الإثنين 17 يونيو 2024

القومية المصرية وتحرير المرأة قبل ثورة 1919

30-3-2017 | 10:58

"مصر هي المرأة المصرية التي أرتنا في هذه الأيام أن فيها ما كنا نتمناه لها وهو ينتظر أن تنبهه يد الأحوال ليبدو مسطورا". (في وصف المظاهرات النسائية 1919 لمي زيادة (1886 ـ 1941).

  جملة رشيقة موجزة كتبتها المرأة التي طرحت سؤالا لخصت بالإجابة عنه المسيرة التي أدت للحظة الفارقة التي أصبحت فيها انعكاسا لمصر القادرة على التقدم. السؤال هو: أهي يقظة الفكر عند الأفراد تهيئ اليقظة القومية؟ أم هي يقظة الجمهور ومطالبه والأحوال المحيطة به هي التي تخلق الأفراد وتحبوهم بالمواهب الضرورية ليتكلموا بصوت الجماعة؟

  وكان رأيها أن التفاعل "هنا محتم"، وكانت مظاهرات النساء في ثورة 1919 والمطالبة بالحرية والاستقلال التام واحدة من ذرى هذا التفاعل، فكانت هذه المظاهرات هي المشاركة السياسية الأوضح والأكثر فاعلية وجماهيرية منذ بدء الصحوة النسائية المصرية والأكثر إثباتا أن للمرأة دورا فعالا في مجتمعها لم تكن وليدة مصادفة ولم تأت من فراغ بل هي محصلة كفاح طويل عززته ودعمته حركة قومية واعية مدعومة بحراك اقتصادي واجتماعي وسياسي مر به المجتمع المصري منذ بداية القرن التاسع عشر وبدء انفتاح مصر على العالم وإرساء قواعد القومية المصرية التي رصد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي اشتعال جذوتها في أعقاب الحملة الفرنسية واعتداء نابليون وجنوده على البلاد وأهلها و"لأن هذه الاعتداءات أثارت كراهية الأمة للاحتلال الفرنسي وحملتها على مقاومته بكل الوسائل، فكانت هذه المقاومة هي النواة التي انبثقت منها الروح القومية المصرية"، هذه الروح التي قويت وتعمقت أكثر بانفتاح المجتمع المصري على المدينة الحديثة بعد أن أرسل محمد على البعثات إلى الخارج وكرس جهوده لتنظيم البلاد إداريا واقتصاديا وثقافيا وإدخاله للعلوم والصناعات الحديثة في إطار رغبته في التخلص من التبعية الأجنبية تحت أي مسمى وقد ازداد الشعور القومي قوة مع استتباب النظام وتوسع القاعدة الصناعية والزراعية والانتصارات العسكرية وظهور طبقة متوسطة جديدة من المتعلمين المصريين وكبار االموظفين الشوام والأتراك والأرمن المتمصرين الذين أصبحوا قادة وروادا لهذا الشعور القومي الجديد وكان من الطبيعي ألا يرضى هؤلاء التقدميون الجدد عن الأوضاع الاجتماعية وأحوال المرأة وأن يروها عائقا ضد التقدم ولهذا جاء اقتراح رفاعة الطهطاوي عندما كان عضوا في ديوان المدارس عام 1837 بإدخال تعليم البنات النظامي في مصر مواكبا لتطلعات الطبقة الجديدة.

 

    ولكن محمد علي الذي كان هدفه الأساسي يصب في تطوير وتقوية الآلة الحربية والصناعية اكتفى بإنشاء مدرسة للولادة وتدريب الممرضات واستنت في عهده القوانين واللوائح التي تنظم وتحمي عمل المرأة في المصانع والمستشفيات وقد شكلت النساء جزءا لا بأس به من عمال المصانع في عهده وخاصة في القاهرة والإسكندرية، كما سمح الباشا بإنشاء أول مدرسة إرسالية في مصر عام 1844 هي مدرسة راهبات الراعي الصالح بشبرا وتوالت بعدها مدارس الإرساليات والجمعيات التبشيرية، وظل الوضع هكذا حتى أنشأ الخديو إسماعيل المدرسة الحكومية الأولى للبنات وهي مدرسة السيوفية وافتتحت في أغسطس 1873، تلاها إنشاء مدرسة أخرى بعد نجاح الأولى وأعقب ذلك بثالثة لبنات الصفوة والأكابر أغلقت فيما بعد للضائقة المالية التي أحاقت بالبلاد في نهاية عصر إسماعيل، كما عهد للمفكر الكبير رفاعة الطهطاوي بتأليف كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" وقد استهل الطهطاوي الكتاب بمدح إسماعيل الذي لم يجعل العلم كالإرث للذكر مثل حظ الأنثيين بل خصهن (البنات) بمدارس كالصبيان يخرجن بها من حيز العدم إلى الوجدان، وأكد على ضرورة تعليم البنات القراءة والكتابة والحساب والعلوم لتحقيق عدة أهداف منها حسن معاملة الأزواج وتعاطي الأعمال المختلفة عند الضرورة ولتكون قدوة لأطفالها.

   وفي موضع آخر من الكتاب السابق لعصره يقول الطهطاوي "وإن التعلم يهيئ للمرأة سبيل العمل فتعمل ما يعمله الرجال على قدر قوتها وطاقتها إذا دفعتها الحال إلى ذلك وهذا يشغلها عن البطالة فالعمل يصون المرأة" ويستطرد: "وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء"، هذه الأفكار الثورية لم تكن غريبة على الرجل الذي قال "وليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا نبنيه بالحرية والفكر والمصنع" فقد آمن الطهطاوي بأن صلاح المرأة يعني صلاح الوطن وشاركه في إيمانه هذا الكثير من مفكري عصره الذي حفل بمتغيرات اقتصادية وثقافية أسهمت في بلورة هذه الفكرة فقد بدأ النفوذ الأجنبي والاقتصادي والثقافي يثقل كاهل مصر فمع تعليم صمم خصيصا لصناعة موظفي الحكومة وحركة كبيرة من رؤوس الأموال الأجنبية للسيطرة على ثروة مصر الزراعية عن طريق الرهونات واستغلال فقر وجهل الفلاحين وبعدما تبددت الثروة التي حصل عليها منتجو القطن بانتهاء الحرب الأهلية الأمريكية نتيجة سوء الإدارة على المستوى الشعبي والحكومي برزت أهمية وضرورة تعليم المرأة لأنها العنصر الفعال والمربي والضام للحمة الأسرة التي هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع فقبل الحرب العالمية الأولى مباشرة أصبح 93% من الاقتصاد الصناعي المصري بيد الأجانب والثابت أن أحد أهم أسباب فشل الثورة العرابية هو سيطرة الأجانب والبريطانيين على الأخص على وسائل الاتصال والمراسلات والصناعات وبالطبع على قناة السويس وقد تنبه العديد من المصريين لخطورة هذا الوضع فتأسست جمعيات مثل الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878 وكان هدفها المعلن محاربة الفقر والجهل والمرض وذلك بتوفير التعليم والتثقيف اللازم للفقراء وخدمة المجتمع وهدفها الحقيقي هو تقوية الروح التي دبت في نفوس المصريين إثر ما شاهدوه من استئثار الأجانب بمرافق البلاد الاقتصادية وكانت أهم أولويات هذه الجمعية فتح المدارس الأهلية للبنين والبنات دون تمييز طبقي وأقرت الحكومة 250 جنيها مصريا سنويا معونة للمدرسة واعتبرها حفني ناصف من المدارس الرسمية، وفي عام 1879 صدر كتاب "معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء" للكاتبة مريم جبرائيل النحاس والتي ستصدر ابنتها هند نوفل فيما بعد أول مجلة نسائية مصرية هي "الفتاة".

  في الثورة العرابية أظهرت النساء وعيا وبسالة وساعدن على قدر ما تسمح به عادات وتقاليد ذلك الوقت لاسيما في جمعيتي "حلوان والفلاح" وقمن بالتبرع وجمع الأموال لعلاج المصابين في معركة كفر الزيات، وأرسلت بعضهن رسائل للحكومة البريطانية تلتمسن فيها تخفيف الحكم عن عرابي ثم توقفت الحركة في مصر لعامين، لكن مصر ما بعد 1882 والاحتلال البريطاني لم تعد كما كانت من قبل فقد تيقظت الأمة وأدركت أن الطريق الوحيد للتخلص من الاحتلال هو العلم والعمل. وردا على الدوق "دار كور" الذي ذم المصريين أصدر قاسم أمين كتابه "المصريون" عام 1894، وقال فيه: "إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة وإن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من حقوق الإنسان، وإن الجميع يتوقون إلى العلم ويتعلمون معتبرين أن هذا هو السبيل الوحيد للنهوض، منذ ثورة عرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته، استنار ذهنه فجعل يهتم بنظام الحكم وبالشؤون العامة يقدرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة فإن مصر تيقظت بالفعل".

    وكانت مدارس البنات التي انتشرت في عموم القطر إحدى دلائل هذه اليقظة التي عززها تغير نظرة المجتمع للفتاة المتعلمة واعتبار التعليم إحدى مميزات الفتاة المقبلة على الزواج وحرص كبار الموظفين والأعيان من مختلف المشارب على أن تنال بناتهن القسط المناسب من العلم وبدأت الصحف والمجلات المصرية مثل المقتطف والمؤيد والآداب في وضع أبواب ثابته تخص المرأة وفي نشر مقالات لسيدات بأسماء مستعارة أحيانا وبأسمائهن الحقيقية أحيان أخرى وظهرت أسماء كزينب فواز ووردة اليازجي وعائشة التيمورية التي وجهت نداء عام 1888 في جريدة الآداب خاطبت به الرجال قائلة: "يا رجال أوطاننا! لم تركتموهن سدى؟ وهن بين أناملكم أطوع من قلم؟ فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود؟".

   شهد العقد الأخير من القرن التاسع عشر نقلة نوعية في أنشطة السيدات في مصر ومساهمتهن في المجتمع وأنشطته بدءا من الصحافة النسائية التي كانت بدايتها عام 1892 من الإسكندرية على يد الآنسة هند نوفل التي أسست مجلة "الفتاة" مجلة شهرية تعنى بالشؤون العلمية والأدبية والتاريخية وبالفكاهة وقد اعتبر إنشاء هذه المجلة حدثا مهما ورحب به في الأوساط الثقافية المصرية حتى أن جرجي زيدان قال بهذه المناسبة "إن مجلة الفتاة جمعت لطف المرأة ونشاط الرجل ووضعت حجر الأساس في زاوية البناء لهذا الفن وجرأت غيرها على الإقدام عليه". كانت هذه المجلة باكورة للعديد من المجلات جاءت كترجمة واضحة للاهتمام المتزايد بدور المرأة في المجتمع وتزايد عدد القارئات للمجلة التي حفلت بمقالات تحث على تعليم المرأة مثل مقالة العلم والعمل لكاتبة من طنطا ومقالة لزينب فواز مثل العلم نور، واللافت للنظر أنه في ذلك الوقت أثارت المجلة قضايا منها "إنهاض الغيرة الوطنية لترقية البضائع الشرقية" ودعت كاتبته لثورة تصنيعية تغني عن استيراد السلع الأوروبية وعلى تشجيع الصناعة الوطنية كما اهتمت المجلة بالرد على مقالات مدرسة البنات التي كان عبد الله النديم ينشرها في "الأستاذ" ويدعو فيها أن يكون تعليم النساء قاصرا على أمور الدين والعربية والحساب وخدمة الزوج، كما اهتمت بالرد على مقالات الدكتور أمين خوري في "الهلال" والذي زعم فيها أن من اشتهرن من النساء هن من فلتات الطبيعة كجسم حيوان ورأس إنسان حيث علقت "الفتاة" بأن التاريخ أكبر شاهد على ألوف النساء اللواتي بارين أعاظم الرجال.

   وقد تلت مجلة هند التي استمرت عاما واحدا فقط مجلات وصل عددها لخمس عشرة مجلة في سبع عشرة سنة كان أبرزها مجلة "أنيس الجليس" عام 1898 بالإسكندرية لصاحبتها ألكسندرا أفيرينوه خوري، وهي أول امرأة تمثل مصر في مؤتمر السلم العام النسائي وحصلت على وسام من الدولة العلية لإسهاماتها في الثقافة وتعتبر أول متحدثة عن الحركة النسائية المصرية في المحافل الدولية وظلت أنيس الجليس التي استمرت حتى 1908 تستنهض همم النساء للنهوض بمجتمعهن وتحث المسؤولين على سن القوانين التي تحمي المرأة وتضمن حقوقها، وأيضا صدرت عام 1906 مجلة "فتاة الشرق" لصاحبتها لبيبة هاشم التي كانت من أهم أركان الحركة النسائية المصرية وهذه المجلة كان هدفها الأساس التربية وقررتها وزارة المعارف على المدارس، وكانت "الريحانة" عام 1908 أول مجلة تصدرها امرأة من أصل مصري هي "جميلة حافظ" وكانت سياستها قائمة على أن مصر للمصريين كشعار غيرنا من الوطنيين المخلصين الصادقين وقد طالبت جميلة الشعب التمسك "باستقلال البلاد وألا يتوانوا عن المطالبة به بالصراحة والمجاهرة" وأن يعملوا بقول المتنبي "وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا". وتوالت المجلات مثل ترقية المرأة والجنس اللطيف، كذلك نشرت مع توسع المطابع وزيادة قاعدة القارئات في الفترة من 1892 إلى 1939 أكثر من 571 سيرة ذاتية لسيدات بقلم أديبات وأدباء أشهرهن زينب فواز التي كتبت باسم امراة مصرية ثم عادت للكتابة باسمها الأصلي ونشرت عائشة التيمورية بعد عام 1892 رسالتها "مرآة التأمل في الأمور" في 16صفحة من القطع الكبير منتقدة الأحوال الاجتماعية وتسلط الرجال على النساء وما له من أثر ضار على الأسرة والمجتمع.

   وبنهاية القرن التاسع عشر وحلول القرن العشرين كان الصوت الأعلى والأقوى لكتابي قاسم أمين "تحرير المرأة" 1898، و"المرأة الجديدة" 1900. وبرغم كل جهود الإصلاحيات السابقات على أمين فإن كتابيه أثارا الجدل الأوسع والأشد في أوساط المصريين حتى أن مثقفا كإبراهيم رمزي أصدر صحيفة عنوانها "المرأة في الإسلام" في القاهرة عام 1901 كتدخل ضروري على حد قوله في الجدل القائم حول كتاب قاسم أمين الذي ولد ضجيجا قبل أن يقرأه الناس على حد قول رمزي لأن كاتبه ذو مكانة تقع في قمة الهيكل الاجتماعي والسياسي، ورأى أن الكتاب تطرف في الرأي يماثل تطرف طلعت حرب في رده عليه بكتاب "فصل الخطاب في المرأة والحجاب". وذهب رمزي بوجهة نظره التي يراها وسطية إلى أن قاسم أمين تطرف في اتباع الأساليب الغربية ولكنه يناهض احتجاب النساء وإن ساند حجابهن ويخضع احتياجات النساء وطموحاتهن لحاجة الوطن: "الأجدر بنا أن نبقي الحجاب الحاضر حتى تتعلم النساء وتتربى، وحتى يتأدب الرجال بزيادة تعليمهم، وحتى يفعل الله بامتيازات الأجانب ما يشاء"، وقد شاركت باحثة البادية ولبيبة هاشم وأغلب الصحافة النسائية رمزي هذا الرأي ورأين أنه من المبكر جدا نزع الحجاب، وإن خشي أغلبهن أن تنتقص مكتسباتهم مما دعا باحثة البادية لأن تطالب بإيجاد صيغة مصرية لتحرير المرأة بما يتناسب مع قيم المجتمع الشرقي. ولكن الملاحظ أن كل وجهات النظر أو أغلبها على الأقل في هذا الجدل صبت في إطار وجوب تعليم المرأة حفاظا على الاقتصاد القومي وبث الجذوة الوطنية في المجتمع وأن جهلها هو عار على الرجل المصري وأحد أسباب التأخر والاضمحلال.

   ولم تتبلور فكرة عمل المرأة ومشاركتها الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية كما نعرفها اليوم حتى في كتابات قاسم أمين، ولكن دورها الفاعل على مستوى أسرتها ووطنها كان قد أصبح جليا في مطلع القرن العشرين بل بدأت المصلحات والإصلاحيون في انتقاد نظام التعليم القشري الذي ينتج موظفين من الرجال وفتيات يرطن بلغات أجنبية ويجدن عزف البيانو وأشغال الإبرة ومبادئ القراءة والحساب دون العلوم والصناعات وما يعينهن على خوض الحياة العملية، فوصفته مي زيادة بتعليم يشبه تزويق باب المنزل بالنقوش والألوان دون بناء حقيقي للبيت، وارتفعت الأصوات لإنشاء جامعة أهلية توفر تعليما نافعا للوطن، وتسابقت النساء والرجال للتبرع لهذا المشروع الذي لم تكن سلطات الاحتلال البريطاني تنظر إليه بعين الرضا، وطرح مقترح لإنشاء جامعة موازية للنساء ولم يلق قبولا خاصة من مصطفى كامل، وبعد إنشاء الجامعة عام 1908 بعام واحد تم تخصيص يوم الجمعة لإلقاء المحاضرات بها على النساء ودعيت ثلاث من أقطاب الحركة النسوية للمحاضرة: ملك حفني ناصف (باحثة البادية) ونبوية موسى أول امرأة مصرية تحصل على البكالوريا ولبيبة هاشم المصلحة التربوية ورئيسة تحرير مجلة "فتاة الشرق"، كما دعيت هدى شعراوي ومي زيادة وغيرهن وكانت مجلة "المقتطف" تنشر هذه المحاضرات على صفحاتها. ومن أهم المحاضرات محاضرة ألقتها نبوية موسى عام 1911 بعنوان "المرأة والأمة" قالت فيها إن "المصرية ذكية بفطرتها فلندفع بفتياتنا إلى الاشتغال بالعلم الصحيح والعمل النافع تاركات تلك الأوهام القديمة من ترك الفتاة متفرغة والقول بأنها لن تكون قاضيا أو رئيس مصلحة فتلك الأوهام أصبحت قديمة بالية تضر ولا تنفع، إننا إذا حببنا إلى بناتنا العمل أصلحن منازلهن بل وأصلحن الأمة بأسرها". ومحاضرة ألقتها باحثة البادية في مارس 1914 بعنوان "تأثير المرأة في العالم".

    لقيت تلك المحاضرات إقبالا مما دفع الجامعة إلى تأسيس قسم مخصص للبنات عام 1910 التحقت به خمس وثمانون فتاة منهن خمس وثلاثون مصرية، كما شهدت الفترة نفسها إنشاء جمعيات نسائية خدمية مثل مبرة محمد علي الخيرية عام 1909 وفي عام 1914 تأسست "الرابطة الفكرية للنساء المصريات" وأسستها هدى شعراوي كما أسست ملك حفني ناصف "اتحاد النساء التهذيبي"، ولم تكتف النساء بهذا بل اتجهن للكفاح المباشر ضد الاستعمار فبدأن القيام بمظاهرات صغيرة وإرسال البرقيات الاحتجاجية ووضعن أهدافا للحركة النسائية تتمثل في المطالبة بالتعليم العالي للنساء وخاصة دراسة الطب والإدارة والحساب، وإصلاحات اجتماعية كالحصول على حق الطلاق والمطالبة بتشريعات تحمي من العنف الزوجي ورفع سن الزواج والحضانة وإصلاحات سياسية تمثلت في المطالبة بحق التصويت والمشاركة السياسية وفي 16 مارس 1919 خرجت ثلاثمائة امراة في مسيرة لبيت الأمة للمطالبة بالاستقلال وعودة الزعماء الذين نفتهم إنجلترا لمطالبتهم بالاستقلال، وقاوم الاحتلال المظاهرة التي تكونت من بنات الطبقة الراقية وسيدات الأحياء الشعبية على السواء وكانت "شفيقة محمد" أول شهيدة مصرية وقد قتلت برصاصة في صدرها، واستشهد بعدها أربع شهيدات، فناشد قيادات الوفد النساء بالكف عن التظاهر ولكنهن رفضن واستأنفن التظاهر، أما في ريف مصر فقد شاركت النساء بدور فعال مع الرجال في قطع خطوط السكك الحديدية وأعمدة التلغراف ومقاومة الاحتلال بكافة الطرق وسقطت العديد من الشهيدات أثناء المعارك التي دارت في القرى بين الفلاحين وقوات الاحتلال لتنال المرأة المصرية بهذا الكفاح شهادة اعتمادها كفرد نافع وفاعل في الوطن مكتوبة بدم أخواتها وتقف النساء بلا حجاب في يوم افتتاح أول برلمان مصري على أبوابه يحملن لافتات كتب عليها "علموا بناتكم واحترموا حقوق نسائكم"، "نطلب منح النساء حق الانتخاب" وأيضا "نطالب بإلغاء التحفظات على الاستقلال، "نطالب باستعادة قناة السويس"، لكن حزب الوفد الذي أصبح حاكما للبلاد وشكل الوزارة ارتد عن وعوده لنساء مصر والتي أطلقها في أعقاب ثورة 1919 مما دفع هدى شعراوي التي كانت قد أصبحت عضوا في الهيئة الوفدية العليا للاستقالة وتأسيس الاتحاد النسائي المصري كهيئة مستقلة، ودفع هذا الحكومة الوفدية للاستجابة لبعض المطالب النسائية بصدور قانون الأحوال الشخصية عام 1926 ولتفتح أبواب الجامعة المصرية للنساء لأول مرة بعد أن أصبحت جامعة رسمية عام 1928. وهكذا كان كفاح الوطن من أجل التحديث والنهضة والاستقلال والحرية مواكبا لكفاح المرأة للنهوض ومواكبة العصر والحرية لتحدث تلك اللحظة التي توحدت فيها مصر مع المرأة المصرية وتصبح حرية المصرية أكبر دلالة على حرية الوطن.