الثلاثاء 2 يوليو 2024

أين المفر.. من دماء عيسى.. وسور هالة .. ( ١-٢ )

29-3-2017 | 11:14

بقلم –  عادل سعد

رحلت عن عالمنا بثينة البيلى.سيدة الوجه الصبوح والابتسامة الدائمة فارقتنا.كانت نغما أصيلا.وعلى عكس كل الكبار أول المدافعين عنا وأول من استقبل خطواتنا الأولى فى دار الهلال بترحاب كبير.عرفتها صحفية كبيرة للتحقيقات والاستطلاعات لا تهدأ تجوب المجاهل والصحارى والحدود وتغوص فى أعماق القرى.وتعشق التحقيقات الجريئة والبحث عن الحقيقة.وكانت قاعة الاجتماعات بدار الهلال مقرا لورشة عمل دائمة أسبوعيا.على رأسها بثينة بالجينز الرجالى والقميص الخشن .وأوراقها المتناثرة فى كل مكان من كثرة جمعها للمعلومات وحماسها للكتابة.وينتهى اليوم وبعده الأسبوع وتحتل كلماتها صفحات الغلاف وفى الاجتماع الأسبوعى نراها نجمة قمة فى الشياكة والجمال تشيع جوا من المرح والسعادة.

 

وسط هموم لا تتوقف قرأت الروايتين الأهم لهذا العام.. لإبراهيم عيسى قرأت رواية بعنوان : «رحلة الدم .. القتلة الأوائل» ولهالة البدري رواية «مدن السور»كلتا الروايتين تصدم أي إنسان بمصير الإنسان.على الرغم من أن زمانهما متناقض تماما .عيسى يعيد تشكيل الماضي بلا رتوش عند سنوات الإسلام الأولى وبالتحديد فى زمن مقتل علي بن أبي طالب ليغرق وجوهنا بالدم.وهالة تسافر إلى زمن من المستقبل تسيطر عليه عقول جبارة لحماية مجموعة من البشر لا تموت وتحتمي داخل السور من هؤلاء - نحن – المقيمين خارج السور.

أين المفر ؟ الماضي يطاردنا والمستقبل مخيف. ولا عزاء للإنسان.

تبني هالة البدري روايتها اعتمادا على حقيقة علمية. بفضل الحاسوب والتقدم العلمي زادت السرعات والبشر ينتجون الآن من العلوم كل مائة سنة ما يساوي عشرة آلاف سنة من عمر حضارة الإنسان.

لكن السؤال الأخطر .هل البشر على استعداد لاستقبال كل هذا التطور؟في هذا الزمن الضيق.

حقيقة أخرى تقول إن أقدم حفريات للإنسان عمرها أكثر من مليون عام.وأن الحضارة المعروفة عشرة آلاف عام,وفي أفضل تقدير وبعد الخوض في العصر الحجري والطيني أربعين ألف عام.قبلها كان الإنسان حرا مفترسا كالدببة والأسود .وبالتالي فإن جينات أحفاد آدم لا تتوقف طويلا أمام قشرة الحضارة وتميل نحو العنف والقتل وقوانين الغاب.

«مدن السور» كابوس مزعج .وعندما قرأتها حمدت الله لأنني سأموت قبل أن تتحقق نبوءاتها الخانقة.ربما لأن موقعي سيكون بالطبع خارج السور مع الحيوانات.

مفتاح رواية هالة يبدو مخيفا عندما يقرر اثنان من هذا العالم الافتراضي من سكان مدن السور ممارسة الجنس على الطريقة المنقرضة القديمة.ويبدأ المحب بتقبيل محبوبته بشفتيها وعنقها وينحدر لأسفل عند نهديها وتمتد يده لتداعب بطنها وتنزل إلى أسفل فلا تجد شيئا!

ليس لدى المحبوبة جهاز تناسلي.ولم يكن أحدهما يدرك ذلك .كانا من قبل يمارسان الجنس بالدخول في أنبوب تنساب منه الروائح والموسيقى.ويستمتعان لأقصى درجة.

الجنس داخل مدن السور بقواعد.والقواعد يحددها العقل الأكبر – المسيطر على كل ما يجري- ولا نعرف إن كان إنسانا أوآلة.ومن خلال الأحداث نكتشف أن الناس داخل مدن السور لا تموت. فقد تقدمت علوم الهندسة الوراثية والاستنساخ والحاسوب.وأصبح هناك ساكن عمره ألف وأربعمائة عام.وآخر شاب عمره سبعمائة .وفي ظل مدينة سكانها لا يموتون كان من الضروري منع المواليد إلا في أضيق الحدود .وبتصريح من العقل الأكبر القادر حتى على قراءة الأفكار.

لماذا لا يموت الناس ؟ والإجابة بسيطة .فقد صار من السهل استنساخ أي جزء معطوب من الإنسان وتركيبه في الحال.»عقل، ساق ،أمعاء ،عين .. إلخ» بعد صناعته بجودة عالية.ويمكن لأي ساكن الدخول للكمبيوتر لمعرفة درجة جودة الجسد والمخاطر التي تعترضه .

لكن كيف نشأت مدن السور وهل هذا مجرد خيال؟

تصدمنا هالة البدري مرة أخرى .وهي تؤكد أن هناك مقدمات واضحة الآن لصناعة تلك المدن.وفي كل بقعة من الأرض هناك كامبوند منعزل .محمي بالأسوار والأمن.لحماية الأغنياء والمتفوقين من هؤلاء المقيمين خارجه.

ويشترط لظهور مدن السور .أن تختفي حضارات الإنسان والشعوب.ولا يبقى سوى لغة واحدة.وأسهل طريق لتحقق ذلك أن نقوم بتدمير كل آثار العالم القديم.وهو ما يحدث الآن تدريجيا بشكل أو بآخر وبرعاية أمريكية تقريبا.مثل تدمير تماثيل بوذا العملاقة في أفغانستان.وسحق آثار سومر وبلاد الرافدين عقب اجتياح العراق.والسماح لتنظيم داعش بتهشيم كل ما يعترضه من آثار يعتبرها وثنية قديمة.

هالة البدري لا يطاوعها قلبها حتى عندما تسافر للمستقبل عند الحديث عن تدمير الأهرامات.ويتطوع بعض البدائيين المقيمين خارج السور.بإخفاء الأهرامات بدفنها وإيهام سادة العالم الجدد بأنها تساوت بالتراب.

الحياة إذن بعد بضع مئات من السنين.نوعان من البشر.سلالة تطورت ونجحت في تطويرالتناسل وتناول الطعام وعوامل الطبيعة وتطويعها للبقاء داخل السور.وأخرى خارج السور ظلت على حالها تعيش مع سلالات كادت تنقرض من الكلاب والحمير والثيران.

لم تعد هناك سيارات ولا ازدحام مرور ولا مترو أنفاق وشاحنات وقطارات .صار الانتقال عبر موجات التخاطر بسرعة الليزر الأسرع من الضوء والتي يمكنها السفر للقمر والارتداد من هناك في ثانية واحدة وسكان مدن السور يتجولون للنزهة بين الكواكب.

لم تعد هناك ديمقراطية بالطبع.داخل مدن السور.وما ترصده هالة البدري .محاولة من اثنين من داخل السور تمردا على النظام المحكم للنبش في أوراق الماضي .كنوع من الفضول لمعرفة ما جرى.

ولا يمر الكتاب بدون شجن .وهالة تستعرض عبر هذا الفضول الذي تملك المحب بعد أن اكتشف أنه يعيش هو ومحبوبته بلا نصف أسفل.كل حضارة البشر وصراعهم من أجل البقاء والارتقاء .وأحلامهم الضائعة عن العدل والحرية.

تقفز الحضارات القديمة من بين السطور وكأنها تحاول أن تدافع عن نفسها عبقريات فرويد وديستويفسكي وإديسون وأرشميدس وبكائيات هوميروس وشكاوى الفلاح الفصيح ولفائف متون الأهرامات ونصائح كونفوشيوس وبوذا وتضحية جاليليو وابن رشد وموت ابن خلدون.

لكن هل هناك أمل للإنسان؟

تستعرض هالة البدري ثورات الشعوب والإنسان.ويتوقف المحب عند التقليب في أوراق الأرشيف التي لم تعدم بالمصادفة أمام ثورة يناير وغيرها من الثورات.مؤكدا أن العلم أثبت أن إجهاض تلك الثورات صار سهلا.بأن يندس من يدافع عنها .وبعد أن يعتليها ينقلب عليها.وأن الناس من شدة إحساسهم بالفشل في تلك الثورات.صاروا يرددون أنهم يتمنون عودة الديكتاتور وسنوات الظلم لأنها كانت أفضل.

هكذا يُطبق كابوس هالة البدري على أحلام أيامنا القادمة.وهو جحيم لا يختلف كثيرا عن صفحات من التاريخ يصفها إبراهيم عيسى بحياد صادم ونتوقف أمامها في العدد القادم.