بقلم – نبيل فرج
«على هذه الأرض ما يستحق أن نعيش من أجله»
للمحافظة على الثقافة الفلسطينية خلال الأعوام المائة الماضية، من ١٩١٧ إلى اليوم، عقدت وزارة الثقافة الفلسطينية فى العاصمة الأردنية عمان، فى التاسع عشر والعشرين من شهر يناير الماضي، مؤتمرًا عن روَّاد هذه الثقافة الإنسانية، التى لمعت بأسماء عدد كبير من المبدعين فى كل الفنون الأدبية، كما تلمع النجوم فى السماء، على أن يحتفل فى كل عام منذ هذا التاريخ باسم من هذه الأسماء، وتكون البداية الشاعرة فدوى طوقان.
تزامن هذا المؤتمر مع قرب حلول الذكرى العاشرة على رحيل الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، الذى خصصت مجلة «أوربا» الفرنسية فى باريس عددها المزدوج عن يناير وفبراير للحديث عن حياته. وشارك فى تحريره مجموعة من كبار الكتاب والنقاد الأوربيين والعرب من أنحاء العالم.
كما صحب صدور المجلة تأسيس كرسى أكاديمى فى جامعة بروكسل الحرة باسم محمود درويش، باعتباره من كبار شعراء المقاومة فى القرن العشرين، الذين يقرأون بأربعين لغة.
ولمحمود درويش (١٩٤١ - ٢٠٠٨) مكانة خاصة فى بلادنا التى دعته فى ١٩٧١ للعمل فى صحافتها الأدبية، ومنحته فى ٢٠٠٧، قبل وفاته بعام واحد، جائزة القاهرة للإبداع الشعرى وقيمتها مائة ألف جنيه مصري، تقديرًا له من كل الأدباء والمثقفين لأعماله الشعرية التى نال عليها عدة جوائز من أوربا والاتحاد السوفييتى والبحر المتوسط، ودرع الثورة الفلسطينية.
والذين حضروا احتفال القاهرة يذكرون مدى الحماس الذى أحيط به الشاعر الكبير.
فى الساحة الخضراء الواسعة التى تتوسط مسارح دار الأوبرا والهناجر ومركز الإبداع، وهو يؤكد لمن حوله من كل الأعمار أن الجائزة التى فاز بها يستحقها كل الشعراء الذين أتوا قبله، منذ المتنبى إلى شعراء المهجر إلى بدر شاكر السياب إلى نزار قباني، وأنه يقبلها نيابة عنهم، واعترافًا بفضلهم عليه، لأنه تعلم منهم هذا الفن، وسيأتى بعده شعراء يستحقون مثلها، لأن الشاعر الذى يظن أنه الوحيد فى القبيلة الشعرية، ولم يتفوق عليه أحد، يكون مخطئًا.
وهذا يعنى أن محمود درويش جاء فى زمنه لكى تتعايش فى رؤيته ووجدانه كل التجارب الشعرية القديمة والحديثة.
ولم تكن القاهرة فقط التى احتفت بمحمود درويش فى سياق نهضتها الثقافية فى الستينيات، بل كانت بعض الدول العربية مثل المغرب تقطع نشرتها الإخبارية الرئيسية التى تترقبها كل فئات المجتمع، لتذيع على الهواء مباشرة حوارًا تليفزيونيًا مع محمود درويش.
وفى القاهرة كان محمود درويش يصمم على الإقامة فى أحد الفنادق المطلة على النيل، حتى يظل شاعرًا بأنه على حد تعبيره فى «جنة النعيم» فى قلب العاصمة العربية الفتية.
فإذا عز عليه أن يجد مكانًا فى هذا الموقع للإقامة فيه، اختار لسكنه أقرب الأحياء المتاخمة لها، مثل حى المهندسين، حتى لا يكون بعيدًا عن هذا النهر.
***
ولد محمود درويش فى مطلع العقد الرابع من القرن العشرين، وشهد فى صباه وأول شبابه صعود حركات التحرير فى الخمسينيات والستينيات التى قادها عبدالناصر ومحمود درويش يحمل على كاهله جراح الوطن وفواجعه.
وبذلك جمع فى تكوينه بين الطموح للعدل، ومعاناة الظلم، ممتلكًا صوتًا خاصًا به، ينبع من ذاته، وليس من أصوات الآخرين، يخاطب به قلب الإنسان وروحه وذائقته الجمالية، سواء كان هذا الإنسان من العامة أو الخاصة.
ولأن الحياة لا تتغير إلا من داخلها أو باطنها، لا من سطحها الظاهر، كان محمود درويش يلتفت إلى الأشياء الصغيرة وليس إلى الأحداث الكبرى، ذلك أن الأشياء الصغيرة البسيطة التى لا نأبه بها، أو لا تسترعى الانتباه، هى التى تشكل وتحكم الأحداث الكبرى، وتصنع التاريخ.
وكان أكثر ما يتسم به خطابه الشعرى البعد عن التقليد والشكلية والترخص، وإحلال محله ما يواجه به تحديات العصر، متجاوزًا كل الأثقال التى تعوق التعبير أو تتغرب به أو تكرره، وتحد من آفاقه المفتوحة على كل الجهات.
وعبر ظروف تاريخية صعبة لا تعرف التفريق بين السياسة والثقافة، ارتفع صوت محمود درويش مختلفًا عن كل الأصوات المعاصرة التى تحمل اللافتات والبيارق، وتجعل من أصحابها ساسة فى الصباح، وشعراء فى المساء، مدركًا من الوهلة الأولى أن الأدب الفلسطينى جزء لايتجزأ من الثقافة العربية، وليس جزيرة منفصلة لا تلتزم برسالتها القومية، تلك الرسالة التى لا تتخلى فيها عن جمالياتها، أو تخفض من هذه الجماليات لصالح الموضوع أو القضية.
ومع هذه الحياة القاسية التى عاشها محمود درويش ما بين الملاحقة والوقف والنفى والسجن والمرض فى المستشفيات الأمريكية، فقد امتلك محمود درويش اليقين بأنه على هذه الأرض ما يستحق أن نحيا من أجله، لا أن نموت.
ومهما تفاقمت خطط الإبادة الجسدية وطمس الهوية التى يقاومها أبناء فلسطين، فلن تفقدهم الأمل فى بناء حياتهم فى وطنهم من جديد، وكشف ما تنطوى عليه من كنوز.
وخلال مسيرته الفنية الحافلة التى اهتدى فيها بالطبيعة قبل أن يتثقف بالكتب، لم يتنكر محمود درويش للهم السياسى، ولم يغفل قط أو يهون من الارتباط الوثيق بين السياسة والثقافة.
لم يسمح للفن أن ينال من معارك السياسة، ولم يسمح للسياسة أن تطغى على رهافة الفن.
لم يسمح للواقع البغيض، مهما كان مليئًا بالحرائق أن يئد الحلم، ولا للحلم أو للوهم أو للرمز أن ينأى بعيدًا عن الواقع.
وبفنه المتطور الذى لا يخضع لقانون ثابت، صاغ محمود درويش من كل الحقائق الغائبة، التى تبدو عابرة، قوة ساطعة من قوى الحاضر الذى يدفعه للكتابة، وفيها تبدو حرية العشاق والضعف الإنسانى أقوى من سطوة السلطة، ومن أيديولوجية النظم المدججة بالأسلحة، وآلات الحرب.
لقد كانت القضية الفسلطينية شغله الشاغل، المقدم على كل ما عداه، كما كانت القضية الفلسطينية بطاقته الوحيدة التى يسجلها ضد كل المحاولات المعادية للعروبة، عبارة «أنا عربى» بلا ألقاب وبلا تفاخر بنسب يتعلق به، وبلا أوراق رسمية.
وكانت عودة الحياة الطبيعية لفلسطين وعاصمتها القدس هى حياة العدل والحرية التى يكتب لها محمود درويش الشعر والنثر، على ضوء البنادق.
وكما أنه ليس هناك فرق فى النقد الأدبى الحديث بين لغة الشعر ولغة النثر ولغة الحياة، فإن الشاعر الذى لا يجيد النثر عند محمود درويش لا يعد شاعرًا.
وتحت تأثير ما تتعرض له المدن والقرى والتلال الفلسطينية من إبادة، بعد طرد أهلها من بيوتهم، وقتل الرجال وتعرية النساء، كتب محمود درويش فى كتابه «يوميات الحزن العادى فى فصل «الوطن.. بين الذاكرة والحقيقة» يصف حنينه للأرض التى نشأ عليها، دون أن يكون بحاجة إلى برهان من أى نوع، يثبت به شرعية انتمائه إليها، لأن الوطن يبقى وطنًا فى جميع الأحوال، وجمال هذا الوطن هو الدليل على احتياجه، وأن محوه من الخريطة أكذوبة يدحضها وجود هذا الوطن مدفونًا تحت الأنقاض، والأرض لمن لايعلم هى الأرض، لا تنتزع ملكيتها، ولا تفقد من الذاكرة، وإن رفرفرت عليها أعلام الأعداء.
لكل هذه البديهيات كان محمود درويش لا يرفض التطبيع الثقافى بين العرب وإسرائيل، وفقا للنزوع الفطرى بين البشر، ولكن بشروط حل القضية.
أما فى ظل هذا الاحتلال فلا محل مطلقًا لأى تطبيع، لأنه يفرض زمنًا متقطعًا، ومثل هذا الزمن لابد من ترميمه أولا، وقبل كل شيء.
ومن ناحية مقابلة كان محمود درويش يرفض بإصرار أن يقف بين المتخاصمين، كما حدث فى مسرحية بريخت «دائرة الطباشير القوقازية»، للاحتكام إلى نسبة الطفل إلى امرأة من امرأتين تتنازعان عليه، لأنه يأبى أن يكون فى موضع إنكار الأم الحقيقية للطفل، لكى تحميه بالكذب من الموت.