الأربعاء 15 مايو 2024

سبيكة الهوية المصرية.. وملحمة استعادة طابا

فن11-10-2020 | 21:23

تحلق الهوية المصرية بجناحى (جيولوجيا التنوع) و(جينات الاعتدال).


فى آفاق رحبة من الفكر والإبداع.. وكل من حاول كسر هذين الجناحين، أصابته لعنة (غضب العنقاء).. ليطرد ويطارد حتى لا يدنس ذلك (النسيج الشريف) للهوية المصرية.. ذلك النسيج الذى تحول إلى (سبيكة عبقرية).. نتجت عن انصهار الكثير من الحضارات والثقافات فى (البوتقة المصرية).. وقد أثبتت تلك السبيكة على مر العصور.. استحالة فصل عنصر من عناصرها.. أو تغليب عنصر على بقية العناصر.. حيث نجد الفرعونية المبدعة التى صنعت فجر وضحى الحضارة الإنسانية.. ونجد أيضاً البصمات الإغريقية والرومانية والقبطية والإسلامية.. إلخ.. ونجد إبداع مصر الذى استطاع (تمصير) كل هذه الحضارات والثقافات.. وعندما نغوص فى أعماق الهوية المصرية.. نكتشف كيف كانت مصر عربية حتى قبل الفتح الإسلامى.. وكيف فهمت مصر الإسلام الصحيح وجعلته وسطياً معتدلاً.. كما أراده الله سبحانه وتعالى.. فالسمة الأساسية والأهم للخريطة الجينية المصرية هى الاعتدال.. وفى مجتمع يقوم على التنوع والاعتدال.. لا يمكن لفصيل من هذا المجتمع مهما كان حجمه أو قوته.. أن يحتكر وحده الحقيقة.. ومثل هذا الأمر يجعل الدولة المصرية عصية على القولبة والتشدد.. وكل من حاول أو يحاول فرض رأى واحد أو اتجاه محدد على المصريين.. وكل من حاول أو يحاول فرض التشدد مكان الاعتدال.. فإن مصر تلفظه.. كما تلفظ النار (خبث الحديد).


ومن ملامح عبقرية الشخصية المصرية.. أننا جميعاً ما زلنا حتى الآن نمارس بعض الطقوس الفرعونية والقبطية والشيعية.. فى دورة حياتنا العادية.. بما يعنى أن هذه الطقوس قد صارت (مصرية).. وجزءًا أصيلاً من ثقافة هذا الشعب.


كما أن منظومة التنوع والاعتدال.. التى تشكل العمود الفقرى للهوية المصرية.. جعلت هذه الهوية (مقبرة للغزاة).. فرغم تعرض مصر على مدى تاريخها الطويل.. للكثير من عمليات الغزو والاحتلال.. إلا أنها استطاعت طوال الوقت الحفاظ على (نقاء هويتها).. حيث أخذت من الغزاة ما يناسب هذه الهوية.. وفى كل الأحوال استطاعت أن تترك بصمتها واضحة جلية على هؤلاء الغزاة.


وقد حدثت - على الأقل - فى تاريخنا الحديث والمعاصر الكثير من الخلافات والاختلافات والصراعات حول هوية مصر.. فهناك من نادى وينادى بفرعونية مصر.. أو بقبطيتها.. أو بعروبتها.. أو حتى بانتمائها إلى البحر المتوسط..


ومثل هذه الاختلافات تشبه تماماً مجموعة العميان.. التى راحت تصف الفيل.. وكل واحد منهم يصف الجزء الذى يلمسه فقط.. ويعتقد أنه الفيل.. بينما الفيل هو كل هذه الأجزاء.. بما يعنى أن كل هذه العناصر مجرد روافد من الهوية المصرية.. والتى استطاعت أن تصهر كل هذه العناصر فى سبيكتها شديدة الخصوصية والتميز.. وقد حاول البعض بسذاجة أن ينقل الصراع حول الهوية المصرية من هذه الكليات (فرعونية - قبطية - إسلامية - عربية.. إلخ).. إلى تفريعات داخلية وسطحية مثل (صعيدى - فلاح - بدوى - نوبى.. إلخ).. ومثل هذا التوجه المريض ليس إلا مؤامرة مسمومة.. فمثل هذه التوصيفات تشبه تماماً.. العين والفم والأذن.. إلخ فى الجسم الإنسانى الواحد.. بما يعنى أن (المصرية) هى البداية والنهاية لكل مصرى.. بينما التفريعات الداخلية تعبر عن رافد مكانى.. ورافد ثقافى يصب فى النهر الكبير وهو مصر.


ومن أهم سمات الهوية المصرية (الاعتدال الدينى).. وقد ظهر ذلك فى كل المراحل التاريخية للمصريين.. حتى عندما كانوا يعبدون الفرعون الإله.. وعندما جاءت الديانات السماوية.. كان المصريون دوماً الأكثر اعتدالاً وسماحة.. وربما الأصدق تديناً.. وخير دليل على ذلك ما فعله أقباط مصر.. عندما تعرضوا للاضطهاد والقهر على يد الرومان.. الذين يشاركونهم الديانة.. فلم يجدوا إلا سماحة الإسلام ليلجأوا إليها.. وجاء الفتح الإسلامى بكل السماحة والاعتدال.. ليتنفس أقباط مصر الصعداء.. ويمارسون عباداتهم وطقوسهم بكل الأمن والأمان.


وإذا دخلت الصراعات السياسية.. فى النقاشات حول الهوية.. سعى كل طرف إلى تغليب رأيه على رأى الآخرين.. وظهرت كل الاتهامات المشروعة وغير المشروعة.. بداية من التخوين وحتى التكفير.. مما يهدد بمحاولة تفتيت المجتمع (مسلم - مسيحى - إخوانى - سلفى - ليبرالى - يسارى - علمانى.. إلخ).. ومثل هذه التوصيفات فى الدول راسخة الديمقراطية.. لا تؤثر سلباً على البنية الأساسية لهوية هذه الدول، بينما الدول التى تعانى من حالة (الاستقطاب) الدينى أو السياسى.. فإن مثل هذه التوصيفات تصبح سرطاناً.. قد ينقل الصراع السياسى.. إلى مرحلة العنف والتقاتل بما يهدد كيان الدولة ذاته.. ولذلك فإن الحفاظ على قدسية (سبيكة الهوية المصرية).. والتى تعلن دوماً أن (الكل فى واحد) هو السبيل الوحيد لقوة وتقدم المصريين.. وقد ثبت بالدليل القاطع أن النجاح أمام كل الصعاب.. يكمن فى التمسك بأهداب تلك السبيكة.. وحتى لا يتحول هذا المقال إلى (طرح نظرى) سنحاول فيما يلى شرح كيفية نجاح قانون (الكل فى واحد) قانون الهوية المصرية.. فى تخطى واحدة من أهم التحديات التى واجهتنا فى تاريخنا المعاصر.. وهى استعادة طابا من براثن العدو الصهيونى.. فرغم أن هذه المنطقة لا تتعدى مساحتها 1090 متر.. أى أنها مساحة بسيطة جداً إذا قارناها بمساحة مصر (مليون كيلو متر).. أو حتى بمساحة شبه جزيرة سيناء (61.5 ألف كيلو متر).. إلا أن المصريين استطاعوا خوض معركة ضارية حتى استعادوها.. وقد بدأت هذه المعركة بتوقيع معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيونى فى مارس 1979.. تلك المعاهدة التى تنص فى بنودها على انسحاب الصهاينة إلى ما وراء الحدود الدولية.. وقبل الانسحاب النهائى من سيناء والمحدد له (25 إبريل 1982).. ذهبت الفرق الفنية المصرية لتقوم بدق أعمدة الحدود.. لتكتشف وجود مخالفات فى 13 علامة حدودية.. حاول الصهاينة إدخالها إلى داخل أراضى فلسطين التاريخية.. وفى مارس 1982 أعلن اللواء بحرى محسن حمدى وجود خلاف بين الجانبين على بعض النقاط الحدودية.. وخاصة النقطة 91.. ورغم ذلك وافقت مصر على استلام كل سيناء.. وتعليق الأمر بالنسبة لمنطقة طابا والاحتكام إلى بنود معاهدة السلام.. والتى تنص فى مادتها السابعة على (حل الخلافات بين الطرفين يتم عن طريق المفاوضات أو التوفيق أو التحكيم).. وتم الاتفاق مع الكيان الصهيونى على عدم تغيير أية معالم فى منطقة طابا حتى يتم حسم أم الخلاف حولها.. ولكنهم خالفوا هذا الاتفاق وافتتحوا فندق سونستا طابا فى 15 نوفمبر 1982.. ثم أنشأوا قرية سياحية.. وفى 13 مايو 1985 صدر قرار من مجلس الوزراء المصرى بتشكيل اللجنة القومية العليا للتعامل مع أزمة طابا.. وللحق والتاريخ فقد جاءت هذه اللجنة نموذجاً مبهراً ورائعاً فى التعبير عن الهوية المصرية.. ففيها المسيحى والمسلم.. وفيها المدنى والعسكرى والدبلوماسى والسياسى.. وفيها حزب الحكومة والحزب المعارض.. وفيها رموز ثورة يوليو.. ورموز ما قبل ثورة يوليو.. وهكذا.. فمن أعضاء هذه اللجنة. د. وحيد رأفت أحد القيادات الكبيرة فى حزب الوفد المعارض.. وفيها د. يونان لبيب رزق المؤرخ المصرى الكبير.. وفيها د. نبيل العربي، د. مفيد شهاب.. ومن أعضائها أيضا اللواء عبدالفتاح حسن مدير المساحة بالقوات المسلحة .. واللواء بحرى محسن حمدى.. وكانت اللجنة تعمل تحت إشراف وزير الخارجية د. عصمت عبدالمجيد.. واستطاع أعضاء هذه اللجنة الحصول على كل الوثائق والمستندات التى تثبت مصرية طابا.. وجاءت إحدى هذه الوثائق من إسماعيل شيرين وزير الحربية المصرى قبل ثورة يوليو.


وبعد مفاوضات عقيمة استمرت لأربع سنوات.. حاول الصهاينة خلالها التمسك بطابا التى تمثل شرفة صغيرة تطل على خليج العقبة.. وتمثل أهمية كبيرة لميناء إيلات الصهيونى.. ولكنهم فى النهاية وافقوا على (التحكيم).. وذلك فى 11 سبتمبر 1986.. وتم الاتفاق على اختيار هيئة تحكيم دولية تضم ثلاثة محكمين من السويد وفرنسا وسويسرا ومعهم محكم من مصر هو د. حامد سلطان.. ومحكمة من الكيان الصهيونى.. واستمر نظر القضية أمام هيئة التحكيم الدولية لمدة عامين كاملين.. قدمت مصر خلالهما المئات من الوثائق والخرائط والمستندات التى تثبت مصرية مصر.. ومن هذه الوثائق الرجوع إلى أزمة طابا الأولى 1906.. عندما حاول العثمانيون انتزاع طابا من الحدود المصرية.. ولكن مصر استطاعت إثبات مصرية طابا وعودتها إلى حضن الدولة المصرية.. وقد بذل المؤرخ نعوم شقير جهداً كبيراً خلال هذه القضية.. وأصدر بعد انتهائها بعشر سنوات كتابه العمدة (تاريخ شبه جزيرة سيناء القديم والحديث).


المهم أن هيئة التحكيم الدولية بعد أن راجعت كل الوثائق والمستندات أعلن رئيسها القاضى السويدى (جونار لاجرجرين) قرار الهيئة فى 29 سبتمبر 1988.. وذلك فى قاعة البرلمان السويسرى فى جنيف.. وجاء القرار بمصرية طابا.. وبأغلبية الأصوات.. أربعة ضد واحد.. أى كل أعضاء هيئة التحكيم الدولية ضد القاضية الصهيونية.. والغريب أن كل مسئولى الكيان الصهيونى أعلنوا بعد إعلان قرار المحكمة بأنهم كانوا على يقين منذ البداية بمصرية طابا.. ولكنهم راهنوا على أن اللجنة المصرية لن تستطيع الحصول على ما يثبت مصريتها.. ولكن اللجنة الرائعة التى تسلمت بروح الهوية المصرية استطاعت أن تحقق انتصاراً قانونياً مذهلاً.. لتظل الجغرافيا المصرية مثل (الهوية) ترفع لواء (الكل فى واحد).