الخميس 20 يونيو 2024

الأزهر والسياسة مأزق الولاء بين سلطة الحكم ومبادئ الدين

8-3-2017 | 14:05

بقلم: د. عاصم الدسوقى

يعد الجامع الأزهر تاريخيا المؤسسة الأم لعلماء الإسلام وهم أولئك الذين درسوا فيه علوم الشريعة الإسلامية على يد الشيوخ من مختلف المذاهب وانصرف كل منهم للعمل فى أحد المجالات التى تأهل لها.

ولم يكن للجامع الأزهر فى بدايته رئاسة معينة إذ كان يتولى إدارة شئونه سلاطين مصر وأمراؤها شأن باقى المساجد. أما شئونه الداخلية فيقوم بها مشايخ المذاهب الأربعة وشيوخ الأروقة يعاونهم خطيب المسجد والمشرف ومعاونوه من العمال والخدم. وقد بقى هذا الوضع متبعا طوال حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك البحرية. وفى عهد السلطان برقوق أول سلاطين المماليك البرجية وفى عام ١٣٨٣ تم تعيين «ناظر» للأزهر لينوب عن الحاكم فى الإشراف على شئونه ماليا وإداريا ويعمل على تنفيذ تعليمات السلطان فيما يخص أهل الأزهر. وكان هذا الناظر يختار من بين رجال الدولة من الأمراء والأغوات ورئاسته إدارية وليست علمية.

أما فيما يتعلق بالرئاسة العلمية للأزهر والمعروفة بـ «المشيخة» فهناك اتفاق بين مؤرخى الأزهر، على أن السلطان العثمانى سليمان القانونى رأى ضرورة أن يكون للجامع الأزهر «شيخ» يتفرغ للإشراف على شئونه الدينية والإدارية معا ويكون حلقة الوصل بينه وبين العلماء، ومن هنا جاء تعيين شيخ للأزهر (١٥٢٢) يصبح مسئولا أمام السلطان عن طائفة العلماء.

وحتى لا ينفرد شيخ أحد المذاهب بإدارة شئون الأزهر تقرر تشكيل مجلس إدارة للأزهر (٣ يناير ١٨٩٥) يمثل فيه شيوخ المذاهب الأخرى من غير مذهب شيخ الأزهر. وحتى تحتفظ السلطة الحاكمة بمراقبين لها فى هذا المجلس نص القرار على أن يضم للمجلس اثنان من موظفى الحكومة (وكيل نظارة الحقانية ومفتى الديار المصرية). وبهذا التشكيل وضعت السلطة الحاكمة يدها مباشرة على إدارة هذه المؤسسة الدينية الكبرى، فليس من المفهوم أن ينص على ضم عضوين من موظفى الحكومة إلى المجلس حتى ولو كانا من العلماء إلا أن يكون ذلك بغرض تأكيد السيطرة أو التبعية. وبمعنى آخر بدأ الأزهر كمؤسسة يفقد استقلاليته شيئا فشيئا ويدين أكثر بالولاء إلى الجالس على كرسى حكم البلاد.

وتوالت بعد ذلك القرارات المنظمة لإدارة الأزهر إحكاما لتبعيته لسلطة الحكم فقد تقرر تشكيل ما يعرف بـ «المجلس العالي» للإشراف على المعاهد الدينية الإسلامية، ووضع ميزانية الأزهر والمعاهد الدينية، والإشراف على نظام التدريس والامتحانات.

وفى عام ١٩١١ تحددت سلطات شيخ الجامع الأزهر أكثر عن ذى قبل وذلك بتشكيل «مجلس الأزهر الأعلى» الذى حل محل «مجلس إدارة الأزهر» ويتكون من ثمانية أعضاء بخلاف الرئيس (شيخ الأزهر نفسه) وهم: مشايخ المذاهب الأربعة، ومدير عام الأوقاف المصرية، وثلاثة من غير العلماء ممن يكون فى وجودهم بالمجلس فائدة لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته.

***

وأثناء الإعداد لدستور ١٩٢٣ كان موضوع تبعية الأزهر للملك وحقوق الحاكم التقليدية فى اختيار شيخ الأزهر وكبار العلماء موضع نقاش بين أعضاء اللجنة العامة لوضع الدستور، فقد رأى البعض وجوب انتقال حق تعيين الرؤساء الدينيين من الحاكم إلى السلطة التشريعية والتنفيذية تمشيا مع النظام النيابي. وقد كان الملك أحمد فؤاد الأول حريصا على الاحتفاظ بهذا الحق لنفسه فأشار على اللجنة بأن لا تتعرض لحقوقه فى هذا المجال، وعلى هذا وضعت اللجنة الفقرة الآتية: «ينظم القانون الطريقة التى يباشر بها الملك سلطته طبقا للمبادئ المقررة بهذا الدستور فيما يختص بالمعاهد الدينية وتعيين الرؤساء الدينيين، وبالأوقاف التى تديرها وزارة الأوقاف، وعلى العموم بالمسائل الخاصة بالأديان المسموح بها فى البلاد وإذا لم توضع أحكام تشريعية تستمر مباشرة هذه السلطة طبقا للقواعد والعادات المعمول بها الآن».

ثم تم تنظيم هذه المسألة فى عهد حكومة عبد الخالق ثروت باشا (١٩٢٧-١٩٢٨) حيث وافق البرلمان على مشروع قانون يقضى بأن يكون استعمال سلطة الملك فى تعيين شيخ الأزهر بواسطة مجلس الوزراء، وأن يكون التعيين بأمر ملكى بناء على ما يعرضه رئيس مجلس الوزراء. ثم انتقل هذا الحق إلى رئيس الجمهورية كما تحدد بوضوح فى القانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١.

كان أول قانون نظم مشيخة الأزهر يقضى باختيار شيخ الأزهر من بين كبار العلماء، وباختيار شيخ كل مذهب من بين فقهائه من كبار العلماء، واختيار مشايخ الملحقات والوكلاء من العلماء فقط. ولكن عندما اتجهت النية فى ديسمبر ١٩٤٥ إلى تعيين مصطفى عبدالرازق شيخا للأزهر وكان يفتقد شروط وصلاحيات جماعة كبار العلماء فهو لم يتول القضاء الشرعى ولم يقم بالتدريس فى الجامع الأزهر أو المعاهد الدينية مدة معينة.. إلخ إذ كان يعمل بالتدريس بالجامعة المصرية. لكن تم التغلب على هذا الإشكال القانونى بإصدار تشريع آخر يقضى بأن يكون التدريس بالجامعة مساويا للتدريس فى المعاهد الدينية من حيث الترشيح لمشيخة الجامع الأزهر. وهكذا كان يتم تعديل القوانين وفق المصالح، فالبرلمان الذى قام بالتعديل كانت أغلبيته من حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية، ومصطفى عبد الرازق من آل عبدالرازق أحد المؤسسين البارزين فى حزب الأحرار الدستوريين.

ثم تقرر عدم اشتراط اختيار شيخ الأزهر من بين هيئة كبار العلماء حين صار اعتبار شيخ الجامع عضوا فى جماعة كبار العلماء حتى ولو لم يكن عضوا بهذه الجماعة أساسا. وفى هذا إلغاء لوجود هيئة كبار العلماء كقناة شرعية لمنصب المشيخة وإطلاق ليد السلطة الحاكمة فى اختيار عناصر معينة لهذا المنصب وغالبا ما تكون من الشخصيات الطيعة الأكثر ولاء. وتدريجيا زادت الصفة المدنية فى تشكيل المجلس ففى عام ١٩٦١ أصبح الجامع الأزهر يدار كجامعة علمية لا أثر فيها للتمثيل المذهبى بصفة رسمية.

***

أما فيما يتعلق بعلاقة شيخ الأزهر بالسلطة الحاكمة فيلاحظ أن مجموعة القواعد والقرارات التنظيمية لشئون الجامع الأزهر ومعاهده أوضحت مدى حرص السلطة السياسية على الهيمنة على شئون الأزهر لما له من مكانة عالية بين الناس. ولقد أوجدت تلك القرارات أرضية من المصالح المشتركة بين الطرفين، فشيخ الأزهر يستمد نفوذه الإدارى على العلماء من الحاكم، والحاكم يتعاون معه فى إقرار النظام بين العلماء وتأكيد ولائهم للحاكم، أى أن أحدهما يستجيب لمطالب الآخر حسب مقتضى الحال، فقد يقوم شيخ الأزهر بإجراء حركة تنقلات بين العلماء تحقيقا لرغبة الحاكم أو إبعاد بعض العناصر المناوئة خارج الأزهر بالفصل أو بالطرد أو إعادتهم إلى قراهم.

ولعل أبرز مظاهر «التعاون» بين شيخ الأزهر وسلطة الحكم ما حدث فى أعقاب ثورة ١٩١٩ التى شارك فيها طلاب الأزهر، ومن ثم كانت الرغبة فى تقليم أظافر هؤلاء عن طريق تشتيتهم فاقترح الموالون للحاكم أن يلحق أبناء الأقاليم بالمعاهد القريبة من بلادهم ولا يبقى فى القاهرة إلا من يقيم فيها مع أسرته، وكانت الحجة المعلنة رغبة المسئولين فى التيسير على الطلاب حياتهم حتى لا يتحملون مشاق الانتقال من قراهم البعيدة إلى العاصمة.

وكان الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى أكثر شيوخ الأزهر توسعا فى تحقيق رغبات القصر الملكى من حيث الانتقام من العناصر المناوئة للحكم. فقد أراد الملك فؤاد استخدام مكانة الأزهر الروحية لتدعيم أركان سياسته المضادة لحقوق الشعب ووجد الملك فى الشيخ الظواهرى ضالته المنشودة. غير أن هذه السياسة وجدت من يعارضها معارضة شديدة داخل الأزهر ومن ثم فقد استخدم الشيخ سلطة القصر فى تشريد العلماء المعارضين وذلك بإجراء حركة تنقلات فى المعاهد الدينية. وأكثر من هذا قام بإحالة تسعة عشر عالما على المعاش دون إبداء أسباب موضوعية.

وينسب إلى الشيخ الظواهرى أيضا مهمة تكريس سلطات الملك على الأزهر، وهى مسألة كانت موضع تنازع بين العرش وبين السلطة التنفيذية بعد إعلان دستور ١٩٢٣ وفى عهد حكومة سعد زغلول (١٩٢٤)، حين تطلعت القوى السياسية بعد صدور الدستور إلى استمالة الأزهر كمؤسسة لها تأثيرها الجماهيري. وكان أول مظهر لذلك التوجه ما حدث عندما رشح الملك فؤاد أربعة من كبار علماء الأزهر ليكونوا أعضاء فى مجلس الشيوخ. وقد عارضت حكومة سعد زغلول هذا الترشيح من حيث المبدأ بحجة أن المرشحين ليسوا وفديين. والمهم فى هذه الواقعة أنها فتحت الباب للنظر فى «حقوق» الملك الدستورية على الأزهر ونقلها إلى السلطة التشريعية والتنفيذية فى النظام البرلمانى الجديد. وكان المحك الأول أن اثنين من الأربعة المرشحين ليسا من هيئة كبار العلماء كما ينص قانون الانتخاب وتمسكت الحكومة بنص الدستور وطالبت بإخراجهما واضطر الملك للموافقة.

وبناء على هذا صدر القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٢٧ بتنظيم سلطة الملك فيما يختص بالمعاهد الدينية وتعيين الرؤساء الدينيين حيث تقرر أن يكون التعيين فى تلك المناصب وعلى رأسها «المشيخة» بأمر ملكى وبناء على ما يعرضه رئيس مجلس الوزراء، وبذلك أصبح التعيين حقا مشتركا بين الملك والسلطة التنفيذية (الحكومة). لكن عندما أعيد تعيين الظواهرى شيخا للأزهر عام ١٩٣٠ والمعروف بتبعيته للملك عمل على إصدار قانون جديد للأزهر (القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠) أعاد للملك حق تعيين شيخ الأزهر ووكيله وشيوخ المذاهب الأربعة وشيوخ المعاهد الأخرى ووكلائها والوظائف الدينية الكبرى الأخرى بأمر ملكي. وقد برر الظواهرى ذلك الإجراء بقوله «إن من مصلحة الأزهر أن تبقى تبعيته لملك مصر ولا تستولى عليه الحكومة لاعتقاده «أن الحزبية السياسية إذا دخلت الأزهر أفسدته». وظلت المسألة فى جدل مستمر فلما تولى المراغى المشيخة للمرة الثانية (١٩٣٥-١٩٤٥) أصدر القانون رقم ٢٦ لسنة ١٩٣٦ بإصلاح الأزهر فألغى بذلك قانون الظواهرى عام ١٩٣٠ وعاد حق تعيين شيخ الأزهر وسائر الوظائف التابعة قسمة مشتركة بين الملك والحكومة.

ومما ساعد على تبعية الأزهر لسلطة الحكم فقدانه لتمويله الذاتى من الأوقاف الخيرية التى كان أصحابها يتنازلون عنها طواعية بغية مرضاة الله. وكانت البداية عندما أعطى الحاكم لنفسه حق منح عطايا لبعض العلماء فى شكل مرتبات كأفراد ودون أن يكون لها نظام ثابت وذلك «استجلابا للدعوات الصالحات من العلماء والمحتاجين وابتعادا عن كل ما يؤدى إلى كسر قلوبهم». وكان العلماء قد رفعوا التماسا للخديو إسماعيل فى عام ١٨٧١ لمنحهم تلك المرتبات بصفة دائمة وأن تكون لأبنائهم من بعدهم، فصدر الأمر بذلك فى ٥ يوليو ١٨٧١.

***

وفى إطار تبعية الأزهر إلى سلطة الحكم وحرصا على احتفاظ الحاكم بولاء الأزهر له، كانت إدارة الأزهر تحرم على المنتمين إليه الاشتغال بالسياسة أو الارتباط بأحزاب سياسية. وكانت العقوبة رادعة لمن يثبت عليه ذلك تصل إلى درجة الفصل بالنسبة للطلاب حتى فى حالة نشر مقالات بالصحف أو فى حالة تنظيم إضرابات. أما بالنسبة للمدرسين من العلماء فيحالون إلى مجلس التأديب حيث توقع عليهم عقوبات تتراوح بين الإنذار، وقطع الراتب لمدة أكثرها خمسة عشر يوما، والإيقاف بلا مرتب لمدة أكثرها ثلاثة شهور، وتخفيض الراتب، والإنزال من درجة إلى التى دونها، والرفت والطرد.

وأكثر من هذا فقد كان الأزهر يحظر على العلماء وموظفى الأزهر الاشتراك فى أية مظاهرة أو أى اجتماع سياسي، أو إبداء آراء أو نزعات سياسية بشكل علني، أو إلقاء خطب أو محاضرات أو تحرير مقالات أو تحرير منشورات يكون من شأنها «إفساد أخلاق الطلبة وإلهاؤهم عن طلب العلم أو الإخلال بالنظام العام أو بحرمة المساجد». كما أنهم ممنوعون من الاتصال بالصحافة فى غير المسائل العلمية أو الدينية البحتة.. «.

وفى الانتخابات التى جرت فى ديسمبر ١٩٤٩ (لمجلس نواب ١٩٥٠) رشح بعض علماء الأزهر وموظفيه أنفسهم لهذه الانتخابات فما كان من شيخ الأزهر إلا أن تقدم بمذكرة إلى المجلس الأعلى للأزهر للنظر فى أمر من ينتمى من هؤلاء إلى أحزاب سياسية فتقرر: ترك الحرية للمرشحين الذين أعلنوا أنهم يتقدمون مستقلين لا حزبيين لأن هذا لا يتنافى مع القانون. أما الذين رشحتهم أحزاب وحددت لهم دوائر معينة فعليهم الاستقالة من الأزهر وإذا رفضوا الاستقالة فيتم إحالتهم إلى مجلس تأديب.

ومثل هذه الأحكام كانت ترمى إلى تخليص الأزهر كمؤسسة دينية من أية ارتباطات بالقوى السياسية المختلفة ربما تجنيبا له من تقلب التيارات السياسية العاصفة، وربما لأن الأصل فى رسالة الأزهر من ناحية أخرى أنها لكافة القوى لا ميلا مع واحدة دون أخرى. والقوة السياسية الوحيدة المسموح بالارتباط بها والولاء لها هى السلطة الشرعية الحاكمة أيا كان لقبها (سلطان أو ملك أو رئيس جمهورية).

***

وعلى هذا الأساس أريد للأزهر أن يكون مؤسسة مثالية تخضع لقيم وأفكار مثالية وسط مجتمع يخضع لقيم ومبادئ مادية حسب مقتضى المصالح، ومن يخرج من العلماء عن إطار تلك القيم يصبح عرضة للتأنيب. ولقد امتدت سلطة الأزهر فى هذا الشأن إلى مراقبة سلوك العلماء وفحص أفكارهم ومطابقتها على القيم المثالية المعمول بها وبمعاقبة من يخرج عليها بطرده خارج الأزهر بل ومن أية وظيفة حكومية. وكانت بداية تلك الأحكام مع القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ حين تقرر إخراج العالم أيا كانت وظيفته أو مهنته من زمرة العلماء «إذا وقع منه ما لا يناسب وصف العالمية، ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الدينية وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتبه فى أى جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عامة دينية أو غير دينية.. «.

ومن الواضح أن تهمة «ما لا يناسب وصف العالمية» تهمة مطاطة يمكن استخدامها وفق الأهواء. ولقد استخدمت بمهارة ضد الشيخ على عبد الرازق حين أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» فى عام ١٩٢٥ بسبب قوله: «الإسلام دين لا دولة وسياسة لا حكم» مع أن موضوع الكتاب يتصل بحرية الرأى المكفولة بالدستور الذى كان قد صدر قبل عامين (١٩٢٣)، ورغم أن إسماعيل صدقى أحد واضعى القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١، صرح أن المادة رقم ١٠١ التى استخدمت ضد الشيخ على عبد الرازق خاصة بجرائم السلوك الشخصى لا جرائم الرأي. ولكن المشكلة أن هذا الرأى صدر عن عالم ينتمى إلى المؤسسة التى تدين بالولاء للحاكم فضلا عن اصطدامه برغبة الجالس على عرش مصر الملك فؤاد الأول فى تولى منصب خليفة المسلمين بعد قيام رئيس تركيا مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء هذا المنصب فى بلاده عام ١٩٢٤، ومن ثم كانت محاكمة الشيخ بمعرفة هيئة كبار العلماء التى قررت إخراجه من زمرة العلماء. ومن أعاجيب دنيا منافقة الحاكم أن يقوم شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوى بعد قرار الهيئة، بإرسال برقية إلى مقام الملك فؤاد يشكره «على أن حفظ الدين فى عهد جلالة مولانا من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وحفظت كرامة العلم والعلماء».

ولقد استمر النص على هذه الأحكام فى كل القوانين التى صدرت بشأن إصلاح الأزهر بعد قانون عام ١٩١١، بل لقد زادت إحكاما بعد حادثة الشيخ على عبد الرازق حيث أعطى شيخ الأزهر سلطة إجراء التحقيق مع العلماء «إذا وصل إلى علمه أن أحد العلماء موظفا كان أو غير موظف وقع منه ما لا يناسب وصف العالمية.. «. وفى هذا الخصوص كان الشيخ المراغى شيخ الأزهر أثناء مشيخته الأولى (١٩٢٧-١٩٢٩) قد كون لجنة لتصفية العلماء المدرسين توطئة لإخراج من لا يصلح منهم، وأعد قائمة بالمفصولين ضمت مائتى مدرس ولكنه ترك المشيخة قبل أن ينفذ القرار، وخلفه الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى (١٩٣٠-١٩٣٥) الذى أبقى على اللجنة تلبية لرغبة الملك فؤاد الذى قال له «إن الأزهر يجب أن لا يكون تكية للارتزاق فإنه مدرسة دينية كبرى ويجب أن يكون مدرسوها أكفاء..» وكل ما فعله أنه اختزل القائمة إلى سبعين مدرسا وأضاف لها علماء آخرين (١٧ سبتمبر ١٩٣١) استجابة لطلب إسماعيل صدقى رئيس الحكومة وهم أولئك العلماء الذين اشتهر عنهم عداؤهم لإسماعيل صدقى علانية فى مقالات بالصحف. وكان بعض العلماء قد عابوا على الظواهرى قوله لإسماعيل صدقى «لقد أرضيت الله ورسوله» فى الوقت الذى امتلأت فيه الشوارع بضحايا صدقى من قتلى المظاهرات.

وعندما فرض الإنجليز على الملك فاروق تكليف مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد برئاسة الحكومة يوم ٤ فبراير ١٩٤٢ الشهير، سرت بين العلماء دعوة لشيخ الأزهر بعدم تأييد هذه الحكومة لأن ذلك معناه أن الأزهريين لا يناصرون الملك.

***

أما فيما يتعلق بموقف الأزهر تجاه النشاط السياسى العام فمن الملاحظ أن مشيخة الأزهر فى الغالب الأعم تدين بالولاء الكامل لسلطة الحكم أيا كانت ربما اهتداءً بالآية الكريمة «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم». وبهذا الولاء ابتعد العلماء عن الانتماء لأى قوة سياسية أخرى، بل إن اللوائح الداخلية تحظر ذلك عليهم. ومع هذا فقد خرجت فئة قليلة منهم على هذا الحظر وارتبطوا بالحركة السياسية المضادة لطغيان الحاكم أو الانضمام للأحزاب السياسية والدخول فى المعارك الانتخابية باسمها وعلى مبادئها، وأصبح الأزهر مطمحا لمختلف القوى السياسية، كل قوة تريد احتواءه لنفسها.

وفى هذا الخصوص وجدنا أن الشيخ العباسى المهدى الذى تولى منصب الإفتاء والمشيخة حين قامت الثورة العرابية لم يكن من أنصارها ولا من المحبذين لها فوقع النفور بينه وبين عرابى الذى سعى وصحبه إلى خلعه من المشيخة وتم تعيين الشيخ محمد الامبابى من كبار علماء الشافعية شيخا للأزهر فى عام ١٨٨١، وكان الشيخ يردد دائما أن الجيش والأمة متحدان. والثورة العرابية فى عنفوانها أفتى الشيخ عليش شيخ المالكية بالأزهر بأنه لا يصح أن يكون الخديو توفيق حاكما للمسلمين بعد أن باع مصر للأجانب ولذلك وجب عزله. وقال الشيخ محمود إبراهيم فى خطبة له: نسأل الله أن يكون أحمد عرابى باشا هو المشار إليه فى الحديث الشريف: يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.. والبشائر دلت عليه ليمزق البغاة كل ممزق. لكن الشيخ حمزة فتح الله كان متضامنا مع النظام ومن أقواله: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م وكان الأزهر أحد أهم العوامل التى كانت تقلق الإنجليز فأرادوا تعطيل الدراسة فيه، إلا أن طلبهم قوبل بالرفض لأنه جامع تقام فيه الشعائر الدينية ولا يجب إغلاقه فعدل الإنجليز مطلبهم إلى تقليل عدد الطلاب وخاصة الطلبة الذين عرفوا بعدائهم للإنجليز من مصريين وأتراك وغيرهم من أبناء المستعمرات البريطانية والفرنسية. ومع ذلك تم فصل ٣٠٠٦ طلاب بحجة عدم انتظامهم فى الدراسة واشتغالهم بغير طلب العلم واعتبروا أن الاشتغال بالسياسة اشتغال بغير العلم. كما طلبوا من مجلس الأزهر الأعلى أن يرسل منشورا دوريا إلى المعاهد الدينية فى القاهرة والأقاليم لحض الطلبة على الهدوء والسكينة وكذلك حظر خروج الطلبة من منازلهم بعد السادسة مساء وقد كان للإنجليز ما أرادوا.

وعندما انفجرت ثورة ١٩١٩ كان الأزهريون فى مقدمة صفوف المتظاهرين ومن أكثر الطلبة جرأة وحماسة وتضحية ومن أشد العاملين على بث روح الثورة والإضراب وكثيرا ما كانت المظاهرات تبدأ من الأزهر هذا فضلا عن أنه كان مقر الاجتماعات فى أغلب الأحيان حيث كان يموج مساء بالألوف المؤلفة لسماع خطب نارية وقصائد حماسية تلقى ضد الاحتلال والحماية.

ومن عجب أن يصدر السلطان فؤاد (الملك ابتداء من ١٩٢٣) قانونا فى عام ١٩٢٠ بعد هدوء أحداث الثورة بشأن الأحكام التأديبية فى الأزهر والمعاهد الدينية لمعاقبة الذين يعملون بالسياسة حيث قرر فصل وقطع راتب كل مدرس أو موظف يستعمل الجوامع فى إلقاء خطب أو محاضرات أو توزيع منشورات مما يلهى طلبة العلم أو يخل بالنظام العام، وطرد أى طالب أزهرى تكون له أى علاقة بأى من الأحزاب السياسية أو الجمعيات السياسية، كما أجاز دخول رجال الأمن الجوامع والمساجد لإخراج من يلقى خطبا سياسية أو يوزع منشورات.

ـــــ

والخلاصة أن مؤسسة الأزهر تقف فى صف الحاكم تدعمه وتؤيد سياساته تحاشيا للصدام، وعلى سبيل المثال فعندما أصدر جمال عبد الناصر قوانين التأميم فى يوليو ١٩٦١ وأصدر ميثاق العمل الوطنى (مايو ١٩٦٢) مبشرا بالاشتراكية كان خطاب الأزهر عن اشتراكية الإسلام. وفى عنفوان الصراع العربي-الإسرائيلى بقيادة جمال عبد الناصر كان خطاب الأزهر: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا». وعندما ذهب السادات إلى إسرائيل فى ١٩ نوفمبر ١٩٧٧ كان الخطاب: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله». وعندما وضع شيخ الأزهر وثيقة لتكون أساسا لوضع دستور جديد فى أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، تردد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يؤيدها، وطلب من اللجنة التأسيسية للدستور أن تتخذها أساسا لوضع الدستور.

وفى كل الأحوال امتاز الأزهر طوال تاريخه بالاعتدال فى أمور الدين بعيدا عن التطرف، والميل لجانب سلطة الحكم أيا كانت. وأما التطرف الدينى فقد نشأ خارج مؤسسة الأزهر بين كل جماعات الإسلام السياسى منذ جماعة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا.