الثلاثاء 2 يوليو 2024

المرأة في الأدب بين الواقع والخطاب

29-3-2017 | 13:30

د. بهيجة مصري إدلبي - كاتبة سورية

المرأة هي نَصُ الوجود، وهي نَصُ المعرفة الأولى، إذ حملت الرجل من غيابه إلى حضوره المعرفي، منذ أن كشفت له غواية المعرفة، فعرف ذاته، وأيقن بوجوده، ليكشف بئر عتمته.

  عاد من غابات حيرته، إلى يقين حضوره الذاتي، فاحتوته حواء كي يحتويها، وكشفت له مرايا الحضارة، فاستدل على كينونته ووجوده، ليغتسل بفضة الحلم وهو يتأمل مَن أورثته سر الحرف وسر المعنى.

    ومهما حاول الرجل التاريخي، الإيديولوجي والثقافي البطريركي أن يقصيها عن مركزية الوجود ليستقل هو بذلك، فإنه لن يستطيع أن يقصيها عن حركة التاريخ وحركة الوجود الإنساني ذاتا وكينونة وإبداعا، لأن ذلك يقصيه عن وجوده قبل وجودها، ويسلبه ماهيته قبل ماهيتها، ويعيده أنكيدو الأول حائرا في غابة التوحش وإن بهيئة أخرى، قبل أن تستدرجه المرأة إلى فطرة الحضارة.

    فالمرأة إيقاع الرجل كما هي إيقاع الوجود، ودونها تختل موسيقى الحياة، ويصبح عزف الرجل نشازا لا إيقاع له، فهي شاء أو لم يشأ شريك بحركة الوجود، وفاعلة فيها، لأنها حركة تصنعها الحياة وليس الرجل بأنساقه المختلفة ما ظهر منها وما بطن، وحين نسقط هذا المعنى الذي استدرجته المرأة في الوجود على صورتها بين الواقع والخطاب، سواء أكانت موضوعا في الأدب، أم كانت ذاتا مبدعة، يستدرجنا السؤال: هل صورة المرأة في الأدب هي انعكاس لصورتها في الواقع؟ وهل الواقعية في الأدب هي استدراج الواقع كما هو كائن؟ هنا لا بد من القول إن ما ندعوه واقعا في الأدب ليس إلا صورة لغوية لذلك الواقع، فالواقع عندما يتحول إلى كائن لغوي، يفقد الكثير من ملامحه الواقعية، أي يدخل في إطار الصورة التي يحاول أن يجسدها هذا المبدع أو ذاك، فما نجده في الأعمال الإبداعية إذن هو صورة لواقع المرأة، استدرجتها الخطابات المختلفة، عبر حوامل إيديولوجية وفكرية وسياسية وثقافية ونسقية، لتكون تلك الصورة استجابة لحركية النص في اللغة وحركية اللغة في الواقع، أكثر من استجابتها لحركة الواقع في النص.

   فالواقعية في الأدب هي أسلوب في نقل الواقع، أي شأنها شأن الرومانسية والرمزية، وما بعدها، والذين يدَّعون بأن الواقعية محاكاة للواقع يغفلون عن حركة الذات المبدعة في النص، وبالتالي إن أي نص إبداعي مهما كان انتماؤه المدرسي، لا يخلو من تدخلات الذات الإبداعية، وخلفياتها الحاملة لأفكار مبدعها، وإذا مثّلنا لذلك في الخطاب الروائي، فإن الأمر يتصل بمفهوم الشخصية في السرد الروائي، هل هي كائن طبيعي أم هي كائن ورقي، وهذا الجدل مبعثه الرؤية الحداثية التي تختبر النص، وأبعاده ومعطياته، وشخصياته، فالشخصية في الأدب إنما هي كائن لغوي، والكائن اللغوي ينهض من خلفية المبدع الذي يتعامل مع اللغة بمختبره الذاتي سواء كان ينقل الواقع أم يجسد أفكارا ذهنية. فصورة المرأة في الأدب هي إعادة تصنيع لواقعها ولصورتها في الواقع، في مختبرات الذات، وفي مختبرات الذهنية التي يتأسس عليها هذا الواقع.

    إلا أن هناك من يحاول أن يميز بين صورة المرأة وواقع المرأة في النص الأدبي، مما يستدعي البحث في مفهوم الصورة ومفهوم الواقع في المعجم اللغوي، إلا أنني لا أتفق مع هذا التصور، لأنني أنطلق من أن الأدب هو إنتاج حيوي للواقع أي ينهض من المساحة التي يتفاعل معها الواقع مع الذات المبدعة، حيث يتشكل في محرق الفعل الإبداعي، وهذا المحرق هو الذي يعيد إنتاج الواقع، ويعيد تخطيبه في النص. وبالتالي لا بد من التعامل مع صورة المرأة وواقع المرأة من خلال الدلالات التي يحملها هذان المصطلحان في الخطاب الإبداعي، سواء أكان شعريا أم روائيا أم قصصيا أم مسرحيا، فالصورة هي التصور أو الرؤية الإبداعية التي يرسم من خلالها المبدع صورة المرأة بعدما يخطّبها ويحمّلها ما يشاء من أبعاده الفكرية أو الإيديولوجية، أما كلمة واقع فتعني في الدلالة الخطابية محاولة الكشف عن واقع المرأة من خلال الصورة التي يجسدها المبدع، سلبا أو إيجابا، وذلك لحمل هذا الخطاب إلى فضاء الفعل الاجتماعي والفكري والثقافي في التعامل مع قضية المرأة.

   وكثيرا ما ينفتح المفهومان الصورة والواقع على النص، فالنص الأدبي المحدد بواقعيته يلتقي مع المرأة المحددة بواقعها، أما النص الذي لا يشتغل ضمن هذه الأطر وإنما ينفتح على أفقه الإنساني فأعتقد أنه يعيد إنتاج الواقع لذلك تكون صورة المرأة فيه نفيا للواقع من أجل خلق واقع جديد للمرأة، أي تحول المرأة النص إلى واقع، لا أن تحول المرأة الواقع إلى نص.

   فلا يوجد واقع في النص الإبداعي دون تخطيب، وبتخطيب الواقع يعني انتقاله إلى واقع لغوي، وواقع يفعّله الخطاب، وما الواقع الحقيقي إلا مرجعية لتفعيل أدوات الخطاب الإبداعي. دون أن يكون هذا الخطاب مرجعا للواقع الحقيقي، وهنا مكمن الجدل بين الرؤية والرؤيا في فلسفة النص وتأويله.

   ولا أريد هنا الخوض في الكيفية التي صور فيها الأدب المرأة إيجابا وسلبا، لأن ذلك يستدرجني إلى التشعب الذي يفرد قضية المرأة بكل أبعادها ولا يعفيني البحث حينها من استدراج النصوص بمختلف خطاباتها للكشف عن حيثيات هذه الصورة. لذلك اكتفيت بهذه الإشارات التي أوردتها بشكل عام، لأنها تشكل إضاءات كاشفة لقراءة صورة المرأة في الأدب.

   أما عن ماهية صورة المرأة في النص الإبداعي، فيمكنني القول إن النص الذي لا تكمن فيه أنثى نص متخشب، لا يشي بأية رؤيا، حتى تلك النصوص التي تجعل من المرأة صورة غير واضحة الملامح، وثانوية بالنسبة لشخصية الرجل، فهي لا تستطيع أن تشكل بطولة الرجل كشخصية إلا بالبطولة الكامنة للمرأة التي صنعت له وجوده، وصنعت له بطولته، فالمرأة نص حاضر غائب، في كل الإنتاج الإنساني، ويمكن القول إن المرأة هي النص الغائب في المعنى بشكل عام وعلى مدى التاريخ الإبداعي ولا أعني بالنص الغائب غياب المرأة وإنما أعني بأنها النص الكامن في تخصيب المعني في أي نص إبداعي، وهي النص الحاضر بحضورها الذي أيقظه انبثاقها الذاتي في إنتاج نصها كذات، لتخرج من كونها موضوعا، وبالتالي شكلت وجودا جدليا حرك في العالم جدله الإنساني الذي يشي بالحياة. حتى أولئك الكتاب الذين يحاولون إقصاء المرأة عن حركية الإبداع، لا يستطيعون إقصاءها عن نصوصهم، فهم بشكل من الأشكال يعترفون بوجودها فيهم نصا وكينونة.

   وحين استجابت المرأة لتحولات ذاتها المبدعة أي في كون المرأة ذاتا مبدعة أربكت أولئك الذين ضيقوا الأفق فوسعته المرأة، لأنها الأقدر على كشف كينونة المرأة في الإبداع. وهذا ما يمكن استقراؤه في الكثير من النصوص الإبداعية سواء على مستوى الخطاب الروائي، أو على مستوى الخطاب الشعري، وحتى على مستوى الدرس النقدي، ولا نريد تضييق هذه الصورة بذكر الأسماء، لأن المشهد الإبداعي النسائي العربي أكثر جلاء وأكثر وضوحا بما حققته المرأة في كل الخطابات. وبالتالي استطاعت المرأة المبدعة أن تستعيد ذاتها، وأن تفرد ظل تلك الذات، ليستظل به الوجود، واستطاعت أن تخلخل الواقع، مهما كان تماسكه كجدار عازل بينها وبين الحياة، ومهما حاول إقصاءها، أو هزيمتها، فالمرأة التي نفضت عنها غبار التطرف وشققت طين الأيديولوجيات، وأيقظت حلمها، لن تقبل بشكل من الأشكال أن تعود للوراء، لأنها أصبحت أكثر استجابة للحلم، وأكثر استجابة لماهية وجودها فيه.