السبت 1 فبراير 2025

الرائد راغب عياد.. صاحب فكرة إنشاء الأكاديمية المصرية في روما

  • 20-4-2017 | 10:04

طباعة

مجدى عثمان - ناقد فنان تشكيلي مصري

"أحاديث في الفنون الجميلة في نصف قرن (1908 ـ 1958) ولمحات عن رحلاتي في إيطاليا".. كتاب يطلب آنذاك من 6 شارع نوال بالدقي "القاهرة"، من مؤلفه راغب عياد، أو يتم الاتصال به على تليفون منزله العنوان السابق "807851".

    قدم لهذا الكتاب الأديب طه فوزي الذي أكد على أن تلك الفصول الشائقة مرجع من المراجع المهمة التي لا بد أن يطلع عليها كل من أراد معرفة تاريخ الفن الحديث في مصر، وأوضح أنه ليس هناك من هو أقدر من الأستاذ "عياد" نظرا لأنه عاصر نشأة الفنون الجميلة منذ أوائل هذا القرن العشرين، وساق في سبيل ذلك قصة الفن الرائعة، فقال: مما يجب ذكره بهذا الصدد أن هذين الزميلين الوفيين ما إن أتما دراستهما بمدرسة الفنون الجميلة حتى التحق الأستاذ يوسف كامل بهيئة التدريس بالمدرسة الإعدادية الثانوية، كما عمل عياد مدرسا بكلية الأقباط الكبرى، ولم يشغلهما عملهما في التدريس عن الاشتغال بالإنتاج الفني الذي كان موضع تفكيرهما ومحط آمالهما.. وقد حاولا إتمام دراستهما الفنية في الخارج، ولكن ظروفهما المالية وحاجتهما إلى كسب العيش من التدريس وعدم توفر الهيئات التي تساعد في هذا الميدان كما هو حاصل الآن؛ كل ذلك جعلهما يقومان بعمل رائع ، كان الأول من نوعه فقد هداهما تفكيرهما إلى أن يقوم أحدهما بالسفر إلى إيطاليا للدراسة، على أن يقوم زميله بعمله وأن يرسل له مرتبه للإنفاق منه على نفسه أثناء دراسته حتى إذا ما أتم دراسته وعاد إلى وطنه يحل محل زميله ويقوم بالتدريس مكانه لييسر له أداء رسالته بإيطاليا.

    ويؤكد راغب عياد (١٨٨٢ـ ١٩٨٢) على أنها فكرة كانت بعيدة عن الأنانية فقد كان كل منهما يؤثر زميله، وقد كان يوسف كامل (1891 ـ 1973) هو السابق بالسفر، وقد كان هذا العمل الرائع حديث العام والخاص، حتى تردد صداه في جنبات البرلمان. ويذكر أن هذا العمل هز الاستعماريين وقتذاك هزة عنيفة، وفند ما كانت تلوكه ألسنتهم من الأباطيل للتفرقة بين المواطنين، وأثبت أنه ليس هناك في مصر فرقة بين قبطي ومسلم، وأن المصريين سواسية.

    ومن الواجب أن نُعيد قراءة هذا العمل القيم، فهذا المؤلف رائد من الرعيل الأول، هجر المعهد الذي كان يدرس فيه وهرع إلى مدرسة الفنون الجميلة حين إنشائها والتحق مع طلاب أصبحوا من كبار الفنانين، وهو في أحاديثه هذه عن الفنون لا يُجمل الحقائق، وربما يعطينا دفعا جادا للحركة الفنية للأمام، عبرة من وقت لم يكن فيه غير الجد والعمل، ولا تمنح جوائز على أعمال سارقي الفكر والشكل أو معارض كتالوجات، وليس به هذا السيل الشتام للفنانين بعد أن أصبح بعضهم لبعض عدوا.

   ويبدأ عياد رحلته في رصد وجمع ما عَنّ له وتيسر من ذكريات عن قصة الفنون الجميلة مؤكدا أنها تمثل فصلا رائعا من تاريخ مصر الحديثة حيث مرت بفترة من الركود وكان لإحيائها رد فعل له حين تطوع لها رجل غيور من الأثرياء أراد أن ينقذها من رقدتها بعد أن أدرك افتقاد البلاد إلى إعداد فنانين، وأسس بماله الخاص معهدا للفنون الجميلة عام 1908، وأرسل بعد ذلك البعوث إلى الخارج لاكتساب مناهل الفنون الغربية، وتخرج ثلاثة أجيال خلال النصف قرن (1908 ـ 1958).

   وعن نشأة مدرسة الفنون الجميلة أبرز عياد دور المثال الفرنسي "لابلان" وفي سبيل ذاك قام بترجمة حرفية لبعض فقرات من مقال كتبه "لابلان" ونشرته مجلة فرنسية محلية هي "مصر المعاصرة L’Egypte contemporaine " عام 1907، قبل افتتاح مدرسة الفنون ببضعة أشهر، ويصل إلى "تحرر الفنون الجميلة من السيطرة الأجنبية" عام 1937 مؤكدا أنها قصة واجبة الذكر لما بها من محن في ظل جهاد وصراع الفنانين الأوائل، ومن ذلك أن حقد عقول الاستعمار زاد حين عادت البعوث من معاهد أوروبا عام 1938، ليأخذ أفرادها أماكنهم ويبدأوا كفاحهم في خدمة الفن، وكان ذلك في أنواع الخسف والمقاطعة وتشويه نهضتهم والحد من نشاطهم وإبعادهم عن الأوساط الفنية، حيث كان الأجانب يحتفظون بالوظائف ملكا لهم ووقفا عليهم وحدهم، في حين تحرّم على المصريين الذين زادت نقمتهم، فرفعوا الأمر إلى مجلس النواب مطالبين بالحماية من المظالم فيما كانت عقود الأساتذة الأجانب تتجدد من تلقاء نفسها سنويا، رغم ما تكشف من عدم كفاءتهم، وكان لتلك الصيحة صدى إيجابي وأسفرت عن تصريحات حاسمة لوزير المعارف ووكيلها آنذاك فتعهدا أمام المجلس بعدم تجديد عقودهم، والاستغناء عنهم فورا وإحلال الشبان العائدين من البعثات محلهم.

   ويذكر عياد بإجلال هؤلاء الفنانين الشباب الذين فارقونا مبكرا، وهم المثالون (محمود مختار وعثمان دسوقي وأنطون حجار ومحمد حسن) والمصورون (أحمد صبري وعلى الأهوانى ومحمد ناجى ولبيب تادرس ونحميا سعد وسحاب الماس وأدهم وانلى ومحمد حسن) والمزخرفون (ميشيل حجار وحسين رجب ومحمد ياقوت) والمهندسون (فريد نجم وبيير فرنجولس والكسندرو ليمنجيللى وإبراهيم فوزي ومحمد أنيس).

   ورصد عياد ما صادفه الفنانون في نصف القرن (1908 ـ 1958) من عراقيل وصعوبات: "ظهرت في زمن كان من المستحيل علينا فيه تحقيق أي مشروع نافع مفيد للبلاد دون أن يقاومه العدو الأجنبي المستعمر والرجعيون أعداء التقدم بكل عنف وشدة". وأعتقد أن عياد هنا كانت ما تزال تؤلمه الوقفات العدائية ضد إقامة مدرسة الفنون، حيث كانت السياسة الأجنبية تهدف إلى التعليم المحدود والتحكم في المستوى الثقافي المصري.

    وفي شأن إنشاء أكاديمية – أو أكاديما كما يكتب عياد- في روما للفنون الجميلة يعرض لنا نص المذكرة التي رُفعت إلى وزير مصر المفوض بروما سابقا، وهي:

   حضرة صاحب المعالي أحمد ذو الفقار باشا وزير مصر المفوض بروما، يا صاحب المعالي. مقدمه راغب عياد عضو البعثة بمعهد الفنون الجميلة العالي بروما يتشرف برفع هذا التقرير إلى معاليكم "إن مصر كنانة الله حازت في عهد الرفعة والمجد عهد الفراعنة قصب السبق في مضمار الفنون الجميلة التي كان لها شأن عظيم وعناية لا مثيل لها في الفنون.. ولقد يعتريني الأسف الشديد عندما أقارن حالة مصر من الوجهة الفنية في تلك العصور الغابرة التي كانت فيها مصر منارة الشرق ومنبع الفنون بما أصبحت عليه الآن من إغفال الفنون الجميلة، حتى كادت أن تتلاشى، لولا أن أتاح الله لها ذوى الغيرة والهمم العالية الذين أخذوا بناصرها وأنقذوها من هاوية الزوال..

    وموسولينى منذ أن تربع في دست الحكم قرر إعفاء الأجانب من مصاريف الدراسة مع تخفيض 75 % من أجر السفر، فهي – إيطاليا- بالإيجاز ترحب بكل قادم للتحلي بعلومها وآدابها وفنونها.

   وتقوم الحكومات بكافة النفقات اللازمة لإرسالياتها، علاوة على ذلك فإنها تمنحهم مبالغ معينة للوازمهم الخاصة، وفي نهاية كل سنة يقام معرض توضع فيه أعمال الفنيين التابعين لكل أكاديمي ويفتتح هذا المعرض ملك إيطاليا مع بعض الوزراء، فيستعرضون أعمال المبعوثين ويشجعون الطلبة، وفي نهاية المعرض تعتبر كل المعروضات ملكا للحكومة خاصة بالأكاديمى.

   أرسلت الدولة التركية آنسة فنانة تدعى مهري هانم راسم لدراسة مشروع إقامة أكاديمى من هذا الطراز، فدرسته بكل دقة، ولما عادت حبذت لدى الحكومة هذا المشروع وعملت ما من شأنه وضعه في حيز التنفيذ. ولما كنت فخورا بتحقيق هذه الأماني، رأيت أنه من المناسب أن أطلب من معاليكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن زملائي المقيمين بروما، طلاب الفنون الجميلة، أن تتوسطوا لدى حكومتنا لكي تؤسس لها معهدا على الطراز الموجود لسائر الحكومات في روما يضم بين جدرانه الفنيين الذين على أهبة الاستعداد للالتحاق به وبهذا يكونون أتموا دراستهم الأولية في مدارس مصر.

   ومع ثقتي بأن معاليكم ستعيرون أمنيتي هذه بما تستحقه من العناية والالتفات. أرجو التفضل بقبول عظيم احترامي وتشكراتي.

 مقدمه راغب عياد عضو بعثة الفنون الجميلة بإيطاليا، روما 24 يونيه 1924.

    ويقول إنه وبناء على ذلك طلبت الوزارة الموافقة على فتح اعتماد إضافي بمبلغ 2067 جنيها سنويا تُصرف على هذا المشروع لحين البحث في موضوع تشييد دار للأكاديمية. أما عن موضوع الأرض التي أظهرت الحكومة الإيطالية استعدادها لتقديمها هبة للحكومة المصرية لبناء الأكاديمية المصرية عليها فقد عرضت الحكومة الإيطالية أن تمنح مصر 2200 متر في مقابل أن تمنحها الحكومة المصرية قطعة أرض تماثلها في عاصمة القطر المصري، وقد كتب وزير مصر في روما إلى ناظر مدرسة الفنون الجميلة عام 1927 بمعاينة الأرض وتثمينها والاستفهام من الحكومة الإيطالية عن مكان البدل الذي تطلبه مصر؛ عندما يتم بحث هذا الموضوع وتعمل مقايسة عن البناء وتقوم وزارة المعارف بالمشروع، وقد تم كل ذلك والأرض المفروض إقامة أكاديمية عليها للدولة المصرية لا تزال أرض فضاء، أما الحكومة الإيطالية فقد نشطت بمشروع البدل وانتخبت قطعة الأرض لإقامة مدرسة عليها فتمت الصفقة وتم مشروع البناء فعلا، وحصل كل ذلك في مدة وجيزة لا تزيد على عام واحد، وها هو معهدها الضخم الذي نشاهده افتتح منذ أربع سنوات وهو الكائن بشارع شبرا أمام جامع الخازندار الملقب بمدرسة "28 أكتوبر" نسبة إلى "تاريخ دخول الفاشيست ظافرين عاصمة إيطاليا، أما نحن فقد اكتفينا بموافقة مجلس الوزراء على المشروع ويؤخذ من مذكرة وضعتها وزارة المعارف أن تكون تكاليف تشييد الأكاديمية 25 ألف جنيه ونقترح أن يعهد في البناء إلى مهندس إيطالى من الخبيرين بإقامة أمثال هذا المعهد الفني، واكتفت وزارة معارفنا بالدار المؤقتة التي وضعتها الحكومة الإيطالية تحت تصرف حكومتنا وهو قصر كوزمودى كولوابيو؛ وهي دار قديمة في وسط حديقة غناء واقعة على أطلال سراي الإمبراطور نيرون المشهورة بالقبة الذهبية على مقربة من الكولوازمو وهي من المباني الأثرية المعروفة في روما".

    وعما يهم المصورين والمثالين والمزخرفين، قال عياد: بدأت دراستي الفنية بمعهد الفنون الجميلة الأول عام 1908، وإني أصارحكم بأني مدة دراستي لم أكن طالبا نموذجيا ولا ممتازا ولا شيء على الإطلاق، بل طالبا عاديا، ولم أحظ برضى أساتذتي ولم أنل تقديرهم وتشجيعهم، لأني كنت من الثائرين على الكلاسيكية والقواعد الفنية الضيقة المقيدة. كما كنت أكره، ولا أزال بطبيعتي، الدراسات الأكاديمية البحتة، كالرسم عن التماثيل الصامتة لأنها كانت في نظري مجردة من الحياة، كما كنت أكره الاستماع إلى النظريات والأساليب المدرسية المحدودة الضيقة، وكل ما يتحتم اتباعه من أصول وقواعد موضوعة للفن لا يمكن التحول عنها بأي حال، و"الشاهد" الإجرومية المملة التي مررتم عليها، وربما يكون بعضكم تحت تأثرها حاليا.. تحملت هذه الحياة 3 سنوات متوالية إلى أن تركت المعهد سعيا لكسب عيشي، وشعرت في ذاك الوقت أني انتقلت من طور التبعية إلى طور الحرية المطلقة، فالتحقت بمدرسة الطبيعة، أو سموها "مدرسة الشعب"، فبدأت دراستي المنشودة عن الحياة الريفية، وانفعالاتى الوجدانية وسعيي وراء البحث والتحصيل، فكان لهذا التنقل بدء حياة جديدة، بل كانت نقطة تحول في حياتي، لأني شعرت أن نافذة انفتحت أمامي وأرتني عالما جديدا، عالم الحياة الحرة الطليقة التي تعكس في النفس الذاتية المستمدة من أحلام داخلية، لأني كنت مؤمنا بمذهب الحرية في الفن، وبأن مدرستي هى الطبيعة المجردة بكل ما حوت ووحيّ هو الشعب، أتلقى قواعدهما وأصولهما من الطبيعة بما تشمل من موضوعات متعددة وعناصر متنوعة، من ضمنها الفلاح والعامل وكافة طبقات الشعب والحيوانات الأليفة المشاركة لهم في كفاحهم اليومي. وإليهم يرجع الفضل في معاونتي على تفجير الشعور وإطلاق المواهب الفنية التي كانت كامنة في قرارة نفسي.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة