الثلاثاء 2 يوليو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام غروب الدولة العباسية وهجمات المغول

8-3-2017 | 12:57

بقلم –  رجائى عطية

بدأت هجمات المغول على البلاد الإسلامية، بالهجوم على الدولة «الخوارزمية»، وهى من جملة فروع الدولة السلجوقية، لأن أصل البيت الخوارزمى من مماليك أحد أمراء دولة السلاجقة، وكان أول من نبغ منهم : خوارزم شاه: « محمد بن أنوشتكين »، ويقال أحيانًا « نوشتكين »، ومضت سلسلة « الوراثة » فى دولة « خوارزم » حتى آلت سنة ٦١٧ هـ / ١٢٢٠ م إلى السلطان « جلال الدين منكبرتى » ـ حفيد « محمد بن أنوتشكين »، وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسى الرابع والثلاثين « الناصر لدين الله »، الذى امتدت خلافته من سنة ٥٧٥ هـ / ١١٧٩م ـ حتى سنة ٦٢٢ هـ / ١٢٢٥م، وإلى دولة «خوارزم» بدأت تطلعات وزحف التتر أو المغول.

والتتر باختصار شعب كبير من الأمة التركية، ويروى مؤرخو الترك ونسابوهم، أن « ألنجه خان » أحد ملوك الترك فى الأزمنة القديمة، ولد له توأمان: « تتارخان » ( وإليه ينسب التتار ) و« مغل خان » ( وإليه ينسب المغول )، وكان أولادهما فى البداية على صفاء ووداد، ثم شجر الخُلف بينهم، واشتبكوا فى حروب طويلة، انتصر فيها التتار وصارت السيادة لهم، واستعبدوا المغول طويلاً، إلى أن جمع المغول شتاتهم وقاموا بمحاربة التتر وكسروا شوكتهم، وعادت إليهم السيادة، وصار المُلْك متوارثًا فيهم إلى زمن والد « جنكيز خان » الذى ولد سنة ٥٤٩ هـ / ١١٥٤م، وكان اسمه فى الصغر
« تموجين »، وقد استضعفه المغول فى البداية لصغر سنه، ولكنه حين شَبَّ استطاع أن يضوى تحت قيادته قبائل المغول، وكثرت جموعه وعظم أمره، ودخل جميع الزعماء تحت طاعته، وحكم المغول مملكتهم الواسعة بشرعة غريبة قوامها القتل على أتفه خطأ
أو ذنب أو جريرة، ولم يكونوا على دين الإسلام.

خلاف خوارزم شاه والخليفة الناصر لدين الله

وبداية خروج المغول إلى البلاد الإسلامية

دب الخلاف بين الدولة الخوارزمية والدولة العباسية الأم، وأظهر « خوارزم شاه » الخلاف على الخليفة العباسى « الناصر لدين الله »، وقطع خطبته من بلاده، وأراد أن يذهب إلى بغداد للاستيلاء عليها.

ويتحدث المؤرخون بأن الخليفة « الناصر لدين الله »، أرسل إلى « جنكيز خان » يحرضه على خوارزم شاه والتعرض لمملكته، يريد بذلك أن يشغله بنفسه عنه، ويذكر الأستاذ محمد الخضرى أن خلفاء بنى العباس فعلوا مثل ذلك مرارًا، فهم الذين راسلوا بنى بويه ليخلّصوهم من استبداد الأتراك البغداديين وتحكمهم فيهم، وهم الذين راسلوا « طغريلبك شاه » السلجوقى ليخلّصهم من تحكم « البساسيرى» حينما أراد تحويل الدعوة إلى المصريين الفاطميين، وهم الذين راسلوا « خوارزم شاه» ليخلّصهم من السلاجقة, ولكن الفارق أن هؤلاء كانوا مسلمين فيما بينهم, أما المغول فكانوا كفارًا لا يبالون إلاَّ بأغراضهم!

وهناك من حاولوا أن يجدوا العذر للخليفة العباسى، بأنه لم يقصد سوى أن ينشغل عنه
« خوارزم شاه »، ولم يكن يظن أنه بالضعف الذى جعله يجفل أمام « جنكيز خان » , كما تجفل الحمامة من صقرها .

على أنه أيا كانت نوايا وتقديرات الخليفة العباسى « الناصر لدين الله »، إلاَّ أن ما سلكه فتح الباب لغزو المغول للبلدان الإسلامية.

الغزو المغولى

وانشغال الدولة العباسية عنه !

ولم يكن السلطان علاء الدين « خوارزم شاه » أقل حماقة من الخليفة العباسى, فأعطى المسوغ لجنكيز خان للزحف والهجوم, فقد استجاب السلطان « خوارزم شاه » لأحد ولاته بساحل نهر سيحون، الذى استولى على أموال وأمتعة وبضائع نحو أربعمائة من تجار المغول، وأرسل إلى السلطان أنهم جواسيس يتخفون فى زى تجار، فأمره بقتلهم وإرسال ما كان معهم من بضائع، وجعل « خوارزم شاه » يفرقها على تجار بخارى وسمرقند لقاء ثمنها, وزادت حماقة الشاه الخوارزمى حينما قتل الرسول الذى جاءه من جنكيز خان بطلب القصاص من الوالى، وزاد الطين بلّة بأن حشد الجنود وسار بادئًا بالعدوان حتى وصل تخوم تركستان.

جمع جنكيز جان جحافله الجرارة، وبدأ زحفه، وعبرَ نهر سيحون دون أن يجد أمامه من يصده, حتى وصل إلى « بخارى » سنة ٦١٦ هـ / ١٢١٩م , فأرسل أهلها القاضى بدر الدين قاضيجان يطلب الأمان للناس, فأعطاهم جنكيز خان الأمان, ولكنه شرط على رؤساء البلد أن يردوا أمتعة التجار التى باعهم إيّاها خوارزم شاه, ففعلوا , ثم أمرهم بالخروج من البلد مجرَّدين فخرجوا, وأعمل المغول النهب والسلب, وقتلوا من وجدوه , حتى صارت بخارى ـ المدينة العظيمة ـ خاوية على عروشها.

وزحف جنكيز خان بجحافله على « سمرقند» بعد أن تحقق له عجز السلطان علاء الدين «خوارزم شاه » عن قتاله, حتى إنه أصدر أوامره إلى جنوده بطلب السلطان الخوارزمى أينما كان، ولو تعلق بنجوم السماء، وخوارزم شاه لا يفعل سوى أن يفر مرعوبًا، فلحق بنيسابور، ولم يكد يستقر فيها حتى طار إلى « مازندران » وجنود المغول فى أثره, وجعل السلطان يهرب من مكان إلى آخر , حتى نزل إلى البحر عند مرسى على بحر طبرستان، وأبحر بالسفن حتى يئس التتار من اللحاق به، فعادوا أدراجهم، وكان هذا هو آخر العهد به .

أما « سمرقند » فقد وقعت فى أيديهم سنة ٦١٧ هـ / ١٢٢٠ م , حيث نكل التتار عن الأمان الذى أعطوه لأهلها بعد أن فتحوا لهم الأبواب وسلموهم سلاحهم وأموالهم ودوابهم، فأعملوا فيهم السيف، وقتلوهم عن آخرهم، وأخذوا نساءهم. بينما السلطان الخوارزمى ماضٍ فى فراره، والخليفة العباسى « الناصر لدين الله » مشغول بنفسه بعد أن تسبب بتحريضه فى اجتياح المغول لأطراف الدولة العباسية.

وحين ملك جنكيز خان بخارى وسمرقند، فرق عساكره للاستيلاء على الممالك، فجهز طائفة لملاحقة « خوازم شاه » الهارب، وطائفة إلى « خراسان »، وطائفة إلى بلاد
« فرغانة »، وطائفة إلى « ترمذ »، وأخرى إلى «كلاية »، فاستولت كل طائفة على ما توجهت إليه، وأعملت من القتل والنهب والأسر والسبى والتخريب والاستيلاء على النساء، ما فعلته فى بخارى وسمرقند.

فاستولى المغول أو التتار ( فقد صار المسمى واحدًا ) على « مازندران » (٦١٧هـ / ١٢٢٠م )، وعلى « بلخ »، وعلى « أذربيجان »، ثم « الكرج » معملين القتل والنهب والتخريب، ومن الكرج إلى مدينة « مراغة » (٦١٨هـ / ١٢٢١م )، ووضعوا السيف فى أهلها، ثم رحلوا منها إلى مدينة « إربل »، ثم استولى المغول على « همذان » بعد قتال مشرف لأهلها وفقيهها، خسر فيه المغول خلقًا كثيرًا، ولكنهم أحكموا فى النهاية قبضتهم على « همذان » فى شهر رجب ٦١٨هـ / ١٢٢١م، واستولوا بعد ذلك على « أردويل» وغيرها من مدن «أذربيجان »، ثم على « دربندشردان »، وهى مدينة من نواحى باب الأبواب وهو مسمّى كان الفرس يطلقون عليه اسم « الدربند »، وارتكب المغول أسوأ الأفاعيل فى « اللان » و« قفجاق »، واستولوا على « خراسان » ( ٦١٧هـ / ١٢٢٠م)، ثم « خوارزم » نفسها بعد حصار شديد سنة ٦٢٠هـ / ١٢٢٣م، وتداعت كل هذه الكوارث فى زمن ذات الخليفة العباسى «الناصر لدين الله »، الذى انتهت خلافته سنة ٦٢٢هـ / ١٢٢٥م .

سقوط بغداد

وذبح الخليفة العباسى المستعصم

بين يدى هولاكو !!!

لا تهدف هذه السطور إلى التأريخ للمغول أو لتفاصيل زحفهم وهجومهم على البلدان الإسلامية، ولا لرصد توزع وتقسيم المُلْك بين أولاد « جنكيز خان » بعد وفاته فى
سنة ٦٤٢هـ / ١٢٢٦م، فى بدايات عهد الخليفة العباسى الخامس والثلاثين « الظاهر بأمر الله » الذى تولى الحكم تسعة أشهر فقط ما بين سنة ٦٢٢هـ / ١٢٢٥م وسنة ٦٢٣هـ / ١٢٢٦م، وأعقبه الخليفة العباسى السادس والثلاثون « المستنصر بالله » الذى تولى الخلافة نيفًا وسبعة عشر عامًا، من سنة ٦٢٣هـ / ١٢٢٦م حتى سنة ٦٤٠هـ / ١٢٤٢م، ثم تولى من بعده آخر خلفاء بنى العباس فى بغداد، الخليفة السابع والثلاثون « المستعصم بالله »، الذى قتل هو ونجله الأوسط وستة من الخصيان بين يدى هولاكو فى صفر
سنة ٦٥٦هـ / ١٢٥٨م، وقُتل بعده ابنه الأكبر ومعه جماعة من الخواص على باب « كلواذى »، لتنتهى الدولة العباسية من بغداد بعد قرابة ستة قرون، وإن شئت الدقة بعد ٥٢٤ سنة بالتمام والكمال.

أوجه المأساة !!!

كانت هذه المأساة مأساةً مركبةً، أولها أن الخلفاء العباسيين الذين حدثتك عنهم : «الناصر لدين الله» و«الظاهر بأمر الله» و«المستنصر بالله» ثم الأخير «المستعصم بالله»، لم يفعلوا شيئًا لحماية الدولة العباسية، ولم يحركوا ساكنًا لصد المغول بعد أن أغراهم «الناصر لدين الله» بالتحرك ضدها لشغل منافسة السلطان الخوارزمى، ومضت كل هذه الأحداث الجسام، وسقوط بلدان ومدن الإمبراطورية العباسية تباعًا فى أيدى المغول، وإعمالهم السيف والقتل والذبح فى المسلمين، وتخريب ديارهم، واغتصاب وسبى نسائهم، دون أن يتحرك أحدٌ من هؤلاء الخلفاء للجهاد والذود عن رعاياهم من المسلمين وغير المسلمين، المفترض أن يكونوا والبلاد مكفولين برعايتهم وحمايتهم والذود عنهم !

بل وكانت المأساة أبعد وأعمق من ذلك، وقد روى ابن تغرى بردى فى النجوم الزاهرة، أنه حين استنجد أهل البصرة بالخليفة من أفاعيل المغول وتقتيلهم المسلمين وتخريب ديارهم واغتصاب وسبى نسائهم، إذ «بابن العلقمى» وزير الخليفة «المستنصر بالله» ـ يُظهر الغيرة ويبطن الشر، فيأمر أهل الكرخ الرافضة بالصبر والكف عن القتال، ويقول لهم «أنا أكفيكم فيهم»، ومع أن الخليفة «المستنصر بالله» كان قد استكثر من الجند قبل موته حتى بلغوا مائة ألف، إلاَّ أن وزيره «ابن العلقمى» كان يصانع التتار فى الباطن، ويكاتبهم ويهاديهم، فلما استُخْلف «المستعصم » بعد أبيه «المستنصر»، استغل الوزير أن هذا الخليفة كان خاليًا من الرأى والتدبير، فأشار عليه بقطع أرزاق الجند، وأنه بمصانعة التتار وإكرامهم يحصل بذلك على المراد والمقصود، ولا حاجة من ثم لكثرة الجند وتحمّل أعباء أرزاقهم، ففعل «المستعصم» ما أراده عليه الوزير !!!

ثم إن هذا الوزير كاتَبَ بعد ذلك التتار سرًّا، وأطمعهم فى البلاد، وأرسل إليهم غلامه وأخاه، وزَيَّنَ لهم وسَهَّل عليهم فتح العراق وأخذ بغداد، طالبًا منهم أن يكون نائبهم بالبلاد، فوعدوه بما أراد، وتأهبوا للزحف على بغداد، وطلبوا من «لؤلؤ» صاحب الموصل، وهو ابن عبد الله النورى الملك الرحيم بدر الدين أبى الفضائل الأرمنى الأتابكى صاحب الموصل، لتهيئة الإقامة للمغول، وتوفير السلاح لهم.

ومع أن «لؤلؤ» كاتَبَ الخليفة سرًّا وحَذَّره، إلاَّ أنه لم يمتنع أو يتراخى فى أن يهيئ للمغول الآلات والإقامات، بينما طفق الوزير «ابن العلقمى» يمعن فى فرض وصايته على الخليفة «المستعصم» الضعيف الرأى والتدبير، ومَنَعَ توصيل المكاتبات إليه، سواء مكاتبات «لؤلؤ» صاحب الموصل، أو مكاتبات غيره، فكان يقرأها هو ويجيب عليها بما يريد، وحَجَبَ الأخبار والنصائح عن الخليفة الذى كان ممعنًا فى سباته، وبرغم أن «تاج الدين بن صلايا» نائبه فى «إربل» حَذَّره هو الآخر، وجعل يحرك عزمه الخامد، إلاَّ أن الخليفة كان لا يستيقظ ولا يتحرك !!!

فلما حَمَّ القضاء، وتَبَدَّى واضحًا زحف التتار، وتحقق الخليفة مما كان عنه غافلا أو متخاذلا، سَيَّر إليهم «شرف الدين عبد الله بن محيى الدين يوسف» ابن عبد الرحمن الجوزى ـ رسولاً ليَعِد التتار بأموال عظيمة، وسيَّر «شرف الدين» من جانبه مائة رجل إلى «الدربند» ليكونوا مقدمةً تُطلع الخليفة على الأخبار، إلاَّ أن الأكراد الذين كانوا هناك دلُّوا التتار عليهم، فقتلوهم عن آخرهم، قبل أن يُسْمع منهم أى خبر !

كان ناتج كل هذه التراكمات المتخاذلة، أن انكسر البغداديون أمام هجمات المغول بقيادة « هولاكو »، فأخذتهم السيوف، وغرق بعضهم فى مياه دجلة، وهرب كثيرون، ونزلت مقدمة هولاكو بقرية مقابل دار الخلافة على الضفة الأخرى من نهر دجلة، وقصد هولاكو بغداد من البر الشرقى، وضرب سورًا وخندقًا على عسكره، وأحاط ببغداد.

هنالك تابع الوزير الخائن « ابن العلقمى » خياناته، فاقترح على الخليفة « المستعصم » أن يصانعهم، وزَيَّنَ له أن يخرج إليهم وهو ضامن للصلح معهم، واجتمع هذا الوزير بهولاكو، وأخذ المواثيق منه لنفسه، ثم عاد إلى الخليفة بأن ملك المغول يرغب فى أن يزوج ابنته بالأمير أبى بكر ابن الخليفة، وعلى وعدٍ بأن يبقى على منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم فى سلطنته، ولا يطلب منه إلاَّ أن تكون الطاعة له، وجعل هذا الوزير يزَيِّن ذلك للخليفة، بأن هولاكو سوف ينصرف عنه بجيوشه، وأن فى ذلك حقنًا لدماء المسلمين، وجعل يلح عليه فى أن يخرج للقاء ملك المغول، حتى وصل إلى بغيته.

خروج الخليفة للقاء هولاكو

وقتله بين يديه

خرج «المستعصم» بناء على مشورة وزيره «ابن العلقمى» فى جَمْعٍ من الأعيان من أقاربه وحواشيه وغيرهم، فلما توجه بهم إلى هولاكو، لم يجتمع به وإنما أنزله فى خيمة ؛ ثم أن الوزير «ابن العلقمى» ركب بإذن هولاكو عائدًا إلى بغداد، حيث استدعى الفقهاء والأعيان والأماثل، ليحضروا عقد زواج بنت هولاكو على ابن الخليفة، فخرج أولئك من بغداد إلى هولاكو ليحضروا القران، ولكنه أمر لفوره بضرب أعناقهم جميعًا !!

مُدَّ الجسر بعد ذلك إلى بغداد، حيث أعمل المغول سيوفهم فى البغداديين، واستمر القتل والنهب والسبى فى بغداد بضعة وثلاثين يومًا، فلم ينج إلاَّ من هرب أو اختفى، وبلغ القتلى مئات الألوف، كما حُرقت مكتبة بغداد بما فيها من نفائس الكتب وكنوز التراث !!

أما الخليفة «المستعصم»، فقد جىء به ومع ابنه الأوسط إلى هولاكو، فأمر بقتله خنقًا، وقيل إنه غُمَّ فى بساط وداسته أرجل الخيل حتى مات، وقيل إن هولاكو جعله هو وولده فى عِدْلين وأمر برفسهما حتى ماتا، وبقتل الخليفة «المستعصم» انقضت الخلافة العباسية ببغداد، والتى استمرت ٥٢٤ سنة، وجرى على بغداد ما جرى على سواها من أمهات المدن الإسلامية التى استبيحت، وقُتل معظم أهلها، وسُبيت واغتُصبت نساؤها، ولم ينج إلاَّ القليل، ولم تعد بغداد عاصمة للمسلمين.

محاولات إحياء الميت

جاءت أكثر دلالة على موته !!

لا شك أن عوامل زوال الخلافة العباسية جديرة بالدراسة والنظر والتأمل، مثلما كانت عوامل زوال الخلافة الأموية، وربما الأجدر أن تأتى هذه الدراسة والتقييم فى الختام.

وقد يخيل للبعض أن الدولة العباسية لم تنقض بالاستيلاء على بغداد، وقتل الخليفة العباسى الأخير «المستعصم» بين يدى «هولاكو» ملك المغول، تحت تصور أن
هذه الخلافة العباسية قد أعيدت إلى الوجود بالقاهرة، بعد أكثر من سنتين من انقضائها فى بغداد.

وقد كان ذلك يمكن أن يكون صحيحًا لو أن الخلافة العباسية تم إحياؤها بالفعل بعد زوالها، بينما تشهد تولية الخلفاء بالقاهرة، على أن الميت لا يُبعث مرة ثانية إلى الحياة، وأن ما جرى بالقاهرة فى إطار هذا السعى، إنما كان لأغراض ومآرب عرضية بررت استيجادًا مظهريًّا لخلافة شكلية لا علاقة لها فى الواقع بالخلافة، وإنما هى تسديد مظهرى خالٍ من المعنى، ولم يُعد ذلك إلى الوجود الخلافة العباسية، بل كان أكثر دلالة على أن
ما انقضى لا يعود، وعلى أن الميت لا يُبعث ثانيةً إلى الحياة !

الظاهر بيبرس

وغرضه من الخلافة !!

كان الظاهر بيبرس بحاجة إلى شرعية ـ ولو شكلية ـ يلتحف بها بعد أن قفز إلى دست الحكم بقتله السلطان المظفر «قطز» صاحب الدور العظيم فى صد المغول، الذين كانت طلائعهم قد وصلت إلى غزة، وبعثوا برسلهم للتهديد، فبادر «قطز» بالقبض عليهم، وعلق رءوسهم بعد قتلهم على «باب زويلة»، وأرسل الظاهر بيبرس «ليتجسس أخبار التتار» عند غزة، ولحق به سيف الدين «قطز» نفسه على رأس جيش كبير من المصريين لصد التتار، وجعل على مقدمته الظاهر بيبرس، حيث أنزلت الهزيمة عند غزة بالقائد المغولى «بيدرا»، وليقود «قطز» معركة «عين جالوت»، ويحقق فيها نصرًا مؤزَّرًا فى رمضان ٦٥٨ هـ / سبتمبر ١٢٦٠ م ـ أدى إلى انحسار زحف المغول على الشام ومصر، فصار «قطز» صاحب مجدٍ لا ينازع فيه أحد، بيد أن الخُلف وقع بينه وبين الظاهر بيبرس الذى خاب رجاؤه فيما كان يأمل أن يولّيه «قطز» إياه، فدبر مؤامرة مع زملائه من المماليك البحرية لقتل قطز والتخلص منه، وأثناء العودة من رحلة صيد، أظهر بيبرس أنه يريد تقبيل يد «قطز» شكرًا له على إهدائه امرأةً من سبى التتار، وكانت هذه هى الإشارة المتفق عليها مع المتآمرين معه، وقبض بيبرس على يد قطز ولم يطلقها ليمنعه من الحركة والدفاع عن نفسه، بينما انهال عليه بقية أمراء البحرية بسيوفهم ورماحهم حتى أجهزوا عليه.

القاتل سلطانًا محل القتيل !

آلت السلطنة، بعد قتل قطز، إلى قاتله بيبرس، صاحب الفكرة والتدبير وأقوى الأمراء البحرية، واستقر الظاهر ركن الدين بيبرس فى موقعه راضيًا مزهوًّا، إلاَّ أن نفسه كانت تحدثه بما علق بأذهان الناس عن اغتياله لسيف الدين قطز، والقفز من بعده على موقعه بالسلطنة، ومن ثم كان يحتاج إلى مشروعية ـ ولو شكلية ـ تضفى عليه ما سحبه منه مؤامرة وحادث الاغتيال !

ولذلك بادر بيبرس إلى استدعاء الأمير «أبى العباس أحمد» ليتولى الخلافة فى القاهرة، غير أنه لم يحضر، وسبقه إلى القاهرة الأمير «أبو القاسم أحمد» بعد فراره من وجه التتار المتغلبين فى بغداد.

وكان هذا الأمير هو القشة التى أراد الظاهر بيبرس أن يتعلق بها، فأعد له استقبالاً حافلاً خرج فيه بنفسه للقائه فى ٨ رجب سنة ٦٥٩ هـ / ١٢٦٠ م، وترجل إظهارًا لإجلاله ـ المفتعل ـ له، وركب معه إلى القلعة، حيث تأدب فى محضره، ولم يجلس على مرتبة أو كرسى، وعقد مجلسًا بعد أسبوع فى قاعة الأعمدة بالقلعة، دعا إليه القضاة والعلماء والأمراء وشيخ الإسلام «عز الدين بن عبد السلام»، وسائر أرباب الدولة والعرب الذين قدموا إلى مصر، لإثبات نسب هذا الأمير، وتقرير بيعته للخلافة، وانتهى هذا الاحتفال بتنصيبه بلقب الخليفة «المستنصر بالله»، وهو أول الخلفاء العباسيين بالقاهرة، وإن حلا للبعض عدّه الخليفة الثامن والثلاثين فى سلسلة الخلفاء العباسيين، تمسكًا بأن الخلافة العباسية لم تنقض، ولا تزال قائمة.

خلافة شكلية

أقرب لخيال المآتة !!!

يخرج بيان واقع هذه الخلافة بالقاهرة ـ عن أغراض ومقاصد هذه السطور، إلاَّ بالقدر الدال على أنها كانت خلافة شكلية مظهرية، لا يربطها بمفهوم الخلافة التى كانت أى رابط.

ويبدو أن بيبرس ضاق بمزاحمة وجود الخليفة له بالقاهرة، فأغراه بالتوجه إلى بغداد لإحياء الخلافة العباسية هناك، إلاَّ أن البعض حذره من أنه إذا استقر أمره فى بغداد ـ يمكن أن ينازعه ويخرجه من مصر، فخاف بيبرس عاقبة الأمر، ولم يجهز الخليفة إلاَّ بثلاثمائة فارس، ليحدث المتوقع، وتحيط بهم جنود التتار، حيث قتلوا معظمهم، ولم ينج سوى الأمير «أبى العباس أحمد» ونحو خمسين فارسًا، أما الخليفة «أبو القاسم المستنصر بالله» ـ فلم يقف له أحد على أثر !

وسرعان ما تبددت الأحزان التى أظهرها بيبرس على ما لحق بالخليفة، فبايع مكانه
«أبا العباس أحمد»، ولقبه «بالحاكم بأمر الله» أمير المؤمنين، وهو الثانى فى خلفاء القاهرة، والتاسع والثلاثون فى سلسلة خلفاء بنى العباس.

وفرض الظاهر بيبرس على هذا الخليفة أن يقتصر على الأمور الدينية دون سواها، وضيَّق على أى سلطة له، فلم يعد له سوى ذكر اسمه فى الخطبة، وظل فى الخلافة حتى توفى سنة ٧٠١ هـ / ١٣٠١م، عاصر فيها سلطنة بيبرس وابنيه بركة خان وسلامش، وقلاوون وابنيه خليل والناصر محمد فى سلطنته الأولى، وكتبخا ولاجين والناصر محمد فى سلطنته الثانية، وكانت مدة خلافته أربعين سنة، ظل فيها مقيمًا كالسجين بالبرج الكبير فى قلعة الجبل ثم بقصر «مناظر الكبش» لنحو ثلاثين سنة من مدة خلافته !!!

بعده وضعوا محله ابنه «أبا الربيع سليمان» فى جمادى الأولى ٧٠١ هـ / ١٣٠١م، ولقبوه «بالمستكفى بالله»، وأمره «السلطان الناصر» أن يقيم فى قصر الكبش، وفرض له ما كان يُعطى لأبيه من رواتب وميرة، ثم أمعن السلطان فى الحد من حريته، فأمر برحيله فى أواخر سنة ٧٣٧هـ / ١٣٣٦م إلى مدينة قوص، وبقى فيها إلى أن توفى .

وبموت «المستكفى»، ولّوا محله «الخليفة إبراهيم» ولقبوه «الواثق»، وكان متصفًا بسوء التدبير، وانصرف إلى اللهو واللعب ومخالطة السفلة، وكان يستدين المال ولا يرده إلى دائنه، وقرر السلطان الناصر بالاتفاق مع قاضى القضاة ـ رفع اسمه من الخطبة, وانقطع ذكر أسماء الخلفاء على المنابر, أو الدعاء لهم فى المحاريب.

وأمر السلطان الناصر عند دنو أجله ـ بتحويل الخلافة إلى «أحمد» ابن الخليفة المستكفى، فلما ولى «أبو بكر بن الناصر» سلطنة أبيه، نَفَّذ وصيته, ووضع بالخلافة «أحمد بن المستكفى» محل «الواثق»، فلما مات «أحمد بن المستكفى», اجتمع القضاة والأمراء والأعيان, بأمر الأمير شيخو أتابك العساكر وصاحب السلطة الفعلية فى الدولة, ووقع اختيارهم على أخيه «أبى بكر بن المستكفى» فبايعوه سنة ٧٥٣ هـ / ١٣٥٢ م , ولقبوه «المعتضد بالله» وكنيته أبو الفتح، وبوفاته سنة ٧٦٣ هـ /١٣٦١ م، تولى من بعده ابنه محمد, بلقب «المتوكل على الله»، وكانت خلافته مليئة بتقلبات دالة على هوان الخلافة فى نظر الناس، فقد تآمر بعض الأمراء على قتل السلطان الأشرف أثناء الحج, وفى نيتهم أن يجعلوا للمتوكل عرش السلطنة إلى جوار الخلافة، إلاَّ أن السلطان الأشرف عاد خلسة إلى القاهرة, فلم يتمكن الأمراء من تنفيذ ما اعتزموه, فلما قتل الأشرف بعد ذلك،عاود الأمراء عرض السلطنة على «المتوكل» فأبى، ومع ذلك قام الأمير «أينبك البدرى» بعزله من الخلافة، وأمر بنفيه إلى قوص، ثم اختار عباسيًّا آخر يُدعى «زكريا», فأقامه خليفة فى سنة ٧٧٩هـ / ١٣٧٧ م بغير مبايعة ولا إجماع، ولقبه «بالمستعصم بالله»، بيد أن بعض الأمراء تشفعوا فى «المتوكل» لدى الأمير «أينبك»، فاكتفى بخلعه، وعدل عن نفيه فى قوص، فلما عاود الأمراء الإلحاح على الأمير بردِّهِ إلى الخلافة، أعاده إليها وعزل المدعو «زكريا» الملقب بالمستعصم، والذى لم تستمر خلافته إلاَّ خمسة عشر يومًا !!!

ولكن الخليفة «المتوكل» ما لبث أن عُزل سنة ٧٨٥هـ / ١٣٨٣م على يد
«برقوق» مؤسس دولة المماليك البرجية، وحبسه بقلعة الجبل، وعَيَّنَ مكانه أخا
«زكريا» الذى ولى الخلافة أسبوعين، فاستمر فى منصبه إلى جمادى الأولى سنة ٧٩١هـ / ١٣٨٨م، حيث ندم السلطان «برقوق» على ما فعله «بالمتوكل»، فأعاده إلى كرسى الخلافة وخَلَعَ أخا « زكريا »، واستمر «المتوكل» فى الخلافة إلى أن مات سنة ٨٠٨ هـ / ١٤٠٥م، فكانت مدة خلافته خمس وأربعين سنة بين هذه التقلبات والخلع والحبس والنفى والإعادة، وتلاه على نفس هذا الشكل الهزيل، «المستعين بالله أبو الفضل بن المتوكل» ( ٨٠٨هـ / ١٤٠٥م ) ثم «المعتضد بالله أبو الفتح داود» (٨١٦هـ / ١٤١٣م)، ثم «المستكفى بالله أبو الربيع سليمان» (٨٤٥هـ / ١٤٤١م)، ثم «القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة» ( ٨٥٤ هـ / ١٤٥٠ م ) , ثم «المستنجد بالله أبو المحاسن يوسف» (٨٥٩ هـ / ١٤٥٤ م) , ثم «المتوكل على الله عبد العزيز أبو المعز يعقوب» (٨٨٤ هـ / ١٤٧٩ م) , ثم «المستمسك بالله أبو الصبر يعقوب» ( ٩٠٣ هـ /١٤٩٧ م )، ثم «لمتوكل على الله» (الثالث) محمد بن المستمسك» (٩٢٢ هـ /١٥١٦ م)، والذى ظل متبوئًا هذه الخلافة الشكلية القعيدة الهزيلة, حتى الفتح العثمانى لمصر بقيادة سليم الأول بن بايزيد سنة ٩٢٣ هـ / ١٥١٧م، ولا شك أن هذه الخلافة الظاهرية الشكلية الهزيلة أكثر دلالة على إخفاق هذا النظام الوراثى البعيد حقيقةً عن الإسلام وعن مبادئ الإسلام فى البيعة والشورى والمساواة، وأكثر دلالةً على التواء أغراض هؤلاء المتطلعين المتسابقين على أى «صدارة» مهما كانت مهيضة هزيلة !!

ذلك أنه إذا كانت أغراض الظاهر بيبرس، ومن حذا حذوه من أمراء وحكام المماليك، أن يستخدموا هؤلاء العباسيين الهُمَّل، لاتخاذ خلافةٍ شكلية ستارًا أو غطاءً لأغراضهم الخاصة، وليضفى على حكمهم شرعية، فماذا كانت ذريعة هؤلاء العباسيين لقبول هذا الهوان، وأن يكونوا مجرد أدوات أشبه بخيال المآتة، على حساب الشرف والوقار واحترام النفس، وليلبوا بهذه المهانة مآرب هؤلاء المماليك الذين يتخذونهم ستارًا شكليًا، ويجرعونهم من الإذلال والضعة ما لا يقبله الكريم !!

ظنى أن هذه الصفحة هى أسوأ الصفحات التى سطرت فى تاريخ الخلافة، وحملت أدلة اليقين على فساد وتهالك هذا النظام الذى لم يتضمن حقيقةً مبادئ وقيم الإسلام.

أما الدولة العثمانية التى حلا لها منذ السلطان سليم الأول استعارة الخلافة للالتحاف بها، فسوف نختم بها هذا الحديث، فقد فاضت فيها بحور الدماء المراقة ـ أنهارًا !! ـ على جدار السلطة، حتى طالت الإخوة والأبناء فى أبشع صورها، إلى أن انتهت الدولة بإلغاء الخلافة فى ٢٦ رجب ١٣٤٣ هـ / ٣ مارس ١٩٢٤م !