بقلم – د. كمال حبيب
لم يعد الإرهاب محليا وإنما صارت شبكاته متجاوزة لحدود الدول.. ولأول مرة فى تاريخ التنظيمات الإرهابية يستطيع تنظيم إرهابى أن يكون له مركز جغرافى يمثل ملاذا آمنا له، هذا التنظيم هو تنظيم الدولة الإسلامية – داعش الذى بسط يده على ما يقرب من أربعين فى المائة من مساحة دولتين عربيتين هما العراق وسوريا.. وتلك مساحة تزيد على مساحة دولة كبريطانيا.. وعبر نظرياته واستراتيجياته القائمة على “إدارة التوحش” استطاع أن يسيطر على عدد هائل من السكان يصل إلى عشرة ملايين نسمة.
زعم هذا التنظيم أنه يريد استعادة الخلافة الإسلامية التى سقطت عام ١٩٢٤وأنه يريد أن ينشئ إمارات وولايات فى بلدان عربية وإسلامية تكون هذه الإمارات والولايات منطلقا لإقامة كيانات إسلامية عبر الإنهاك والنكاية للدول المستقرة التى له ولايات فيها.
مثل هذا التنظيم الذى استغل تناقضات القوى الإقليمية فى العالم العربى ليكبر ويتوسع ويتوحش، كما استغل التنظيم سياسات الدول الكبرى التى لم تتخذ سبيلا قويما ولا جادا لمواجهته وهو فى مهده.. أمريكا على سبيل المثال فى عهد الرئيس أوباما اعتبرت التنظيم الذى استغل الفراغ فى سوريا بعد الثورة وعسكرتها لا يهدد أمنها القومى.. ونظر أوباما للتنظيم باعتبار قياداته ومخططيه «لاعبو إسكواش صغار”، ومن هنا تضخم التنظيم وتوحش وامتد من العراق إلى سوريا ليعلن دولته فى البلدين معا.
وخرج زعيم التنظيم أبو بكر البغدادى، وهو من مواليد ١٩٧١فى مسجد النورى بالموصل مرتديا لباس السواد وساعة يد فى معصمه الأيمن ليعلن الخلافة الإسلامية وليقول إنها باقية وتتمدد، كان ذلك فى شهر يوليو من عام ٢٠١٤ الذى مثل بداية الصعود المرعب لذلك التنظيم، وقبل الظهور النادر للخليفة المزعوم ذكر المتحدث باسم التنظيم فى شهر يونيه من نفس العام “أبو محمد العدنانى” الذى قتل فيما بعد- أن العراق وسوريا ستختفى من تعاملات الدولة ويحل محلها» الدولة الإسلامية”، وقال العدنانى إن أهل الحل والعقد والأعيان والقادة ومجلس الشورى بايعوا أبا بكر البغدادى وأعلنوا قيام الخلافة.
كان ذلك العام المرعب هو الذى بايع فيه تنظيم «أنصار بيت المقدس” فى سيناء ذلك الخليفة المتوهم المزعوم ليصبح بعد ذلك اسمه «ولاية سيناء»، أى فرع للتنظيم فى مصر وتحول التنظيم من تنظيم محلى له أبعاد إقليمية محدودة مفتوحة على غزة بشكل أساسى إلى تنظيم معولم ضمن شبكة تمتد فى العالم كله من أفغانستان إلى جنوب الصحراء وإفريقيا، حيث يتواجد التنظيم فى الخاصرة الجنوبية للدول العربية من ليبيا وحتى المغرب مرورا بالجزائر طبعا، وهو مفتوح فى نفس الوقت على دول إفريقية تبدأ من مالى وتشاد والنيجر وتمتد حتى نيجيريا، حيث يمثل تنظيم “بوكو حرام” فرعا للتنظيم فى تلك المنطقة ويمثل تهديدا لاستقرار كل تلك المنطقة.
تحولات وتحديات الإرهاب المعولم
لا يكتفى التنظيم فقط بالولايات التى بايعته وهى كثيرة ربما تبلغ أكثر من عشرين ولاية ممتدة بلا مبالغة فى أفريقيا وآسيا بشكل رئيسى وإنما أكملها بطوق مدمر وهو ما أطلق عليه «الخلايا النائمة” والتى تتحالف معها ما يطلق عليه «الذئاب المنفردة».
الخلايا النائمة أوالمخفية هى شبكات لا تعرف أجهزة الأمن فى الدول التى تنشط فيها تلك الخلايا عن أعضائها شيئا، وتعمل تلك الخلايا بشكل أساسى إلى جنب الذئاب المنفردة فى القارة الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، كما تعمل مؤخرا فى روسيا، والمنتمون لتلك الشبكات قدموا من عالم الجريمة والعدمية والضياع فى أوربا وانتقلوا بسرعة إلى الانخراط فى تنظيم داعش الذى لا يتورع أن يضم بين صفوفه مجرمين سابقين وكثير منهم خريجو السجون الأوربية، كان عام ٢٠١٥هو العام الأخطر لعمل تلك الشبكات فى فرنسا، حيث عرفت هولا وتوحشا أرعبها جعلها تعيش أحداثا شبيهة بأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١والتى نفذها تنظيم القاعدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية واستهدف بها مركز التجارة العالمى والبنتاجون بطائرات حولت المبنى الهائل إلى ركام وجاوز عدد القتلى ثلاثة آلاف.
النمط الإرهابى المركب لتنفيذ العملية الأخطر فى أوربا منذ الحرب العالمية الثانية شمل عمليات انتحارية واحتجاز رهائن ومواجهات مع قوات الشرطة شملت تبادلا لإطلاق النار، كما تم إطلاق النار بشكل عشوائى على المدنيين الموجودين فى مسرح باتاكلان.
المسرح الذى تم الإعداد للعملية الكبيرة فيه هو مسرح معولم أيضا، حيث إن صلاح عبدالسلام وأخاه إبراهيم وعبدالحميد أبو عود المخططين الرئيسيين للحدث قد ذهبوا إلى سوريا والعراق وتدربوا هناك وعادوا بتكليفات لتنفيذ عمليات فى باريس التى اعتبروها عاصمة للرجس والضلال ورافعة راية الصليب فى أوربا، وفى بلجيكا وفى حى مولينبيك تم التخطيط للعملية التى تم تنفيذها فى باريس فى ١٣ نوفمبر ٢٠١٥، أى أن الإرهابيين المولودين فى فرنسا ومعهم الجنسية الفرنسية كانوا يتنقلون بين بلجيكا وباريس وهو ما يعنى وجود مسرح مجاوز للحدود وعابرا لها.. وأصبحت تلك العملية المركبة التى جمعت بين ثلاثة فرق إرهابية كل فرقة منها بدأت تعمل فى وقت واحد فى أماكن مفتوحة ومتعددة.. وكلها أهداف رخوة أحدها كان ملعب باريس، حيث تُقام مباراة لكرة القدم وكان الرئيس الفرنسى موجودا يشاهد المباراة وتم حمايته وإخراجه من الملعب.
أصبحت تلك العملية الخطيرة نموذجا لتنفيذ عمليات أخرى ذات طابع مركب أيضا، حيث وقع تفجيران فى مطار بروكسل عاصمة بلجيكا، وتزامن مع ذلك تفجير فى مترو الأنفاق وذلك فى مارس ٢٠١٦، هذه عمليات لشبكات مخفية كما أوضحنا – هذه الشبكات منظمة ولها امتدادها بين دول متعددة وسافر أعضاؤها إلى سوريا والعراق وتلقوا تكليفات من المركز فى مقر دولة الخلافة المزعومة، وكما نفذ عملية باريس أخوان هما صلاح عبدالسلام وأخوه إبراهيم، وإن أخوين أيضا شاركا فى تنفيذ عملية بلجيكا هما خالد البكراوى وأخوه إبراهيم.
كان حجم القتلى مروعا فى عملية باريس إذ زاد على ١٣٠ قتيلا، بينما بلغ عدد القتلى فى عملية بلجيكا ٣٨ قتيلا.
وفى عملية نيس التى لم تنفذها شبكة ولم يتلق منفذها تدريبا فى سوريا والعراق، وإنما تحرك استجابة لدعاية التنظيم الذى دعا المتعاطفين معه إلى التحرك بمفردهم واستهداف ما أطلق عليهم الكفار ولو بحجر أو سكين، دهس المنفذ وهو محمد لحويج أبو هلال من أصل تونسى المحتفلين بشارع الإنجليز بيوم الباستيل بشاحنة وكان عدد الضحايا مرتفعا جدا بلغ ٨٤ قتيلا وسوف شهدت القارة بعد ذلك عدة عمليات دهس بعد ذلك كان آخرها ما تم فى العاصمة السويدية «ستكهولم”.
نحن أمام إرهاب مختلف معولم بشكل أساسى وعابر للحدود والقائمون عليه غير معروفين لأجهزة الأمن والمستهدفون فى العمليات مدنيون يتجمعون للاحتفال بمناسبات وطنية أو دينية أو بنهاية الأسبوع، ويتحول المشهد ليوم القيامة، حيث يبدو الأمر وكأن المستهدفين قد قامت قيامتهم، والإرهاب الداعشى المعولم هو إرهاب ضد الحضارة والإنسان والعصر والعالم ويؤمن بالنهايات، أى أن العالم الذى نعيش فيه يجب أن ينتهى.
الإرهاب المعولم وتحولاته ومصر
هذه هى الصورة التى عليها ذلك الإرهاب المتوحش غير المسبوق، والذى يمثل تحديا كبيرا للعالم وللدول التى يعمل فيها.. وكما أشرت فإن ولاية سيناء كما تُطلق على نفسها تستفيد من قدرات التنظيم الهائلة فى التدريب وفى تطعيم أفراده بمنتسبين للتنظيم من خارج مصر حيث «الإرهابيون المعولمون”، أى هؤلاء الذين قاتلوا وواجهوا وتوحشوا فى مناطق عديدة ملتهبة. يستهدف التنظيم مؤسسات الدولة الصلبة كالجيش والشرطة والقضاة، والمبانى كمديريات الأمن واستهدف حتى طائرة روسية، كما نفذ عمليات فى البحر لأول مرة، وينتقل التنظيم اليوم ليستهدف الأهداف الرخوة من المدنيين فى تجمعاتهم الكبرى التى تعتبر الأعياد الدينية أهمها، واعتبر التنظيم أن الأخوة المسيحيين أحد أهدافه وأصدر شريطا يتوعد فيه ويعلن أنهم هدف له، وأن عملية البطرسية التى تمت فى شهر ديسمبر الماضى، حيث اخترق محمود شفيق منفذ العملية أمن الكنيسة ودخل بحزامه الناسف ليجلس فى المقاعد الأولى ويفجر نفسه ليقتل ٢٩ مصليا، ولأن التنظيم المتوحش يتلمس غفلاتنا ويبحث عن مواضع ضعفنا فقد نفذ عملية شبيهة بعملية البطرسية، بل إنها متطابقة معها.. إذ دخل إلى كنيسة مارجرجس بطنطا وهى الكنيسة الأكبر والأهم فى المدينة، الإرهابى المزنر بحزام ناسف وجلس فى الصف الأول قريبا من مكان الواعظ، حيث يوجد حوله الكهان وفجر نفسه ليبلغ عدد الضحايا فى صلاة عيد الفصح المعروف بعيد السعف ما يزيد على ٣٥ قتيلا، وبعد قليل وفى الإسكندرية، حيث كان البابا لأول مرة منذ توليه منصبه يلقى العظة بكنيسة مارمرقس فجر إرهابى آخر نفسه على باب الكنيسة ليبلغ عدد الضحايا ١٨ قتيلا.
نحن أمام إرهاب معولم منفتح على تقاليد إرهابية متوحشة ويحتاج إلى يقظة ووعى وتكتيكات واستراتيجيات مختلفة.. لا يجب أن نحدع أنفسنا ونقول إننا أدينا ما علينا.. صحيح أن أجهزة الأمن كشفت ووصلت للفاعلين بشكل دقيق وسريع وجيد.. بيد أن التحدى الأكبر أمامنا هو كيف نسبق الإرهاب بخطوة ونوقف عملياته قبل أن تقع.. أن تحدث العمليتان بنفس الطريقة وفى مدة زمنية قصيرة يعنى أن نحاسب أنفسنا ونعالج أوجه الخلل والتقصير عندنا.