الجمعة 17 مايو 2024

عواطف وبهيجتان .. ومضات الموسيقى في قائمة الشرف

29-3-2017 | 13:33

د. رانيا يحيى - عازفة وكاتبة مصرية

تتعرض المرأة لكثير من التحديات والمعوقات فى جميع دول العالم بأشكال مختلفة، ولكن فى مجتمعاتنا العربية تتنوع تلك العقبات نتيجة لموروثات ثقافية وأوضاع اجتماعية ونظم سائدة، ولكن ما يعنينا أن المرأة المصرية منذ فجر التاريخ لعبت أدوارا عدة فى شتى ميادين الحياة مثلها مثل الرجل تماما حيث اعتلت عرش البلاد وقادت الجيوش ومارست كافة أشكال الفنون، وعبرت الجداريات في مصر القديمة عن تمثيلها لمباهج الحياة والأنماط المختلفة التى تشاركت بل تقاسمت فيها البطولة مع الرجل.

    وكان للعادات والتقاليد الشرقية المحافظة بصرامة والدخيلة على الحضارة المصرية تأثير في تراجع مكانة المرأة، حيث عانت النساء كثيرا بسبب الرجعية والثقافة الذكورية الخاطئة والتى حطت من شأنها وتعاملت معها كسلعة أو مجرد جسد بلا روح، رغم أنها مصدر السعادة والابتهاج حيث تجعل للحياة مذاقا مختلفا ميزها الله به عن الجنس الآخر، فالمرأة هى الجزء الفنى للحياة وتتجسد فيها كافة معانى الفنون.

   والفن أسمى ما فى الوجود حيث يرتبط بالوجدانيات والروحانيات وبالجمال الباطن فى ماهية الفنون، والموسيقى أرقى الفنون وأكثرها تدفقا فى النفس، لذا رأينا أن نلقى الضوء على رائدات موسيقيات مصريات خضن هذا المجال الفنى فى فترة تراجع فيها دور المرأة فعانين لوضع أسمائهن فى قائمة المبدعات التى نفتخر بهن كمصريات وخاصة ونحن فى عام المرأة 2017 باعتبارهن ومضات تاريخية مشرفة فى سجل صفحات المرأة المصرية عبر التاريخ.

عواطف عبد الكريم

    الدكتورة عواطف عبد الكريم المولودة عام 1931 رائدة موسيقية اثرت العمل الأكاديمى الجاد وتعلم على يديها أعداد كبيرة جدا من الموسيقيين الحاليين وخلال العقود الماضية وأشرفت على رسائل عديدة للماجستير والدكتوراه باعتبارها أحد أعلام الموسيقيين الأكاديميين البارزين. وقد أحبت الموسيقى وتعلقت بآلتي البيانو والفيولينة والتحقت بالدفعة الثالثة بمعهد التربية الموسيقية وكانت الدراسة تستمر عشر سنوات، وتخرجت عام 1954 بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، ثم سافرت للنمسا والتحقت بالأكاديمية الموسيقية والفنون التعبيرية "موتسارتيوم" بسالزبورج، وهي أول سيدة مصرية تحصل على أعلى مؤهل فى النظريات والتأليف الموسيقى وحازت على جائزة التفوق من النمسا لحصولها على تقدير امتياز فى التخرج عام 1962، وهناك درست مع عمالقة التأليف الموسيقى المعاصر منهم المبدع كارل أورف صاحب الطرق الحديثة فى التأليف، وفريدريك نيومان المؤلف ورئيس قسم النظريات والتأليف بأكاديمية فيينا، كما تأثرت بالمؤلف الموسيقى سيزار برسجن. وبعد عودتها أنشأت قسما للتأليف والنظريات، وبدأت التأليف الموسيقى بالإذاعة ولها محاولات فى مجال الموسيقى الإلكترونية قام بتسجيلها المايسترو أحمد عبيد، وألفت موسيقى مصاحبة للمسرحيات منها "لعبة النهاية"، "المحروسة والسبنسة"، "رحلة خارج السور"، "أجاممنون"، وعدد من المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية، و14 مقطوعة للأطفال ومتتالية، كما قامت بإعادة صياغة لبعض الألحان التراثية منها "قوم يا مصرى" وشغلت مناصب عدة من بينها عميدة لكلية التربية الموسيقية ومقررة لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه بالمجلس الأعلى للثقافة ولا تزال تعمل أستاذة بالمعهد العالى للموسيقى الكونسيرفتوار، ويعد إنتاجها العلمى من أفضل المراجع التى يستند إليها المتخصصين فى هذا المجال. لذا فهى علامة بارزة فى تاريخ الموسيقى كأستاذة أكاديمية ومعلمة لأجيال الموسيقيين منذ الخمسينيات وإلى الآن.

بهيجة حافظ

استطاعت بنت الإسكندرية بهيجة حافظ (1908 ـ 1983) أن تضع المرأة المصرية والعربية فى مكان الريادة فى مضمار موسيقى الأفلام كمجال لم يسبقها فيه سوى رجال قليلين فى بعض الدول الأجنبية ولكن لدرايتها الفنية والثقافية الواسعة اخترقت هذا المجال الجديد ووضعت أول موسيقى فيلمية فى السينما العربية كأول سيدة تقتحم ميدان التأليف الموسيقى الكلاسيكى، وساعدها عليه دراستها الموسيقية فى باريس التى أثرت على أسلوبها وسعة الأفق لديها. ولم يقتصر عطاؤها الفنى فى مجال الفن السابع على موسيقى الأفلام فقط وإنما لها باع طويل فى التمثيل والإنتاج والإخراج، فضلا عن كونها كاتبة سيناريو ومصممة أزياء أحيانا فى بعض الأفلام الأولى وكان لدراستها المتخصصة للإخراج والمونتاج فى برلين دور مهم وبارز فيما قدمته من أفلام، ومحاولات جادة وضعت الأسس والقواعد البدائية لهذا الفن الجديد جنبا إلى جنب مع الرجال.

 

    وكان لنشأتها فى بيئة أرستقراطية أثر واضح على تعليمها وثقافتها وزيادة ارتباطها بالفنون الذى ظهر فى سن الرابعة، وبدأت تتعلم العزف على البيانو وألفت أول مقطوعة موسيقية وهى فى التاسعة، وسماها والدها باسمها "بهيجة"، كما كان لوجود المايسترو الإيطالي جيوفانى بورجيزى بالإسكندرية أثر كبير عليها حيث تلقت قواعد الموسيقى الغربية على يديه، ثم توالت مؤلفاتها الموسيقية مثل أنشودة إيطالية ورقصات التانجو والفالس والتى سجلت بعضا منها مع شركتى كولومبيا فى الإسكندرية وأوديون بالقاهرة، وظهرت أول اسطوانة فى السوق المصرى لمؤلفاتها حاملة اسمها عام 1926. وهى أول مصرية عضوة فى جمعية المؤلفين بباريس وحصلت على حق الأداء العلنى لمؤلفاتها الموسيقية. لكنها عانت كثيرا من أجل تحقيق أهدافها وأحلامها لغرس الفنون الرفيعة فى المجتمع، حيث أنشأت أول نقابة للمهن الموسيقية عام 1937، وجعلت من منزلها صالونا ثقافيا يضم أهل الفن والفكر والإبداع لإيمانها بمدى تأثيرها على الحياة ككل.

   ورغم وجود بهيجة حافظ قائدة مجال التأليف الموسيقى النسائى منذ عقد الثلاثينيات من القرن الماضى إلا أن هذا المجال ما زال قاصرا على عدد محدود للغاية فى مصر لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة وهنا يجب علينا إعادة تقييمنا لمكانة هذه الفنانة الرائعة.

بهيجة رشيد

    من النساء القلائل اللائي طرقن مجال التأليف الموسيقى كهواية لا احتراف السيدة بهيجة صدقي المعروفة باسم بهيجة رشيد (1899 ـ 1987) نسبة لزوجها حسن رشيد أحد رواد الجيل الأول من المؤلفين الموسيقيين المصريين. وكانت لها أنشطة اجتماعية واسعة فى مصر، وقد درست الفيولينة والبيانو فى الكلية الأمريكية للبنات، وبعد تخرجها عام 1919 التحقت بمعهد تيجرمان الذى درس فيه معظم الجيل الأول من المؤلفين، وتلقت دراسة للتأليف والنظريات بجانب الغناء والعزف على البيانو، واشتركت فى الاتحاد النسائى المصرى برئاسة هدى شعراوي عام 1925، ومثلت مصر فى العديد من المؤتمرات النسائية فى العديد من الدول حول العالم، وأسهمت مع زوجها ومجموعة من رواد التأليف وعاشقى الموسيقى حينها فى تأسيس الجمعية المصرية لهواة الموسيقى عام 1942 وكان يرأسها العالم الجليل دكتور علي مصطفى مشرفة. وكانت تشارك بإحياء حفلات الجمعية، ومنذ عام 1969 بعد وفاة زوجها تولت رئاسة الجمعية حتى عام 1980 وكان لهذه المؤسسة دور بارز فى نشر الثقافة الموسيقية.

    كما اتجهت للتأليف الموسيقى منذ عام 1949 وقدمت كتابا لأغانى الأطفال وتلاه آخر لأغانى الشباب، كما قامت بجمع وتدوين الموسيقى الشعبية لنشرها بين الطبقات المثقفة وخوفا على هذا الميراث الثقافي من الضياع، ورغم أنها لم تتلق دراسة موسيقية متخصصة إلا أن أعمالها كانت بلغة موسيقية كلاسيكية ذات طبيعة رومانسية وكانت تتميز بوضوح وترتيب أفكارها الموسيقية، ورغم سيطرة اللمحة الأوروبية على ألحانها إلا أنها كانت سلسة وبسيطة، وكذلك تحسن اختيار مقاماتها الموسيقية، بالإضافة لالتزامها بالتقطيع العروضى السليم لقواعد اللغة العربية فى تعاملها مع الأغنيات. وحصلت بهيجة رشيد على عدة أوسمة لجهودها الاجتماعية منها نوط الامتياز من الدرجة الأولى عام 1966 وشهادة تقدير عام 1973 فى العيد المئوى لتعليم الفتاة، ووسام الكمال من الدرجة الثانية.

    أمثلة بسيطة فى مجال الثقافة والفنون لكنها إشارات دالة على إرادة المرأة وقدرتها على إثبات ذاتها وطرق كل مجال يساعد على الارتقاء بمجتمعها، وتظل أدوار المرأة فى مجتمعنا لها السبق والريادة حيث أثبتت نجاحات متلاحقة رغم كل الظروف والمعوقات التى قد تعترض درب التقدم والنجاح لها، إلا أن المثابرة والإرادة التى تتحلى بها المرأة المصرية ومحاولاتها الدؤوبة لإثبات قدراتها فى شتى ميادين الحياة والتى تضعها فى مساواة عادلة مع الرجل كحق أصيل لها رمزا للكفاح والنضال ضد كل أشكال الرجعية فى المجتمع الذي شهد فجر الضمير البشري.

   وأخيرا تحية لكل امرأة تترك بصمة وتضع حروف اسمها من نور فى سجل الرائدات.