تقرير: شيرين صبحى
«أعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وأوغلت في البلاد ونددت بالاستبداد، وتوسعت في الكلام، وبينت مثالب الحكام الظلام، لا أعرفهم إلا بالجهلة الأسافل، ولا أبالي بهم وهم ملء المحافل»..
لم يكن هؤلاء العسكر سوى الزعيم أحمد عرابي ورفاقه وثورته التي أطلقها في وجه الظلم، ولم يكن الجهلة الأسافل سوى الخديو توفيق ورئيس وزرائه رياض باشا، اللذين انتقدهما عبدالله النديم، خطيب الثورة العرابية، دون خشية أو خوف من المصير الذي كان ينتظره.
بعد هزيمة الثورة العرابية تمت محاكمة زعمائها وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام، تم تخفيفها إلى النفي خارج البلاد، لكن عبدالله النديم، فر هاربا مع زوجته وخادمه، فتم الإعلان عن مكافأة ألف جنيه لمن يسلمه حيا أو ميتا، والإعدام لمن يخفيه، ونشر ذلك الخبر في صحيفة «الوقائع المصرية». لكن حب الشعب له كان أكبر من مكافأة الملك والإنجليز فاستطاع أن يختفي في الريف لمدة تسع سنوات كاملة.
يحكي خادمه كيف أنه كان يتخفى ويتنكر في أزياء مختلفة بين شيخ وقسيس، أو عجوز وامرأة، ومن فرط معرفته بحيل التخفي، ألّف رسالة في التنكر أطلق عليها اسم «الاحتفاء في الاختفاء». وكان أهم ما يساعده سعيه وراء الموالد التي تقام للأولياء، فينظر إليه الناس كواحد من المجاذيب أو المريدين، وبالتالي لا يشك أهل القرية أو السلطات في دخوله وخروجه.
ويروي الخادم أنهم لما اشتدت خلفهم الملاحقات، اختبأ ثلاثتهم في سرداب مهجور تحت الأرض لمدة تسعة أشهر، لم يقلع خلالها النديم عن القراءة أو الكتابة، فكان يوقد بالليل مصباح غاز يقرأ على ضوئه، رغم توسلات زوجته وخادمه وشكواهم من الهواء الفاسد الذي كاد يخنقهم.
وفي ليلة القبض عليه، فسد المصباح فانتشرت رائحة الدخان، وهو ما لفت نظر الخفر، الذين ذهبوا لاستطلاع الأمر فوجدوا النديم المطلوب لدى الملك والإنجليز، وكان ذلك بعد ٩ سنوات كاملة من الاختباء طاف فيها معظم قرى مصر، ومن عجائب القدر أن يحقق معه قاسم أمين الذي كان وكيلا للنيابة آنذاك.
اختار النفي إلى مدينة يافا الفلسطينية حتى يكون قريبا من بيت المقدس، وظل بها عدة أشهر حتي توفي الخديو توفيق، وخلفه الخديو عباس حلمي الثاني الذي أصدر عفوًا عنه عام ۱٨٩٢ فعاد إلى القاهرة.
في نفس العام أصدر مجلة «الأستاذ»، وكانت أخف لهجة من «التنكيت والتبكيت»، لكنه لم يكف عن دعوة المصريين إلي مقاومة الاحتلال، وهو الأمر الذي أغضب اللورد كرومر، المعتمد البريطاني في مصر، فأصدر الخديو أمرًا بنفيه مجددًا، فذهب إلي الأستانة، وهناك عمل مفتشا للمطبوعات بالباب العالي.
في المنفى أعاد مراجعة مواقفه، وهناك ألف أهم كتبه «كان ويكون» الذي يعرض فيه آراءه في الدين واللغة والسياسة والحياة، وعنه يقول المفكر أحمد أمين: «ما نشر منه ووصلنا يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الإسلام ومصر والشرق..».
ولم تدُم حياة النديم في الرغد التي عاشها في الأستانة، حيث أفسد بعض المغرضين علاقته بالخليفة العثماني، وهو ما دفع الأخير لتجريحه، فرد عليه النديم بخطاب قوي يتحدث فيه عن عاقبة الظلم والظالمين، وختمه بقوله: «إننا سنقف بين يدي عادل قاهر يقضي بيننا بالحق وهو خير الحاكمين…».
ولكم من هو النديم؟
منذ ولد عبد الله النديم عام ١٨٤٢، لأسرة فقيرة يعمل ربها فرانًا؛ نذره والده للأزهر ليكون عالما وشيخا وكبيرا، لذا ألحقه بالكتاب فانتهى الصغير من حفظ القرآن قبل أن يكمل عامه التاسع، ثم بدأ يقرأ في التراث. لكنه لم يلتحق بالأزهر، ويرجع البعض السبب إلى ضيق ذات اليد، أو أنه أراد أن يساعد والده رقيق الحال.
اختار النديم أن يعمل موظفا في التلغراف، الذي كان يقتصر حينها على المراسلات الملكية والرسمية بين الحكومة المصرية والعالم الخارجي. وهو الأمر الذي أهله للاحتكاك بأكثر الطبقات المصرية ثراءً، ليكون شاهدا على حياة الترف والبذخ. وعندما أرادت والدة الخديو إسماعيل عاملا لتلغرافها، أُجريت مسابقة فاز فيها النديم، وهو الفوز الذي أهله للانتقال إلى حياة القصور، والمقارنة بين الحياة التي يعيشها قلة قليلة من المصريين، وما يعانيه أبناء الشعب الفقراء الكادحون.
كان النديم يعشق الترحال والتردد على المقاهي لمشاهدة أحاديث ومساجلات الناس، ومتابعة المنتديات الفنية والأدبية التي تقام بها ويتبارى فيها الأدباء غير المشهورين فكان يتفوق عليهم، وفي نفس الوقت كان يتردد على الصالونات الراقية التي يرتادها كبار الأدباء، فكان يفاجئهم بآرائه الفكرية، ويقدم إليهم مواهب جديدة في الشعر والخطابة.
ترك وظيفته بالبرق واشتغل تاجرًا لبعض الوقت، وبالتدريس، ثم عمل بالصحافة بجريدتي «المحروسة» و»العصر الجديد». كما اشترك في تكوين «الجمعية الخيرية الإسلامية»، ثم استعاض عنها بجريدة «اللطائف» التي أعلن من خلالها جهاده الوطني.
في مطلع سنة ١٨٧٩ قام مع أديب إسحاق بمحاولة جريئة لتأسيس جمعية أكثر ثورة وتحررا، عرفت باسم «جمعية مصر الفتاة»، كان معظم أعضائها من العرب المسيحيين ومن أبناء الطائفة اليهودية والإيطاليين المتمصرين، وكانوا يطالبون بحكومة وطنية حقيقية ومجلس نيابي حر، وبالحريات المدنية والسياسية والمساواة بين المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية.
عمل مدرسا لبعض الوقت، وأنشأ مع تلامذته فرقة مسرحية، كان يقوم فيها بالتأليف والإخراج والتمثيل أيضا. وفي هذا يقول أحمد سمير سكرتيره الشخصي: «إن النديم قد تناول فيها المجتمع وأظهر المساوئ الاجتماعية آنذاك مثل الانحلال الخلقي والفقر والجهل».
كان النديم يرى أن التمثيل «فن بديع يقوم في التهذيب وتوسيع أفكار الأمم مقام أستاذ يلقن تلامذته بما تألفه نفوسهم». لكن قيامه بالتمثيل جعل البعض يهاجمونه معتبرين التمثيل عملا لا قيمة له، متهمين الممثلين بأنهم مهرجون، لكن النديم كان يدافع عنهم قائلا: «لا ينبغي النظر إلى الممثلين باعتبارهم مضحكين، ولكن التمثيل وسيلة لدفع الظلم والنقد السياسي».
لكنه بمرور الوقت أدرك أن محاولات الإصلاح الاجتماعي لم تجدِ نفعا، وأنه لا سبيل لتغيير الأنظمة السياسية سوى الثورة، فانضم إلى الثورة العرابية عام ١٨٨١م، وأصدر مجلته «التنكيت والتبكيت» لمؤازرتها، وكان يحشد البسطاء ويلهب حماسة الشعب المصري للثورة، فأُطلق عليه خطيب الثورة، بينما أطلقت عليه صحيفة «التايمز» لقب خطيب الشرق.
عبودية الغرب
كان النديم يرى أن أوربا هي السبب في شرذمة الشرق بحربها على الخلافة العثمانية، مؤكدا أنه «لو كانت الدولة العثمانية مسيحية لبقيت بقاء الدهر..»، ناسبا فضل التقدم الأوربي إلى الحضارة الإسلامية «كل ما في الكون الآن من العلماء إنما هم تلامذة المسلمين، وفي عنق كل منهم نعمة للدين الإسلامي».
رفض النديم ادعاءات أوربا بأنها علمانية، واستشهد على ذلك بأن فرنسا أصدرت أمرًا للكنائس يلزم الأمة كلها بالصلوات كلما جابهتهم أزمة سياسية أو اقتصادية. لذلك انتقد المنادين بالتخلص من المنظومة الإسلامية بدعوى الحرية، معتبرا هوسهم بالفكر الأوربي نوعا من «عبودية الغرب».
أصدر عدة صحف لأنه كان يرى أن «الحكومة المستبدة تحجر على الجرائد حجر المتقدمين على الخطباء، فلا ينشر فيها إلا ما ترضاه من المدائح، وتحسين أعمالها من غير نظر لمصلحة الأمة، ولا للمنفعة العامة، لتكون أمتها تائهة في ظلمات الجهالة، لا تهتدي لصالحها ولا تعلم من أمرها إلا ما يضر بها.. «.
كتب النديم أكثر من ٧ آلاف بيت شعر، وروايتين، ومن أشهر كتبه؛ «الاحتفاء في الاختفاء»، «اللآلئ والدرر في فواتح السور»، «البديع في مدح الشفيع»، «في المترادفات»، «الساق على الساق في مكابدة المشاق»، «كان ويكون»، و»النحلة في الرحلة»، لكن لم يصلنا منها إلا مقتطفات، بسبب فترات هروبه ونفيه، حيث كانت كتاباته بمثابة منشورات سرية ثورية يتناقلها البسطاء والأحرار. كما أنه في آخر أيامه طلب من أصدقائه ما عندهم من كتبه ليحرقها؛ لأنه وجد فيها هجاءً كثيرًا وتجريحًا في بعض الشخصيات.
وعندما حاولوا إثناءه عن حرقها قال: «قد خلعت تلك الثياب الدنسة، ولبثت ثوب: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا».
وفي إقامته الإجبارية بمنفاه في تركيا التقى جمال الدين الأفغاني، ونشأت بينهما صداقة دامت عدة سنوات. فكانا يلتقيان في الأمسيات تحت أشجار الحدائق التي خصصها لهما السلطان عبد الحميد، يتذكران النضال وأحداث الثورة، وعن طريق الأفغاني تعرّف على كثير من الوزراء والأعيان والمفكرين.
لم ينسَ النديم وطنه مصر، وعندما زار الخديو عباس الثاني الأستانة طلب منه العودة إلى مصر، فأجيب طلبه سنة ۱٨٩٥م، وبالفعل ركب الباخرة، لكن جواسيس السلطان عبد الحميد أبرقوا إليه، فأوقفت الباخرة وانتزع منها النديم ليعود إلى المنفى من جديد.
بعد أشهر مرض النديم بداء السل، وشعر باقتراب الأجل، فطلب استقدام أمه وأخيه من مصر، لكن الموت سبقهما إليه، ليرحل وحيدًا يوم ۱۱ أكتوبر ۱٨٩٦م، وكان حينها لم يتجاوز الرابعة والخمسين من عمره.
.. وفى الصفحتين التاليتين نعيد نشر واحدة من أشهر وأهم قصائد النديم (شرم برم) التى نظمها عن حال المصريين الصعب قبل قرن وربع القرن ولقد أحب النديم الجيش وآمن به وساند ثورته العظيمة بقيادة عرابىو وأحب الفقراء وآمن بحقهم فى الحياة الكريمة