حين نقرأ سيرة طومان باي، آخر سلاطين المماليك الجراكسة، نجد أننا أمام شخصية فريدة، تحول من ملك مهزوم إلى شخصية أسطورية سحرت الشعب المصري ببطولته ومواقفه وصفاته وأخلاقه، ويذكرنا ذلك بأبطال الملاحم اليونانية القديمة، فطومان باي أقرب إلى الشخصية الأسطورية للملك الإسبرطي ليونيداس (Leonidas )، الذي واجه جحافل الفرس بـ 300 فارس فقط، وقتل منهم الألوف بهذا العدد الضئيل، وقد احتل طومان باى مكانة كبيرة في وجدان الناس فى مصر، إذ رأوه بطلاً، رفض الاستسلام وأصر على حماية القاهرة، وحارب ببسالة ليمنع سقوطها في أيدي العثمانيين، فتناقل المصريون حكاياته وصموده البطولي أمام جحافل الغزو العثماني، برغم هزيمته واستشهاده، فصار أحد أبطال السير الشعبية التي أُغرَم بها الناس، وتناقلوا أخبارها عبر التاريخ.
مسيرة حافلة
يذكر ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور" (اسمه الأشرف أبو النصر طومان باي)، جركسي الأصل، اشتراه السلطان قانصوه الغوري، وكان يمت له بقرابة، وأهداه إلى السلطان الأشرف قايتباي، ولهذا يُدعى (طومان باي من قانصوه)، فصار من جملة مماليك قايتباي الكتابية، وفي عهد الملك الناصر محمد بن قايتباي تم عتقه وخصص له خيلا وغلمانًا، وبقي جدارًا ثم خاصكيًا واستمر على ذلك حتى تولى قريبه قانصوه الغوري سلطنة مصر في شوال سنة 906 هـ - أبريل 1501 م، فأخذ يترقى في المناصب، حتى تولى منصب الدوادار الكبير (الذي يبلّغ الرسائل للسلطان ويقدم إليه المظالم)، فتضاعفت عظمته جدًا، واجتمع فيه عدة وظائف سنية ولا سيما لكونه قريب السلطان، وتصدى طومان باي لثورة بعض المماليك على السلطان الغوري الذين أظهروا العصيان ومنعوا الأمراء من القلعة حتى سكن الوضع، وفي عام 916 هـ ثارت جماعة من المماليك بسبب النفقة، ونهبوا سوق ابن طولون والدكاكين الواقعة حوله، فغُلقت الأسواق، فانطلق الأمير طومان باي يطوف على المماليك، فمن وُجِد عنده شيء من النهب أخذه ورده لأصحابه، ثم هدأ المماليك بالعدول عن ثورتهم وأقنع السلطان بترضيتهم، أيضا استطاع إخماد الفتن وقمع حركات التمرد والعصيان التي قام بها العربان في الصعيد والغربية والبحيرة نابلس، حيث قطعوا الطريق وأفزعوا المسافرين، فأعاد الأمان.
وفي ربيع الآخر سنة 922 هـ عندما خرج السلطان الغوري إلى الشام لمواجهة الغزو العثماني، خلع عليه وعيّنه نائب الغيبة في القاهرة إلى أن يحضر، فسار في الناس أحسن سياسة في غيبة السلطان، وكانت الناس عنه راضية، حيث أشاع الأمن في القاهرة وكبح جماح المماليك، فأمر بأن يُنادى في القاهرة بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، وبأن يعلقوا على كل دكان قنديلا من المغرب، وأن لا مملوكا ولا غلاما ولا عبدا يخرج من بعد العشاء ومعه سلاح، فضج الناس له بالدعاء.
زهده
وبعد مقتل السلطان الغوري في موقعة مرج دابق وهزيمته من العثمانيين عام 1516، تم اختياره سلطانًا على مصر.
وتصور لنا المرويّات التاريخية والشعبية أن طومان باي صاحب الصولات والجولات الدامية، شخصية بسيطة في التعامل مع الآخرين، وتتَّضح ذروة مواقفه التي تظهر قيمَ الفارس المقاتل رمحًا وكلمةً، حين رفض الحكم، حتى أجبروه على قبول المُلك والجلوس على عرش السلطنة، وظل طومان باي كما هو فلم يُغيره مُلْك، بل ظل في كل حالاته قريبا وسندا لبُسطاء الناس، فلم يكن متكبرا أو متجبرا مثل باقى سلاطين المماليك.
يذكر د.عبد المنعم ماجد في كتابه (طومان باى آخر سلاطين المماليك فى مصر) أن طومان باى كان يشغل منصب نائب السلطان قانصوة الغوري، وكانت معظم أعمال القصر والسلطة بين يديه، وما أن قتل الغوري، حتى انهالت الترشيحات على طومان باى، لكى يتولى الحكم، والذى ظل يرفضه لمدة 50 يوما، وذلك بسبب ضعف الموقف العام وتشتت قلوب الأمراء وحصول فتنة من قبل بعض المماليك، حيث كان خان الخليلي قد نُهِب وقُتِل جميع التجار بحجة أصولهم العثمانية، إلا أن رجال الدين فى مصر، ظلوا يضغطون عليه من أجل موافقته، ليكون ثانى سلطان مملوكى بعد قانصوة الغورى، يتم اختياره من قبل المصريين عن طريق زعماء الدين.
حروبه
يسجل لنا ابن زنبل الرمال (أي ضارب الرمل وقارئ الطالع)، وهو الشيخ أحمد بن أبي الحسن بن علي بن نور الدين المحلي الشافعي، ابن زنبل (ت 960هـ ) سيرة السلطان طومان باي في كتاب بعنوان (آخرة المماليك )، والذي كتبه بعد استشهاده بنحو40 سنة، جمع فيه المرويّات التاريخية والشعبية، وصارت واحدة من السير التى تُروَى فى مقاهى القاهرة فى العصر العثمانى عن معارك طومان باي ضد سليم الأول وجيوشه، ثم وقوعه فى الأسر وشنقه ومصير الخونة.
فيذكر بمجرد أن وصلت الأخبار إلى القاهرة باستيلاء العثمانيين على الشام وتوجههم صوب غزة، أعلن طومان باي النفير، ودعا الشعب كله للمشاركة، ويذكر ابن إياس: فاستحث بقية الأمراء الذين تباطأوا عن الخروج استعدادًا للسفر إلى غزة بسبب النفقة وعنّفهم بقوله: أُخرجوا قاتلوا عن أنفسكم وأولادكم وأزواجكم، فإن بيت المال لم يبق فيه لا درهم ولا دينار، وما عندي نفقة أنفقها عليكم.
فخرج جيش المماليك بقيادة جان بردي الغزالي لملاقاة الجيش العثماني بالقرب من بيسان في غزة يوم الأحد 24 من ذي القعدة سنة 922 هـ ، وكانت الهزيمة للمماليك لتواطؤ جان بردي بك مع الجيش العثماني. وبعد موقعة غزة التقى طومان باي بالجيش العثماني في خمس معارك حربية في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر هي ( موقعة الريدانية يوم 29 من ذي الحجة 922 هـ) و ( موقعة الصليبة في ليلة الأربعاء 5 محرم 923 هـ) و (موقعة أطفيح) و (موقعة الجيزة ) و( موقعة وردان - إمبابة حاليا)، ويصف ابن زنبل الرمّال بسالة السلطان طومان باي في هذه المعارك لدرجة أنه حقق انتصارات في بعضها على الجيش العثماني الذي مُني بخسائر فادحة، ولولا الخيانة من ناحية والأسلحة الحديثة مع الجيش العثماني من ناحية أخرى، لكانت النتيجة تغيرت لصالح جيش طومان باي، حيث لما سمع الجراكسة ضرب البنادق هرب غالب العسكر بعد أن كانوا غالبين مستبشرين بالنصر؛ ويصفها ابن زنبل الرمّال بقوله: فما زالوا في مشوارهم وهم يطعنون بالقنطاريات حتى غاصوا في جميع عسكر الروم بجملتها، فلله درهم من فرسان لكونهم لقوا هذا الجيش العظيم بنفوسهم، فما زالوا يضربون ويطعنون حتى وصلوا سنجق السلطان وقتلوا من حوله وأسروا وزيره سنان باشا وقتله طومان باي ظنا منه أنه هو السلطان سليم بنفسه، وكانت الخسائر فادحة من الطرفين، إلا أن الهزيمة كانت من نصيب طومان باي والمماليك.
وقال ابن زنبل: وأما طومان باي فإنه لم يهرب، وحط عليهم حطة الأسد الغضبان، وقتل فيهم قتلا حتى كل ساعده، ولكن ماذا يفعل الواحد في مائتي ألف وأكثر، ثم رجع، فلم ير خلفه أحدا من عسكره.
ويستمر ابن زنبل الرمّال في سرد ما كان بين السلطان طومان باي والسلطان سليم الأول من معارك ومنازلات، ظل طومان باي يقاتل من حي إلى آخر، حتى المعركة الأخيرة بمنطقة وردان (إمبابة حاليا)، حيث انكسرت شجاعة المقاومة أمام القوة الهائلة والعتاد الضخم للجيش العثماني.
خيانة مرعي
لجأ طومان باي إلى البحيرة حيث صديقه الشيخ حسن بن مرعي - من عربان البحيرة - الذي أقسم له سبع مرات على المصحف أنه لا يسلمه لعدوه، وكان طومان باي قد أنقذه يومًا من حبس السلطان قانصوة الغوري، فتوقع أن يذكرها الشيخ له ولكن ابن مرعي سرعان ما غدر بضيفه وأبلغ العثمانيين عنه.
يحكي ابن زنبل الرمّال أن السلطان طومان باي خلال إقامته لدى عربان البحيرة قال لأمرائه : إني أريد أن أخبركم بما رأيت في هذه الليلة ، (رأيت أن قائلا يقول لي ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئك السلام ، ويقول لك ، إن دولتكم قد زالت ، وعمركم قد فرغ، وأنت جارنا في الجنة بعد أربعة أيام، اِرجع عن القتال، فلا فائدة لك فيه)، وأنا قد عزمت على رمي سيفي في هذا البحر المالح، وقال لهم "كل واحد يذهب إلى حيث أراد وهذا آخر اجتماعنا في الدنيا والقيامة تجمعنا في الآخرة" فبينما هم في هذا الكلام إلا ورأوا الخيل قد أقبلت من بعيد، فحطوا على عدوهم، لكن ماذا يفعل عدد قليل مع هذا الجيش الذي أرسله السلطان سليم بقيادة جان بردي بك للقبض على طومان باي، وبالفعل تم لهم المراد وأرسلوا من يبشر السلطان سليم بأنهم قبضوا عليه مسكًا باليد، وأنهم قادمون بالقيد والبند بعد أن كان رمى سلاحه في البحر المالح وسلم نفسه بالأمان وقد تشتت جميع عساكره وأمسكوه باليد وهو واقف على جبل عال بمفرده، ففرح السلطان بذلك غاية الفرح وقال "الآن ملكنا ملك مصر" فحملوه إليه في الأغلال، لكن السلطان سليم أبقاه في أسره عدة أيام. وكان يشاع أنه ينفيه إلى مكة، بل وشاع أنه قد يجعله نائبًا عنه على مصر.
الشعب يودع سلطانه
وفي يوم الاثنين 21 ربيع الأول سنة 923 هـ الموافق 13 أبريل 1517 م، تحرك موكب طومان باى للمرة الأخيرة من معسكر سليم الأول بإمبابة، عابرًا إلى بولاق، مخترقا القاهرة، وانتهى الموكب الأخير لــ طومان باى عند باب زويلة، شق شوارع القاهرة من الشرق إلى الغرب، وهو يسلم على أهل القاهرة المصطفين على جانبي الطريق، ولم يعلم أنه سيُشنق إلا عندما وصل، فوقف على قدميه وقال للناس من حوله: اقرأوا سورة الفاتحة ثلاث مرات، وقرأ الناس معه الفاتحة، ثم قال للمشاعلي: اِعمل شغلك، حيث شُنق هناك وسط صراخ الناس وعويلهم، وكان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام، وبكت عليه الأرامل والأيتام، وظلت جثته معلقة على باب زويلة ثلاثة أيام، ولم يشنق على باب زويلة غيره.
قال ابن زنبل الرمّال، الذي وصل إلى علمي من لفظ سيدي محمد ابن السلطان الغوري، إن السلطان سليم لم يكن في نيته قتل السلطان طومان باي وإنما كان السبب في ذلك خاير بك، نائب حلب، وجان بردي الغزالي، فإنهما لما رأيا السلطان سليم لم يسهل عليه قتله وصرح لهما في المجلس العام أن مثل هذا لا يقتل لأنه لما رأى كلامه سديدا وهو حق وصدق وثبت عنده صدقه وظهر له حاله ورأى من شجاعته ما يفوق الوصف، لم يسهل عليه قتله، وكان يريد أن يأخذه معه إلى بلاد الروم ويبقيه عنده ذخيرة بعد أن يستحلفه الأيمان المغلظة، وقد ثبت عنده دينه وصلاحه.
كان، رحمة الله عليه، محبوبا لكل من يراه، فلا يراه غريب ولا قريب إلا وأحبه وشهد له بالصلاح، غير أن خاير بك والغزالي خشيا على نفسيهما من بقاء طومان باي حيًا، فألحا على السلطان سليم بقتله، لأن حكم العثمانيين في هذه البلاد سيظل محفوفا بالمخاطر ما عاش طومان باي، فاقتنع السلطان سليم بقولهما فأصدر قراره بشنقه على باب زويلة.
ويذكر ابن زنبل، أنه بعد شنق السلطان لـ طومان باى، أُقيم احتفال تشييع جثمان لا مثيل له، ورغم أن السلاطين العثمانيين يحملون في بعض الأحيان توابيت آبائهم ولا يدخلون تحت أى تابوت آخر يحملونه، إلا أن السلطان سليم الأول اكتنف تابوت طومان باى وكان قد أرسل كفنا فاخرا ليكفّن فيه، وحضر مراسم تشييع الجثمان الرسمي جميع الرجال العثمانيين والمماليك معًا، ووزع السلطان سليم الأول النقود الذهبية على الفقراء تطييبا لروح السلطان طومان باي، رحمه الله، لمدة 3 أيام.
ومما يُحكى أن أرملته منذ مقتله حتى اليوم تخرج في آخر الليل من أحد مساجد القاهرة القريبة من باب زويلة وبين يديها (قُلة) لا تفرغ من الماء أبدا، وتروي بها الجنود العطشى العائدين من ميادين المعارك، وتحفزهم على مواصلة القتال، حتى طُرد أعداء طومان باي وشانقيه.
صفاته
يذكر ابن زنبل الرمّال في كتابه (آخرة المماليك) صفات السلطان طومان باي، اتفق الجميع على أنه كان مِقداما خبيرًا بالحرب ومواقع الطعن والضرب والدخول في الميدان والخروج منه لا يرهب الإقبال ولا يخطر الموت له على بال، وكان متوسط الطول ذهبي اللون واسع الجبين أسود العينين والحاجبين واللحية، وكان ديّنًا صالحًا خيّرًا فاضلا زائد الأدب والسكون والخشوع والخضوع، ملازمًا لزيارة المشايخ، الأحياء منهم والأموات، حتى أنه لما غسّله الغاسل وقلّعه ما عليه من الثياب، وجدوا على بدنه جِبة صوف حمراء وأوصى أن يدفنوه بها، ولم يظهر عنه في حياته شيء من الأفعال الرديّة أبدا، لا شرب الخمر ولا زنا ولا فواحش أبدا، لا يُظهر شيئا مما يفعله أهل التجبر والعنف، وكان الغالب على حاله السكينة والوقار، وكان غالبا على نفسه رزينا في أحواله، ليّن الكلمة، ذا انخفاض، كثير الرحمة والشفقة على كل أحد، حتى أنه لما ظهرت منه هذه الفراسة والشجاعة في قتال السلطان سليم، صار الناس يتعجّبون منه غاية العَجَب ولم يكن أحد يظن أنه بهذه الصفة، وكان الذي عمره ما رآه إذا رآه لا يشك في أنه عبدٌ صالحٌ، فالصلاح والأنس والخيرية كانت ظاهرة عليه وعلى وجهه؛ وكان القاضي أصيل الطويل والذي توفى سنة 970 هـ ، دائما يحكي عنه الحكايات الغريبة والأمور العجيبة التي تشهد له بأنه من عباد الله الصالحين؛ وكما تشير المصادر إلى أن السلطان طومان باي، كان زاهدًا فى جمع المال بخلاف غيره من أمراء المماليك.
يذكر د.عبد المنعم ماجد في كتابه (السلطان طومان باى، آخر سلاطين المماليك فى مصر)، كل من ينظر إليه يحُس فيه بالسكينة والوقار، ولا يشك فى صلاحه، وأنه صاحب عقل وتدبير، وفروسية وشجاعة، خاصة أنه صاحب مبدأ، فضلا عن أنه كان محبوب الصورة عند الكل، وذلك بناء على التقدير لسيرته على مدى القرون.
يؤكد د. عماد أبو غازى فى كتابه (طومان باي السلطان الشهيد)، أن حب الناس لـ طومان باى لم يكن مرتبطًا بتوليه للسلطنة ومقاومته للعثمانيين، فمنذ كان أميرًا دوادارًا كبيرًا فى عصر عمه السلطان الغورى، كان محببًا لعامة الناس لاختلافه عن غيره من الأمراء، وامتد الإعجاب بطومان باى إلى الأوروبيين المعاصرين، فبعد أكثر من مائة عام على شنقه، نجد صورة هذا المشهد حاضرة فى كتابات الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر، وقد دفع هذا الإعجاب مؤرخًا إيطاليا معاصرًا لطومان باى، هو باولو جيوفو، إلى وضع طومان باى ضمن الشخصيات التاريخية الكبرى فى العالم، وإلى إفراد قسم من تاريخه لطومان باي.