرة على أعتى الدول في ذلك الحين، مستعيدة. هذا السائق عبد الرحمن من واقع ملفه الوظيفي توجد شهادة حسن سير وسلوك بتاريخ 1/8/1967م، ودلالة رمزية أخرى تُشي بتعافي الشعب المصري بقدر كبير من صدمة نكسة 5 يونيو، والتي ترجمتها معركة رأس العش جنوب بور فؤاد في مستهل يوليو 67، وزاد تأكيد تعافي الجيش المصري حين قامت البحرية المصرية بأكبر مواجهة بحرية وهي ضرب وتدمير وإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات أمام بورسعيد في 21 أكتوبر 67.

ودلالة رمزية ثالثة، وهو أن السائق عبد الرحمن دخل السويس بعربة رقم (67073)، فرقم السيارة أيضًا ذو دلالة: أن ما بين 67، 73 لا يوجد سوى صفر زمن، وقد انمحت سنوات الألم العجاف على المصريين، وبدأ التاريخ يطرّز أروع ملحمة للنصر في السادس من أكتوبر، والتي شارك فيها سائق عربة المؤسسة كل طوائف المقاومين سواء عند الهاويس أو في منطقة الجناين ومعركة كوبري الزراير.

وكل من قابله وصفه بأنه كان كثير الحركة، لا ينام، يقف خلال نوبات الحراسة، يحفر الخنادق، ينقل العوائق من أحجار وعربات معطلة ليسد الطريق، يحفر آبارًا للمياه، يؤذن للصلاة، ينشد المواويل أثناء ليالي الحصار، يتبرع بدمه، يتسلل خلف خطوط العدو ويعرف مواقعه ومرابض مدرعاته ومدفعيته، بل وأقسمت امرأة على وشك المخاض أنها كادت تموت من جراء ولادتها المتعسرة ودون رعاية لولا أن عاونها الغريب في استقبال مولودها. هذا المولود في خضم معركة السويس هو بداية النصر المحقق بعد وقائع حرب متعسرة.

وحين بحثت عنه اللجنة المهتمة بعربة اللوري الخاصة بالمؤسسة لم يجدوا شيئًا، وكل ما دُوّن في تقاريرهم بأن السائق عبدالرحمن محمود أو كمال أو خلف، كما روى كل من تعامل معه، قد مات. ولا يدري الأستاذ الجوهري رئيس اللجنة كيف يقنع المؤسسة بموته ومنحه حقوقه، وأن هذا لشرف للمؤسسة، ولكن ما الذي يثبته وأين الأدلة؟

قصة نوبة رجوع

للكاتبة انتصار عبد المنعم، بالمجموعة نفسها التي تحمل عنوان القصة، والصادرة عام 2011م عن دار الكفاح للنشر والتوزيع، سلسلة القصص العربية بالسعودية، تُلقي فيها بظلال الهزيمة القاسية في مشهد بالغ التأثير من تحلل الأجساد بالرمال، وهياكل العظام منغمسة في دوامة النسيان الصحراوية، ولا أمل في خروج. وحين بزغ ضوء بعيد سمعوا أصوات نحيب وأسلاكًا شائكة وأناسًا بلا أذرع وسيقان، والجماجم خاوية. ذلك هو تيه الهزيمة المحفورة في ذاكرة أمة بأسرها، ولا أمل للعائدين من جبهة القتال، يواصلون التقهقر، وصوت الأبواق يئن مطالبًا بنوبة رجوع طويلة يبحث فيها عن أرواح ترفض العودة.

ومع هذا الرفض للعودة تلمح الكاتبة في قصتها إلى الفعل المقاوم الرافض لواقع الهزيمة، والباحث عن سبل للخلاص من ربقة الذل. واكتفت الكاتبة بهذه النهاية المفتوحة، وكأن لسان حالها يقر بأن كل وقائع النصر التاليات هي انعكاس الأمل في النصر المحقق.

رواية بدر 73 سري للغاية

للروائي والقاص شحاته عزيز جرجس، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الإبداع العربي 1986م، والتي أهداها لكل أبطال أكتوبر الذين حققوا أروع الانتصارات العسكرية عبر التاريخ.

قسم المؤلف الأستاذ شحاته عزيز روايته إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول (الأنواء):

وبداية أحداث بطل الرواية جلال الدين عام 72، وما بها من مظاهرات ومطالبات بحرب تحريرية تنتزع زهو نصر العدو الإسرائيلي المزعوم، وتثأر لشهداء الغدر، هاتفين: لا للاستسلام، لا للانهزامية، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة. وانتهج هذا الجزء الأنواء التي حاقت بالشعب المصري طوال سنوات النكسة.

القسم الثاني (المخاض):

والذي قدّم له بمقتطف من قصيدة الشاعر درويش الأسيوطي:

المخاض

محبوبتي توثبت في ساعة المخاض أملا...

وألمًا...

ولم تزل ولحظة الميلاد في الغيوم حلمًا...

تشتاق للوليد...

عظمًا...

وعروقًا ودمًا...

محبوبتي...

واستنهضت من عتمة الرفض بقلبي نغمًا...

وقد ترجم المؤلف هذا الشعر بإفراد مساحة لأحداث الرواية للمجند مؤهلات جلال الدين محمود سيد، سلاح المشاة، من حلمية الزيتون إلى الهايكستب، والذي نحتته الفحوص ليصبح مثالًا للجندي المصقول، كامل التجهيز لخوض غمار معركة التحرير المرتقبة. ومنذ هذه اللحظة أدرك المجند جلال أنه دخل حياة جديدة مع رفاق السلاح فتحي عبد الجواد، ورمضان عبد الدايم، وعجايبي لوقا.

بداية 73 يبرز جندي إسرائيلي من على الضفة الشرقية ويصيح: عام جديد، كل سنة وأنت طيب يا مصري. وعلى الضفة الغربية كان جلال الدين في نوبة حراسته يسمع الإسرائيلي يتوعد بأن العام القادم سيكونون في القاهرة، ويرد عليه جلال الدين بأنه سيكون في القاهرة أسيرًا. ومرت أيام لا يحسن فيها المصريون غير التدبير والتدريب والتخطيط وتناول سير الأبطال، كأن روى أحد قدامى المقاتلين لجلال الدين أن جنديًا كان يتحدث بحماس والكلمات تثب بين شفتيه، وفجأة اندفعت إلى عنقه شظية وسقط الرأس فوق الرمال، والكلمة جامدة بين الشفتين، في حين ظل الجسد لبرهة منتصبًا مغروسًا بلا رأس فوق الرمال، ثم تهاوى.

مرت الأيام بهذا الثبات من قوة التدبير والتدريبات المستمرة وخطة الخداع الاستراتيجي، إلى أن حانت لحظة ميلاد النصر.

القسم الثالث (الميلاد):

وصدره بـ:

سوف أحارب العامو...

وسوف يحالفني النجاح...

أنا الحاكم الجسور في طيبة...

أنا كامس...

حامي حمى مصر...

(من نقش فرعوني قديم)

يقبل شهر أكتوبر 73، وكل شيء هادئ حد الجمود، والمجند جلال المنتمي لكتائب الفرقة الثانية في جبهة الإسماعيلية حتى الفردان في مواجهة الساتر الترابي الذي أُقيم شرق القناة، تلك الفرقة التي كانت صُرة الجبهة، أخذت تتمم معداتها والقوارب المطاطية، منتظرين ساعة الصفر. وإسرائيل في ذلك الوقت كانت في الوضع الأفضل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا، يعيشون نشوان عيد الغفران، في مقابل اعتقاد الكثيرين بأن مصر غير مؤهلة لدخول حرب في ذلك الشهر، وهو رمضان شهر الصيام.

وفي تمام الساعة 14:00 اندفعت الطائرات المقاتلة صوب الشرق، ومهندسو الحرب وقوة الصاعقة في زوارقهم الحربية نحو الضفة الشرقية يرفعون العلم المصري تحت غطاء من قذائف المدفعية، والعدو صامت، مشلول الإرادة، مغلول الكبرياء، مهدور الكرامة. والمجند جلال الدين كغيره يضرب بالمجذافين مياه القناة ليعبر بالقارب المطاطي إلى الضفة، حتى إن القائد جونين هتف لانزعاج: "إنهم يعبرون على امتداد القناة كلها... نحن لا نعرف اتجاهات الهجوم الرئيسية...".

وأيام الملحمة تتوالد، محققة أكبر عملية للنصر في المنطقة. وكان جلال في ذلك الوقت يرقد في مستشفى القصاصين بغير ذراع، ونُقل إلى القاهرة لاستكمال مراحل العلاج، وينتشي حين رُوي له حوار مع القائد العميد حسن أبو سعدة مع كولونيل عساف ياجوري قائد اللواء المدرع 190 الذي أسرته القوات المصرية. وجلال الدين يروي لعائلته كيف دمّر وحده دبابتين، ويستمع يوم 16 أكتوبر للخطاب المبشر لقائد الحرب: "لقد كان الليل طويلًا وثقيلًا، ولكن الأمة لم تفقد إيمانها أبدًا بطلوع الفجر... إن القوات المسلحة المصرية قامت بمعجزة على أي مقياس عسكري".

روايات على الجبهة السورية

رواية المرصد

للروائي العربي البارز حنا مينه، فقد كتب حنا مينه رواية تأسيسية بالغة القوة في أكثر من 300 صفحة، وهي رواية المرصد. والمرصد موقع بالغ التحصين، بنته إسرائيل على قمة مرتفعة في جبل الشيخ (كناية للرأس المكلل بالثلج كما يكلل الشيب رأس الإنسان)، يكاد يكون من الاستحالة الوصول إليه فضلًا عن اقتحامه. لكن جنود المشاة على الجبهة السورية فعلوا هذا المستحيل، وعاشوا لحظة النصر بإنزال العلم الإسرائيلي. وعندما بدأوا باستكشاف المرصد وجدوه زاخرًا بالأجهزة التقنية، وكانت المفاجأة بعد سلسلة من الاقتحامات لطوابق المرصد أنهم وجدوا جنودًا إسرائيليين فقدوا ثقتهم بأنفسهم فاختبأوا، والرعب يملأ قلوبهم على الرغم من أنهم كانوا مدججين بعتادهم الكامل.

كان لانتصار السادس من أكتوبر 1973م أكبر الأثر في الأديب العربي، فقد نفض عن نفسه تلك الصفة التشاؤمية طيلة ستة أعوام، حيث سادت سوداوية المستقبل. لكن ظهرت بعد الحرب المجيدة تلك الكتابات المعبّرة عن وقائع النصر، ليس في القصة القصيرة، والرواية، والمسرح فحسب، بل والسينما، والأغنية، والموسيقى، ولوحات الفن التشكيلي، بمعنى أن النغمة الحزينة أفسحت لنمط آخر من الكتابة، عكست تلك الروح الوطنية المتوثبة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة