الخميس 23 مايو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام غروب دولة الخلافة العثمانية

12-4-2017 | 12:32

بقلم –  رجائى عطية

ما بين سنة ١٨٦١م /١٢٧٧ هـ التى انتهت فيها ولاية السلطان « عبد المجيد خان » بوفاته وبين إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة فى ٣ مارس ١٩٢٤م / ٢٦ رجب ١٣٤٣هـ ـ نحو ثلاثة وخمسين عامًا تعاقب فيها على دولة الخلافة ستة سلاطين
أو خلفاء : السلطان الثالث والثلاثون : « عبد العزيز خان بن محمود » ثم السلطان الرابع والثلاثون : « مراد خان الخامس » ( ابن عبد المجيد خان ) ثم السلطان الخامس والثلاثون : « عبد الحميد خان الثانى »( ابن عبد المجيد خان ) ثم السلطان السادس والثلاثون : « محمد رشاد خان الخامس » ثم السلطان السابع والثلاثون : « محمد خان السادس » وأخيرًا السطان الثامن والثلاثون آخر السلاطين أو الخلفاء : « عبد المجيد خان الثانى ».

وكان الاستبداد هو القاسم المشترك بين هؤلاء السلاطين أو الخلفاء الستة وكان أكثرهم استبدادًا السلطان « عبد الحميد الثانى » المعروف لدينا فى مصر فاستحق أن يكون المستبد الأكبر !

تولى السلطان « عبد العزيز خان بن محمود » فى ١٨ ذى الحجة ١٢٧٧هـ / ٢٦ يونيو ١٨٦١ م ولم يتفق مساره فى الحكم ولا عزله مع الموكب الحافل لتنصيبه ؛ الذى بدأ كالعادة من ضريح الصحابى أبى أيوب الأنصارى ولا مع الاحتفال الضخم الذى استُقبلت به ولايته فقد زاد إدبار الدولة فى عهده وزادت الأمور سوءًا فما كاد يعلن أنه جاء ناقمًا على ما وصلت إليه الأحوال من سوءٍ بالغ فى عهد أخيه « عبد المجيد » وأنه آتٍ لإصلاح المفاسد التى شاعت فى المالية والإدارة والجيش ـ حتى تبددت وعوده وجرفه البذخ والترف والتنعّم والإسراف فى التبديد وكان من بلاياه أن أوقد شعور البغضاء والحقد بين عناصر الأمة وأوقع البلاد فى الاستدانة الضخمة من المصارف الأجنبية لتغطية كثرة إسرافه ثم جاءت النهاية باتفاق كبار رجال الدولة على عزله واستصدروا فتوى من شيخ الإسلام بوجوب عزله ـ لأنه مختل الشعور يبدد الأموال الميرية ( الأميرية ) فى مصارفه النفسانية إلى درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها وأنه أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها وخرب الملك والملة وبقاؤه مضرٌّ بهما .

وفى ٦ جمادى الأولى ١٢٩٣ هـ / ٢٩ مايو ١٨٧٦ م تم عزله ومبايعة السلطان الثالث والثلاثين « مراد خان الخامس » ( ابن عبد المجيد ) .

ولم يستكمل السلطان « مراد خان الخامس » فى الحكم شهورًا وقبل أن تنقضى هذه الشهور مات السلطان المعزول « عبد العزيز خان » ميتةً كثرت فيها الروايات والأقاويل ما بين قائل بأنه قَتَلَ نفسه لاختلال قواه العقلية بعد خلعه وبين قائل بأن المتآمرين على عزله قتلوه خيفة أن يعود إلى الحكم إلاَّ أن الغموض ظل مكتنفًا كيفية موته رغم اجتهاد الوزراء فى تكليف أطباء القناصل لكتابة تقرير طبى يرجح أنه قَتَلَ نفسه .

وقُتل أيضا فى هذه الشهور التى تولاها السلطان « مراد خان الخامس » ـ قُتل كل من حسين عونى باشا ومحمد راشد باشا فى قصة طويلة متهمٌ فيها حسن بن إسماعيل بك أحد أعيان الجراكسة الذين هاجروا من بلادهم بعد دخولها ضمن أملاك الدولة الروسية .

إلاَّ أن السلطان مراد نفسه لم يلبث أن عُزل من السلطنة لاختلال قواه العقلية فقد ظهرت عليه فيما قيل بوادر الاضطراب العصبى عقب توليته بنحو أسبوع ثم تفاقمت حالته سيما بعد خبر قتل حسين عونى باشا ومحمد راشد باشا وبدأت تداخله خيالات حالت دون الاحتفال بتنصيبه وتسليمه السيف السلطانى فى جامع أبى أيوب الأنصارى كما تجرى المراسم واستدعى الوزراء لفحصه الطبيب « ليدزورف » النمساوى الشهير بمعالجة الأمراض العقلية فأفاد بأنه ميئوس من شفائه وانتهى الأمر باجتماع الوزراء يوم الأربعاء ١٠ من شعبان ١٢٩٣ هـ /٣٠ أغسطس ١٨٧٦ م حيث قرروا بوجوب مبايعة « عبد الحميد خان الثانى » وتمت مبايعته فعلاً فى اليوم التالى بعد عزل السلطان مراد خان الخامس الذى لم يلبث فى الحكم سوى ثلاثة شهور .

أما السلطان الرابع والثلاثون : « عبد الحميد خان الثانى » فقد تم الاحتفال بتنصيبه وفقًا للمراسم المعتادة فى ١٨ شعبان ١٢٩٣ هـ / ١٠ سبتمبر ١٨٧٦م .

وقد حاز هذا السلطان المعروف تمامًا للمصريين لقب المستبد الأكبر ـ وزاد البلاء فى عهده حيث لعبت الهواجس برأسه لكثرة ما سمع من حوادث قتل وخلع أجداده , وآخرهم « عبد العزيز خان » الذى خُلِعَ وقيل إنه قتل , فأكثر السلطان عبد الحميد من العيون والجواسيس , وتعقب كل صاحب فكر أو رأى , وداخله أنه السلطان الأعظم , والخاقان الأفخم , وسلطان البرين والبحرين , وإمام الحرمين الشريفين , وأنه ظل الله فى أرضه , وجعل يصادر الكتب التى جاء فيها أن الأئمة من قريش , ويمنع طباعة العقائد النسفية لأنها تتضمن فصلاً عن الإمامة وشروط الخلافة , وفرض شروطًا وتراخيص للسماح بدخول الكتب المطبوعة أو القادمة من الشام والعراق , وصادر كتبًا لمجرد عبارات أو عبارة وردت فيها .

الوزر الأكبر

والجرم فى حق مصر

التى لم تنل إلاَّ جزاء سنمار !!

فى عهد السلطان عبد الحميد الذى امتد من سنة ١٢٩٣ هـ / ١٨٧٦ م حتى سنة ١٣٢٧ هـ / ١٩٠٥ م , وقع الغزو والاحتلال البريطانى لمصر , واتخذ فيه هذا السلطان ودولة الخلافة العلية العثمانية ـ موقفًا متخاذلاً بل مخزيًا فى التفريط فى حق مصر التى طالما ساندت دولة الخلافة طويلاً فى الحجاز والشام واليونان والموره وغيرها , فإذا بدولة الخلافة تنكص عن واجبها بل وتمالئ الخديو توفيق الذى مال ميلاً اكتنفه العار إلى جانب الإنجليز الغزاة, وتوافقا معًا على سياسة واحدة ضربت الزعيم أحمد عرابى والمصريين فى الصميم , وأسلمت مصر إلى الاحتلال الإنجليزى فى سبتمبر ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ هـ .

لم تتخاذل ـ فقط ـ دولة الخلافة العلية العثمانية , بل تخلت عن واجبها فى الدفاع عن مصر الداخلة آنذاك فى رعويتها والتى امتصت خيراتها , إزاء الغزو والاحتلال البريطانى لها , بل ارتكبت ما هو أشر وأضل سبيلاً , ولم يكفها والخديو توفيق المتحالفان معًا هذا التخاذل , بل تجاوز الأمر هذا الحد إلى ضرب الزعيم الوطنى أحمد عرابى فى الصميم , بطعنة نجلاء فى ظهره , بإعلان تمرده وعصيانه وعقاب كل من يمالئه وهو يناضل والمصريون لصد الهجوم الإنجليزى لاحتلال البلاد .

فصول المأساة !

كان لهذا الموقف الخديو / العثمانى .. المتخاذل , مقدمات وفصول ومشاهد , بدأت حين تواطأت إنجلترا وفرنسا على التدخل فى شئون مصر , ووقف النهضة والإصلاح الدستورى , وتواطأتا تحت بصر الخديو توفيق والباب العالى ضد النظام الدستورى المأمول والذى أوشك مرسومه على الصدور , فافتعلت الدولتان حدثًا يفجر الاضطراب فى مصر , ويصادر إعلان الدستور , يشجعهما ضعف دولة الخلافة العثمانية وخديو لا يرغب فى دستور يضع حدودًا للسلطات ـ بما فيها سلطته ـ فى البلاد .

وفى ٨ يناير ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ هـ ـ تقدم المعتمدان الإنجليزى والفرنسى بإنذار مشترك , فحواه البادى فى سطوره الأخيرة ـ دعوة الخديو ( المتمالئ ) لاتخاذ موقف ضد القوى الوطنية الساعية إلى حياة دستورية والمجتمعة حول مجلس نيابى يمثلها .

توارت الرعوية

إزاء قوامة مدعاة من الأغراب !!

توارت الرعوية التى تتساند إليها دولة الخلافة العلية العثمانية , التى تحتلب خيرات مصر , إزاء هذه « القوامة » المدعاة من إنجلترا وفرنسا , وإدعائهما الحق فى الرقابة على مصر والتدخل فى شئونها الداخلية !

ومن الغريب اللافت أن تتوارى الدولة العلية والخديو توفيق ,أمام الدعوى الباطلة لإنجلترا وفرنسا, بينما يثور عليهما ويتقدم باستقالته ـ السير « جون برايت » أقوى وزراء « جلاد ستون », احتجاجًا على الجريمة النكراء المزمعة فى حق مصر، احتجاجًا لاقى التقدير من جماعة من الإنجليز وجهوا الاحتفاء والتكريم للوزير الإنجليزى المستقيل، لأنه كان « وفيًّا لضميره » .

الترتيب والتوطئة للمذبحة !!

بضرب الإسكندرية !!!

تحت بصر ومتابعة الخديو توفيق، والباب العالى، أرسل قائد الأسطول البريطانى قبل يوم من مذبحة ضرب الإسكندرية، إنذارًا مفضوحًا يتذرع فيه بأن هناك استعدادات حربية آخذة فى الازدياد فى حصون السلسلة وفاروس ( قايتباى ) وصالح، ويعتبر نيافته أن هذه الاستعدادات موجهة إلى الأسطول قيادته دون أن يكلف خاطره الشريف بتفسير لماذا يأتى والفرنسيون إلى المياه الإقليمية المصرية المشرفة على الإسكندرية وقلاعها، ولماذا
لا يتزحزح قليلاً بأسطوله بعيدًا عن المدى الذى يمكن أن تطوله المدفعية المصرية القديمة، والأَقْصر مدى بكثير من مدفعية أسطوله، ولكنه ينذر بضرب الإسكندرية إن لم يتم حالاً تسليمه فى التو كافة البطاريات المنصوبة وفق ما جاء بإنذاره فى اليوم السابق ٦ يوليو ١٨٨٢ م .

كان قمة المأساة أن هذه القلاع أو البطاريات دفاعية ثابتة، ولا تتحرك، ومحكومة بمدى مدفعيتها، وكان من اللافت أن يتصدى إنجليز للأميرال الإنجليزى، فوصف النائب الإنجليزى « ريتشارد » سخافة مزاعمه بقوله فى مجلس العموم البريطانى: « أرى رجلاً يحوم حول دارى وعلامات العدوان بادية على وجهه فأعمد إلى الأقفال لأغلق أبوابى ونوافذى فيثور غضبًا ويزعم أننى أهينه وأهدده وأنه يقتحم بيتى ليذود عن نفسه !!! » ويحذو آخرون حذو النائب « ريتشارد » بينما الخديو والدولة العلية فى سبات ـ أو تناوم ! ـ عميق !

خديعة الخديو والدولة العلية !!!

أورد الرافعى فى كتابه عن الثورة العرابية أن « درويش باشا » مندوب السلطان العثمانى، تقاضى رشوة خمسين ألف جنيه من الخديو توفيق، ليظهر النصح لعرابى بأن يذهب إلى الآستانة لمقابلة السلطان عبد الحميد، مزينًا له أن سيلقى منه كل إكرام ورعاية، بيد أن عرابى فطن إلى مأرب هذه الحيلة الرامية إلى احتجازه بالآستانة، والحيلولة بينه وبين العودة إلى مصر لاستئناف جهاده مع المصريين لدفع العدوان الإنجليزى!، ومن ثم اعتذر عرابى للمندوب العثمانى بأن الأمة المصرية لا تسمح له بمغادرة البلاد.

خديعة مؤتمر الآستانة !!

وكان من المؤسف، أن يزامن هذا الغزو والاحتلال، مؤتمرٌ معقودٌ فى الآستانة عاصمة الدولة العلية، لاتخاذه ذريعة لمهاجمة واحتلال مصر، وكان الأغرب أن ينعقد المؤتمر بحضور إنجلترا وألمانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا، ولكن فى غياب الدولة العلية المنعقد المؤتمر بعاصمتها، متذرعةً فى هذا الغياب المتخاذل ـ بأن إيفادها درويش باشا ( الذى سعى لإغراء عرابى بالتوجه إلى الآستانة لاحتجازه هناك ) ـ كافٍ لحل المشكلة. وبداهةً لم تعبأ الدول الأوروبية بذريعة أو اعتذار الآستانة، وظل المؤتمر معقودًا بحجة النظر فى المسألة المصرية، وظل معقودًا فى عاصمة دولة الخلافة العلية حتى تحققت غايته بضرب الإسكندرية فى ١١ يوليو ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ هـ .

مذبحة ضرب الإسكندرية !

كانت أوامر السلطان أو الخليفة العثمانى « عبد الحميد » قد جاءت بالكف عن ترميمات القلاع والبطاريات، مع أنه ترميم من حق مصر تجهيزًا للدفاع عن أراضيها المهددة، وثغرها الذى يتربص أمامه الأسطول الإنجليزى بمدفعيته الثقيلة !

وبرغم أنه لم يُنصب مدفعٌ جديدٌ واحد ولم تبادر أى من البطاريات المصرية بضرب أى قذيفة على الأسطول الإنجليزى وبرغم إرسال وفد من وزير المالية ووكيل البحرية ووكيلها السابق وسكرتير مجلس الوزراء لمقابلة الأميرال « سيمور » لإيضاح أن المصريين ليسوا أعداءً للإنجليز سدًّا لباب الذرائع إلاَّ أن الأميرال « سيمور » الذى يعرف ما يريد أصر على إنزال جميع المدافع من الطوابى ـ ولو أنزلوها ما تراجع مع تسليم جميع الحصون وأيضًا ما وراء طابية المكس من الأراضى لاتخاذها معسكرًا للجنود الإنجليز !!

كان الأميرال الإنجليزى يعرف هدفه ويصر عليه وهو احتلال مصر !

وبدأت مذبحة ضرب الإسكندرية ومن مدى يطول الطوابى ولا تطول هى الأسطول الإنجليزى الضارب وقامت البوارج والمدمرات الإنجليزية بقصف الإسكندرية يوم ١١ يوليو واستأنفت القصف الكثيف فى اليوم التالى بينما كان الخديو مشغولاً بالانتقال إلى سراى مصطفى باشا الأكثر أمانًا له ولحاشيته وكان من المؤسف أن أنباء ضرب الإسكندرية وتدميرها وإهلاك بنيها قد قوبلت بالسرور فى السراى الخديوية !

الخديو توفيق يكشف عن وجهه !

كشف الخديو توفيق خبيئته فى استدعاء أرسله إلى أحمد عرابى يزعم فيه كذبًا أن ضرب الإسكندرية بالمدافع ـ كان بسبب استمرار الأعمال الجارية بالطوابى وتركيب المدافع فيها وهو زعم كاذب ويتجاهل فى كذبه وافترائه أن ذلك بفرض حصوله جدلاً فإنه إجراءُ وقائى دفاعى من حق مصر على أرضها ولا يبرر للقادم المعتدى عبر البحر أن يقصف الإسكندرية ويدمرها ويقتل سكانها !

ثم يشفع جناب الخديو التابع للدولة العلية هذا التجنى الكاذب يشفعه بأنه قد تلقى من الأميرال الإنجليزى ما يفيد بأنه لا يوجد للدولة الإنجليزية أدنى خصومة ولا عداوة مع
« الحكومة الخديوية » وبأنه لا يمس حقوقها ولا حقوق « الدولة العلية » ويأمر جنابة الزعيم أحمد عرابى بصرف النظر عن جَمْع العساكر وعن كافة التجهيزات الحربية فور وصول أوامر فخامته إليه وأن عليه الحضور حالاً إلى سراى رأس التين « لأجل إعطائه التنبيهات المقتضبة الشفاهية حسب أوامره وما استقر عليه مجلس النظار !! » .

منشور الخديو والباب العالى !!

أشاع أتباع الخديو فى مصر منشورًا من الباب العالى يرمى عرابى والعرابيين بالعصيان والمروق عن طاعة السلطان .

ومن الغريب ما ذكره أحمد شفيق باشا الذى يعمل بالمعية الخديوية بمذكراته فى ربع قرن عن حقيقة التخاذل وما صاحبه ولازمه فيقول إنه بعد احتلال العساكر الإنجليزية مدينة الإسكندرية من يوم ١٣ يوليو ١٨٨٢ م « كنا ننتقد الأميرال سيمور فى أحاديثنا الخاصة لعدم احتلالها ـ أى مدينة الإسكندرية ـ بعد تخريب طوابيها واستحكاماتها فقد كان فى وسعه لو عجل باحتلال المدينة ـ فيما يقول شفيق باشا ـ أن يحول بقواته دون أعمال الحرق والنهب !! » .

والأعجب من هذا أن يصدر الخديو توفيق فى ١٤ أغسطس ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ هـ منشورًا إلى السلطات فى منطقة القناة جاء فيه :

« ليكن معلومًا عند السلطات الملكية والعسكرية فى منطقة قناة السويس أن أميرال الأسطول الإنجليزى وقائد الجيوش البريطانية العام إنما أتيا إلى مصر لإعادة النظام إليها . ومن ثم قد سمحنا لهما باحتلال جميع الأمكنة التى يريان فى احتلالها ما يساعد على قمع العصيان . ومن يخالف أمرنا هذا ينزل به أشد العقاب » .

ولم يكتف الخديو توفيق بهذه الكارثة فألحقها بأخرى فى ذات اليوم حيث أصدر أمرًا آخر ـ بالترخيص لحضرة الأميرال قومندان عموم دولة بريطانيا العظمى فى البحر الأبيض المتوسط وإلى كافة الضباط الذين تحت أوامره أيضًا أن يتخذوا كافة الوسائل التى يجدونها لأزمة لمنع استحضار فحومات ومهمات حربية وعلى طول الخط الممتد من دمياط إلى رشيد والكائن ما بين إسكندرية وبورسعيد !

والتقط القائد البريطانى العام السير جارنت ولسلى الكرة فأذاع بدوره بيانًا فى ١٩ أغسطس دبجه بما شاء وأنهاه بأنه سيتم دفع الثمن فورًا للأهالى عما تحصل عليه القوات البريطانية من المؤن وأن سيادته يقابل بكل ارتياح ما يسديه المأمورون من المساعدة لقمع العصيان القائم ضد الجناب الخديو !

وهكذا لم يعد الأمر أمر الغزو والاحتلال البريطانى للبلاد وإنما عصيان من يدافعون عنها للجناب الخديو وكان ذلك توطئة كما سنرى لإعلان السلطان العثمانى عصيان عرابى !!!

* * *

اعترف أحمد شفيق باشا بمذكراته بأن إعلان« عصيان عرابى » قد ساعد الإنجليز فى تقصير ما أسماه فتنة وفى الظفر باحتلال مصر وقد صدر إعلان هذا العصيان فى ٦ سبتمبر ١٨٨٢ وقد امتلأ هذا الإعلان بالمغالطات وقلب الحقائق ولم يكتف الباب العالى بهذه الضربة القاصمة للقائمين بالدفاع عن البلاد لصد غزو الإنجليز فأرسل «السلطان العثمانى» ـ فيما نقل أحمد شفيق باشا بمذكراته ـ ستة آلاف جندى إلى « فرضة صوداء » بكريد (كريت) لإرسالها إلى مصر عند عقد اتفاقها مع إنجلترا (أى اتفاق الخديو الذى مالأ الإنجليز) على مشاركة هذه الجنود للقوة الإنجليزية . وكان عجيبًا أن يعقب شفيق باشا على هذا بقوله: «ولما وردت البرقية فى ١٥ أغسطس بوصول هذه القوة التركية (القادمة لمناصرة الإنجليز) فرحنا لهذا الخبر (؟!!) » ثم يضيف أنه «مما ساعد على نجاح الإنجليز أن جناب الخديو عين محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب مندوبًا خديويًّا وبمعيته بعض ياوران سموِّه لدى « الجنرال ولسلى » ( القائد العام البريطانى ) وناط به نشر الدعوة وخصوصًا بين العرب لمساعدة الجيش الإنجليزى الذى يحارب العرابيين باسم الخديو !!! أضف إلى ذلك ـ فيما أورد شفيق ـ الهبات المالية التى كان الإنجليز يغدقونها على العربان وخصوصًا الذين قيدوا منهم بقلم الاستعلامات ( أى الاستخبارات ) الإنجليزى » !!!

وجاء فى مذكرات شفيق باشا أيضًا « وفى ٢٢ أغسطس أصدر الخديو إلى الدوائر الملكية والعسكرية فى القطر المصرى إرادة ً أخرى قال فيها إنه لما كان الغرض الوحيد من الأعمال العسكرية التى يقوم بها « السير جارنت ولسلى » هو استتباب الأمن فى مصر فنحن قد صرحنا له باتخاذ التدابير العسكرية التى يرى لزومًا لاتخاذها فيجب عليكم حال وصول أمرنا هذا إليكم أن تبذلوا له المساعدات اللازمة (؟!!!) وتطيعوا أوامره (؟!!!) كما لو كانت صادرة منا (؟!!!) فمن يخضع له كأنه خضع لنا شخصيًّا (؟!!!) ومن خالفه يعد عاصيًا لنا (؟!!!) ويعامل معاملة العاصى (؟!!!) وقد أصدرنا أمرنا هذا إليكم للعمل بمقتضاه » !

ويقر شفيق باشا بأن إنجلترا أعلنت أنها تحارب العرابيين باسم الخديو لردهم إلى طاعته وأن الجيش الإنجليزى الزاحف على مصر إنما هو جيش الخديو !!!

ومن المرارة المؤسفة حتى لا أفيض ـ أكثر !! ـ فى تجرع هذه الغصص أن تتذرع بريطانيا العظمى بعصيان « عرابى » الذى رماه به السلطان عبد الحميد خليفة الدولة العلية العثمانية ورماه به واليه على مصر الخديو توفيق مع عزله ـ ليكون ذريعةً لاحتلال مصر بحجة حماية الخديو وتثبيت مركزه !

عودة إلى الدولة العلية

خُلع السلطان عبد الحميد وعُزل من الحكم غير مأسوف عليه ليبايع ويتوج السلطان السادس والثلاثون « محمد رشاد خان الخامس » فى ٢٧ أبريل ١٩٠٩ م / ١٣٢٧ هـ بعد فتنة ارتجاعية أحدثها السلطان عبد الحميد بما طبع عليه من استبداد فسولت له نفسه إحداث هذه الفتنة لتقويض صروح الإدارة الدستورية .

ومن بعد السلطان « محمد رشاد خان الخامس » تبوأ الخلافة فى سنة ١٣٣٧ هـ /
١٩١٨ م السلطان السابع والثلاثون : « محمد السادس » ومن بعده تولى الخلافة سنة ١٣٣٩ هـ / ١٩٢٠ م ـ السلطان الثامن والثلاثون : « عبد المجيد الثانى » ليتم فى سنة ١٣٤١ هـ / ١٩٢٢ م فصل السلطنة عن الخلافة إلى أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة فى ٢٦ رجب ١٣٤٣ هـ / ٣ مارس ١٩٢٤ .

أسباب الانهيار

يحتاج تقصى أسباب انهيار دولة الخلافة العلية العثمانية , إلى كتاب خاص مستقل , ويحتاج البحث إلى تدقيق كبير وإلى الفحص والموازنة بين روايات عديدة داخلتها الانتماءات الحزبية والمذهبية , فضلاً عن الأغراض والمآرب .

ودون ما دخول فى المناطق التى تباين فيها التشخيص والتقدير بين اتجاهات متناقضة , ليست بريئة من الهوى والغرض , فإنه يمكن رد انهيار وغروب دولة الخلافة العلية العثمانية إلى أسباب رئيسية قد يقل فيها الخلاف , منها ولاية العهد وآثارها القائمة التى استعرضنا بعضها والدماء التى أريقت بسببها , واللجوء بعد تراجع عادة قتل الأخوة والأبناء , وأحيانًا الآباء , إلى السجن أو تحديد الإقامة بالقصور تحديدًا أشبه بالسجن , حتى صارت هذه القصور « أقفاصًا » كثيرًا ما أدت إلى إصابة السجين بالعته وبالعلل النفسية والصحية , ومن هذه المثالب وأسباب الانهيار الحكم المطلق والاستبداد اللذان أخذا يضربا فى جسد الدولة وبنيتها وردود أفعال بنيها ما بين الحقد أو الثورة أو الانتقام , ومنها سيادة النظام الإقطاعى ومثالبه وأضراره معروفة , والأخذ إلى جواره بنظام الالتزام فى الأقاليم والمناطق التى لا تخضع لنظام الإقطاع , وبمقتضى الالتزام تسلم مساحات من أراضى الدولة إلى ملتزمين يتولى كل منهم إدارتها والإشراف عليها , ويلتزم بتسليم الدولة مقدارًا من الأموال فى كل عام متفقًا عليه سلفًا , مما استلزم منح هؤلاء الملتزمين سلطة جباية الخراج بما ترتب على ذلك من استنزاف وظلم الأهالى , ومن المآخذ التى حُسِبتْ على الدولة العلية ـ إلى جوار الحكم المطلق والاستبداد ـ التدخل باسم الأديان فى حقوق الأفراد , مما زرع التعصب الدينى , وشيوع الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الرشوة والفساد , وشيوع طغيان السلاطين , والمذابح الوحشية التى وقعت بين الطوائف باسم الدين , وضعف السلاطين المتأخرين لأسباب متباينة منها صغر السن , وافتقاد الإمكانيات والقدرات والمواهب , ومنها كما رأينا الخلل العقلى والاضطرابات العصبية , فضلاً عن تفشى القروض نتيجة الإسراف والتبذير وانحلال القصور , وإغفال مصالح الأمة , وتعمد إضعاف العرب لحساب الأتراك .

الاتحاد والترقى

ومصطفى كمال أتاتورك والكماليون

وهذه هى المنطقة الحرجة العائمة , التى تصادف الباحث المنقب فيها آراء وبيانات متباينة , بين الموالى والرافض , والمادح والقادح , حتى ترى غاية المدح وغاية الذم أيضًا فى جمعية الاتحاد والترقى , فترى من يمتدحها وترى من يصمها بالدكتاتورية , أو من يتهمها بممالأة الصهيونية , وترى مثل ذلك فى شـأن مصطفى كمال أتاتورك وجماعة الكماليين أو تركيا الفتاة التى أنشأها , فهو الغازى البطل أحيانًا , وهو المهادن لأوربا الصديق للصهيونية أحيانًا , ومن يقول إن الكماليين ذوو جذور يهودية وعلى صلة بالماسونية مثلما جاء فى كتاب شيخ الإسلام : « الأسرار الخفية » , وهم فى نظرٍ آخر إصلاحيون , وهم فى نظر ثالث يبذلون وأتاتورك تضحيات لاسترضاء الغرب , ومناهضة الإسلام بعلمانية الدولة , وتحديد عدد المساجد واقتباس قوانين غربية . وقد كان لهذا كله ذيول متعددة لانزال نلمح آثارها فى تركيا الحديثة القائمة الآن , فى فلسفتها , وفى سياستها , وفى توجهاتها .

وحسبنا هذه الإشارة الموجزة , لنخلص إلى أنه فى ٢٦ رجب سنة ١٣٤٣هـ / ٣ مارس ١٩٢٤ م , تم إلغاء الخلافة وغروب الدولة العلية العثمانية .

وقد كان هذا هو حكم التاريخ قبل أن يكون قرارًا لأتاتورك !